عنوان الفتوى : مذاهب العلماء في رجوع الخاطب بما أهداه لمخطوبته
خطبت بنت خالتي وأحضرت لها هدايا غالية الثمن، وبعد ستة أشهر سافرت وفسخت الخطبة، وقال والدها إنه سيرد لي الأشياء عندما أرجع من السفر، وعدت بعد عامين ولكنه لم يرد لي أي شيء، والآن مر أكثر من خمسة عشر عاما وأنا غير مسامح في ذهبي، فهل أطالب به؟ وهل هو من حقي وهي تزوجت وأنجبت أولادا، وأنا كذلك، ولكن أخاف أن يكونوا حجة علي يوم القيامة إن لم أطالب به، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وحتى لو لم آخذه، المهم أني قد طالبت به حتى لا أسأل أمام الله لماذا لم تطالب به؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالهدايا التي يهديها الخاطب لمخطوبته إذا لم تكن من المهر اتفاقاً أو عرفاً فهي هبة من الخاطب، وقد اختلف العلماء في جواز استرجاعها عند فسخ الخطبة، فمذهب الحنفية أن الخاطب يسترد ما كان باقياً دون ما هلك أو استهلك، قال ابن عابدين الحنفي: وكذا يسترد ما بعث هدية وهو قائم دون الهالك والمستهلك، لأنه في معنى الهبة. حاشية ابن عابدين.
وعند المالكية قولان، قول بعدم جواز الرجوع، وقول بالتفصيل، فإن كان الفسخ من جهته فليس له الرجوع، وإن كان الفسخ من جهتها فله الرجوع، جاء في حاشية الصاوي على الشرح الصغير: وكذا لو أهدى أو أنفق لمخطوبة غير معتدة، ثم رجعت عنه -ليس له الرجوع- ولو كان الرجوع من جهتها إلا لعرف أو شرط وقيل: إن كان الرجوع من جهتها فله الرجوع عليها، لأنه في نظير شيء لم يتم. انتهى.
ومذهب الشافعية أن له الرجوع، قال القليوبي في حاشيته: فرع: دفع الخاطب بنفسه، أو وكيله، أو وليه، شيئاً من مأكول، أو مشروب، أو نقد، أو ملبوس لمخطوبته ،أو وليها، ثم حصل إعراض من الجانبين أو من أحدهما، أو موت لهما أو لأحدهما، رجع الدافع أو وراثه بجميع ما دفعه إن كان قبل العقد مطلقاً. حاشية قليوبي.
وعند الحنابلة يرجع إذا كان الفسخ من جهتها ولا يرجع إذا كان الفسخ من جهته، قال ابن ضويان في منار السبيل: فما قبل العقد إن وعدوه ولم يفوا رجع بها. قاله الشيخ تقي الدين. فإن كان الإعراض منه أو ماتت فلا رجوع له. منار السبيل.
وحكى صاحب الإنصاف قولاً آخر في المذهب بالرجوع مطلقاً، قال: وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله أيضاً: ما قبض بسبب النكاح فكمهر. قال في القاعدة الخمسين بعد المائة: حكى الأثرم عن الإمام أحمد -رحمه الله- في المولى يتزوج العربية يفرق بينهما، فإن كان دفع إليها بعض المهر ولم يدخل بها يردوه ، وإن كان أهدى هدية يردونها عليه. قال القاضي في الجامع: لأن في هذه الحال يدل على أنه وهب بشرط بقاء العقد فإذا زال ملك الرجوع كالهبة بشرط الثواب. انتهى من الإنصاف.
والراجح أن الخاطب يرجع بما أهداه لمخطوبته سواء كان الرجوع عن الخطبة من جهته أو جهتها، لأن هبة الخاطب أشبه بهبة الثواب فإن دلالة الحال أنه يهب بشرط إتمام الزواج، وقال ابن تيمية معلقاً على قول الإمام أحمد الذي حكاه الأثرم: وهذا المنصوص جار على أصول المذهب الموافق لأصول الشريعة، وهو أن كل من أهدي له شيء أو وهب له شيء بسبب يثبت بثبوته ويزول بزواله. المستدرك على مجموع الفتاوى.
وعلى ذلك، فمن حقك استرجاع ما أهديته لها، لكن الأولى والأفضل ترك ذلك فإنه يكون من مكارم الأخلاق ومن الإحسان الذي يحبه الله، قال تعالى: ... وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. {البقرة:237}.
وأما قولك إنك تخشى من عدم المطالبة لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، فليس الأمر كما تظن، وإنما هذه العبارة ذكرها بعض العلماء في من يسكت عن بيان الحق إذا انتهكت حرمات الله، وانظر لذلك الفتوى رقم: 58360.
وأما سكوت الإنسان عن مطالبته بحقه فليس من هذا الباب، بل قد يكون قربه وعملاً صالحاً يحبه الله ويثيب عليه بالأجر العظيم، إذا كان ابتغاء مرضاة الله، قال تعالى: فمن عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. {الشورى:40}.
والله أعلم.