عنوان الفتوى : الجمع بين عمارة الدنيا والآخرة
هل صحيح أن العلوم غير العلم الشرعية لن تفيدنا في شيء، و أنها مجرد هدر للوقت، حيث إنه علينا أن نهتم بكيفية إصلاح آخرتنا والتفقه في الدين، فإن بقي لنا وقت يمكن البحث في أمور الدنيا يعني لن يبقى وقت، لأن العلوم الشرعية بحر، ولن نسأل أمام الله عن إعمار الأرض لأنه لم يطالبنا بذلك، ولم يطالبنا بتطوير دنيانا بل الأخد منها فقط ما يحتاجه المسافر من زاد، و لن يسألنا عن من يعانون من المجاعة لأن رزقهم على الله: وفي السماء رزقكم و ما توعدون. وأنه لا ينبغي لنا أن نطور مستوانا المعيشي ولكن الزهد في الدنيا. تعليل لذلك أن الرسول عليه الصلاة و السلام والصحابة رضوان الله عليهم لم يهتموا بالدنيا و لم يبحثوا عن علومها، إنما هذا من فعل العجم. خلاصة: لماذا ندرس في المدارس والجامعات و نحن لا نعلم أي شيء عن ديننا فهو جد صعب التوفيق بين الاثنين.أفيدوني؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالجواب على هذا السؤال يتخلص في بيان عدة أمور:
الأول: أن العبادة التي خلقنا الله لأجلها هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فهي ميدان واسع وأفق رحب، تشمل الفرائض والأركان والنوافل والمعاملات والأخلاق، وتشمل كيان الإنسان كله، وجوارحه، وحواسه جميعها، فالمسلم يعبد الله تعالى في كل أوقاته وأحواله، فحياته كلها لله رب العالمين، كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. {الأنعام:162}. وقد سبق بيان ذلك في الفتويين: 19569، 4476 .
فبإمكان المسلم أن يحول حياته كلها إلى أجر وثواب وطاعة وعبودية لله تعالى؛ باستصحاب النية الصالحة في أعماله العادية، وقد سبق بيان ذلك في الفتويين: 24782، 58107 .
وطالب العلوم المدنية-الدنيوية- إن احتسب الأجر ونوى نفع نفسه ونفع أمته وتقويتها وكفايتها ما تحتاجه في مجال دراسته، فهو مأجور عليها، وينبغي أن يوازن بين دراسته وتعلمه هذا وبين عبادته وعمارته لآخرته، كما سبق التنبيه عليه في الفتوى رقم: 40889. وهذا كما قال معاذ رضي الله عنه: أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. متفق عليه.
قال النووي:
مَعْنَاهُ: أَنِّي أَنَام بِنِيَّةِ الْقُوَّة وَإِجْمَاع النَّفْس لِلْعِبَادَةِ وَتَنْشِيطهَا لِلطَّاعَةِ , فَأَرْجُو فِي ذَلِكَ الْأَجْر كَمَا أَرْجُو فِي قَوْمَتِي , أَيْ : صَلَوَاتِي. اهـ.
وقال ابن حجر:
حَاصِله أَنَّهُ يَرْجُو الْأَجْر فِي تَرْوِيح نَفْسه بِالنَّوْمِ لِيَكُونَ أَنْشَطَ عِنْد الْقِيَام. وَفِي الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد .. أَنَّ الْمُبَاحَات يُؤْجَر عَلَيْهَا بِالنِّيَّةِ إِذَا صَارَتْ وَسَائِلَ لِلْمَقَاصِدِ الْوَاجِبَة أَوْ الْمَنْدُوبَة أَوْ تَكْمِيلًا لِشَيْءٍ مِنْهُمَا. اهـ.
والأمر الثاني: أن هناك حقوقا على العبد كثيرة، منها ما هو لله، ومنها ما هو لنفسه، ومنه ما هو للناس، والمسلم الموفق هو الذي يؤدي إلى كل ذي حق حقه، كما جاءت السنة النبوية: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. رواه البخاري.
فينبغي أن يوازن العبد بين أعماله في أمر دينه ودنياه، بتحصيل ما ينفعه في معاشه ومعاده؛ فإن ديننا دين الوسطية، فلا رهبانية فيه كرهبانية النصارى، ولا مادية كمادية اليهود، إنما نأخذ من دنيانا لآخرتنا، ولا غنى لمسلم عن واحدة منهما.
قال الله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. {القصص: 77}.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي. رواه مسلم.
وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم من قدر نفع الخلق وإعانتهم وقضاء حوائجهم حتى فضل ذلك على الاعتكاف الذي هو تخلٍ وتفرغ كامل للعبادة، فقال صلى الله عليه وسلم: أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد- يعني مسجد المدينة- شهرا. ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام. رواه الطبراني، وحسنه الألباني.
و (ما) الموصولة في قوله تعالى: مَا اسْتَطَعْتُمْ. تفيد العموم، وقوله: مِنْ قُوَّةٍ. جاء منكراً، ليشمل كل ما يتقوى به في الحرب كائنا ما كان، ولا ريب أن هذه العلوم هي من أهم ما تحصل به هذه القوة في هذا العصر. وراجع في الفتويين: 111873 ، 29268.
الأمر الرابع: أن هذه العلوم التي يُحتاج إليها في قوام أمر الدنيا كالطب والحساب، والصنائع التي هي سبب قيام مصالح الدنيا كالخياطة والفلاحة ونحوهما، هي في الحقيقة من فروض الكفايات، وقد سبق التنبيه على ذلك في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 52486 ، 58231 ، 12465 ، 63622 ، 65459.
فيجب على أمة الإسلام أن يكون فيها من يجيد هذه الدراسات ويحسن هذه التخصصات بالقدر الذي يكفيها، لأنها إذا تركت بالكلية ستضيع المجتمعات ويتعطل القيام ببعض الطاعات، ويحتاج المسلمون إلى غيرهم.
ومع ذلك فتعلم هذه العلوم لا يبيح للمرء أن ينصرف عن تعلم دينه، بل الواجب عليه أن يصحح عقيدته، ويتعلم أحكام عبادته، ولا يمارس أي عمل إلا بعد معرفة حكم الله فيه. فإذا تعلم المرء فرض عينه فلا حرج عليه بعد ذلك أن يتعلم من الأمور الشرعية أو الدنيوية ما يسد به ثغرة من ثغرات المجتمع، وهو مأجور على علمه وسعيه سواء أكان في أمور الدين أو في أمور الدنيا إذا أخلص النية لله وقصد بذلك وجهه، وقد سبق بيان ذلك في الفتويين: 72130، 49739.
والله أعلم.