عنوان الفتوى : حكم هبة ثواب الأعمال للأقرباء وغيرهم
خلال الفترة الماضية توفي عدة أناس أعرفهم .. منهم القريب ومنهم من لا يمت بصلة قرابة لي .. مثل خالي وإمام مسجد الحي الذي أسكنه وزميلي في العمل .. وأيضا أجدادي لأبي ولأمي، اعتدت على التصدق بمبالغ مالية عنهم، أو بالتبرع بمبالغ مالية لصالح مشاريع إسلامية (كطباعة المصاحف) أو التبرع لإنشاء وقف (كحفر الآبار) أو التبرع لهم بأجر ركعتين .. وذلك لكل متوفى على حدة ..
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد رجحنا في فتاوى كثيرة أن من عمل عملاً ووهب ثوابه للميت وصله ذلك الثواب، أياً ما كان هذا العمل. وانظر الفتاوى ذات الأرقام التالية: ،3500،2288،77143.
كما أن واهب الثواب للميت فإنه ينتفع من جهة أخرى ، وهي جهة البر والإحسان إلى الميت ، فيرجى حصول الثواب له من هذا الوجه إن شاء الله ، وأما نفس ثواب العبادة فإنه لمن وُهب له ، وانظر الفتوى رقم: 39462.
واعلم أن العلماء اتفقوا على أن الدعاء للأموات وهبة ثواب العبادات المالية لهم كالصدقة ينفعهم، ولم يفرق أحد منهم فيما نعلم بين الولد وغيره ، واختلفوا فيما عدا ذلك كالعبادات البدنية.
وقد ثبت في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص حين أراد أن ينحر نذراً نذره أبوه العاص بن وائل : لو كان أبوك أقر بالتوحيد فصمت عنه وتصدقت نفعه ذلك.
فجعل المانع من انتفاعه بما يوهب له الكفر فحسب ، ونبه بالصوم على وصول ثواب العبادات البدنية، وبالصدقة على وصول ثواب العبادات المالية ، كما أشبع القول في هذه المسألة ابن القيم في كتاب الروح .
وقد ذهب بعض المعاصرين من العلماء إلى أن الميت لا ينتفع إلا بما يهبه له ولده من الأعمال مُحتجاً بأن الأصل أن الإنسان لا ينتفع بسعي غيره ، ولا يُخص من ذلك إلا ما خصه الدليل ، وقد أذن الشارع للولد بأن يهب ثواب طاعته لوالده ، ولم يأذن لغيره فلا يُقاس غيره عليه ، وأيد ذلك بأن ولد الرجل من كسبه ، وجواباَ على هذا القول نقول : إننا لا نعلم أحدامن الأئمة والعلماء المتقدمين فصل هذا التفصيل ، بل نقل غير واحد من العلماء كالنووي وشيخ الإسلام ابن تيمية الإجماع على أن الميت ينتفع بثواب العبادات المالية ، كالصدقة وأثبتوا الخلاف فيما عداها ، والراجح كما عرفناك انتفاعه بها ، وسنذكر بعض الأدلة على ذلك إن شاء الله .
وأجاب العلامة العثيمين رحمه الله عن هذه الشبهة المتقدمة ، وهي أن الأحاديث إنما فيها ذكر انتفاع الولد بما يهبه له ولده فقال عليه الرحمة:
"فإن قيل: هذا من عمل الولد لوالده، وعمل الولد من عمل الوالد، كما في الحديث السابق: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ، حيث جعل دعاء الولد لوالده من عمل الوالد، فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعلل جواز حج الولد عن والده، بكونه ولده، ولا أومأ إلى ذلك، بل في الحديث ما يبطل التعليل به؛ لأن النبى -صلى الله عليه وسلم- شبهه بقضاء الدين الجائز من الولد وغيره، فجعل ذلك هو العلة، أعني كونه قضاء شيء واجب عن الميت.
الثاني: أنه قد جاء عن النبى -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على جواز الحج عن الغير، حتى من غير الولد، فعن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبى -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة. قال: {من شبرمة}؟، قال: أخ لي، أو قريب لي. قال: {حججت عن نفسك}؟ قال: لا. قال: {حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة}
قال في البلوغ: رواه أبو داود وابن ماجة. وقال في الفروع: إسناده جيد، احتج به أحمد في رواية صالح، لكنه رجح في كلام آخر أنه موقوف. فإن صح المرفوع فذاك، وإلا، فهو قول صحابي لم يظهر له مخالف، فهو حجة ودليل على أن هذا العمل كان من المعلوم جوازه عندهم.
ثم إنه قد ثبت حديث عائشة في الصيام: من مات وعليه صيام صام عنه وليه . والولي هو الوارث سواء كان ولدا أم غير ولد، وإذا جاز ذلك في الصيام مع كونه عبادة محضة، فجوازه بالحج المشوب بالمال أولى وأحرى. انتهى.
وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية أدلة هذه المسألة وبين موضع الإجماع والخلاف ، ورجح ما رجحناه في مواضع كثيرة من كلامه ، ونحن نسوقُ من كلامه ما يتبين به المقصود ، وتحصل به الفائدة إن شاء الله ، قال رحمه الله:
" والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة، مثل ما في الصحاح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما : أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي توفيت، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: (نعم) قال: إن لي مخرفا أي بستاناً أشهدكم أني تصدقت به عنها. وفي الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها : أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها، ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال: (نعم). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات ولم يوص، أينفعه إن تصدقت عنه ؟ قال: (نعم).
وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص: إن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن يذبح مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين، وأن عمراً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: (أما أبوك فلو أقر بالتوحيد فصمت عنه، أو تصدقت عنه، نفعه ذلك).
وفي سنن الدارقطني: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول اللّه، إن لي أبوين، وكنت أبرهما حال حياتهما. فكيف بالبر بعد موتهما؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من البر أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك، وأن تصدق لهما مع صدقتك).
وقد ذكر مسلم في أول كتابه عن أبي إسحاق الطالقاني، قال: قلت لعبد الله بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن، الحديث الذي جاء: (إن البر بعد البر، أن تصلي لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك؟) قال عبد الله: يا أبا إسحاق، عمن هذا؟ قلت له: هذا من حديث شهاب بن حراس، قال: ثقة. قلت: عمن؟ قال عن الحجاج بن دينار. فقال: ثقة. عمن؟ قلت: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا إسحاق، إن بين الحجاج وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاوز تقطع فيها أعناق المطي، ولكن ليس في الصدقة اختلاف. والأمر كما ذكره عبد الله ابن المبارك. فإن هذا الحديث مرسل.
والأئمة اتفقوا على أن الصدقة تصل إلى الميت، وكذلك العبادات المالية، كالعتق.
وإنما تنازعوا في العبادات البدنية، كالصلاة، والصيام، والقراءة، ومع هذا ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام، صام عنه وليه)، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه : أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت، وعليها صيام نذر. قال: (أرأيت إن كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها؟) قالت: نعم، قال: (فصومي عن أمك).
وفي الصحيح عنه: أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أختي ماتت، وعليها صوم شهرين متتابعين، قال: أرأيت لو كان على أختك دين أكنت تقضيه؟ قالت: نعم.قال: (فحق الله أحق). وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن بريدة بن حصيب عن أبيه: أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت، وعليها صوم شهر، أفيجزي عنها أن أصوم عنها؟ قال: (نعم).
فهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في أنه يصام عن الميت ما نذر، وأنه شبه ذلك بقضاء الدين.
والأئمة تنازعوا في ذلك، ولم يخالف هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة من بلغته، وإنما خالفها من لم تبلغه، وقد تقدم حديث عمرو بأنهم إذا صاموا عن المسلم نفعه. وأما الحج فيجزي عند عامتهم، ليس فيه إلا اختلاف شاذ.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال: (حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته عنها؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء) وفي رواية للبخاري: إن أختي نذرت أن تحج. وفي صحيح مسلم عن بريدة: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت، ولم تحج، أفيجزي أو يقضي أن أحج عنها؟ قال: (نعم).
ففي هذه الأحاديث الصحيحة: أنه أمر بحج الفرض عن الميت وبحج النذر. كما أمر بالصيام. وأن المأمور تارة يكون ولدًا، وتارة يكون أخًا، وشبه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالدين، يكون على الميت. والدين يصح قضاؤه من كل أحد، فدل على أنه يجوز أن يفعل ذلك من كل أحد، لا يختص ذلك بالولد. كما جاء مصرحًا به في الأخ.
فهذا الذي ثبت بالكتاب والسنة والإجماع علم مفصل مبين. فعلم أن ذلك لا ينافي قوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]" انتهى.
والله أعلم.