عنوان الفتوى : هل ثمة تعارض بين خلق الجان من نار وبين قوله تعالى ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) ؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

في سؤال يثيره بعض المسيحيين في المنتديات ، وهو الآية القرآنية ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ) الأنبياء/30 ، والآية الأخرى ( وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ) الرحمن/15 ، فهل هذا تناقض ؟

مدة قراءة الإجابة : 11 دقائق


الحمد لِلَّه
أولا :
أخبرنا الله في كتابه الكريم عن أصل خلق الجن ، فقال تعالى : ( وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ) الحجر/27 ، وقال تعالى : ( وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ) الرحمن/15
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ ) رواه مسلم (2996)
انظر جواب السؤال رقم (2340) ، (6485) ، (13378)
ثانيا :
يقول سبحانه وتعالى : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ) الأنبياء/30 .
ولفهم معنى الآية الكريمة فهما صحيحا ، وللوقوف على ما تقتضيه اللغة العربية في ذلك ، لا بد من بيان بعض الأمور :
1- التأمل في سياق الآيات من ضرورات الفهم الصحيح ، ويبدو للقارئ أن سياق هذه الآية في معرض إفحام المشركين بالحجج والبراهين ، والرد على بعض ما يعتقدونه من الباطل .
يقول ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (3/238) :
" يقول تعالى منبها على قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء وقهره لجميع المخلوقات فقال : ( أولم ير الذين كفروا ) أي : الجاحدون لإلهيته ، العابدون معه غيره ، ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق ، المستبد بالتدبير ، فكيف يليق أن يعبد معه غيره ، أو يشرك به ما سواه ، ألم يروا ( أن السموات والأرض كانتا رتقا ) أي : كان الجميع متصلا بعضه ببعض ، متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر ، ففتق هذه من هذه ، فجعل السموات سبعا ، والأرض سبعا ، وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء ، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض ، ولهذا قال : ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ) أي : وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئا فشيئا عيانا ، وذلك كله دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء " انتهى .

إذا فمناسبة سياق المحاججة تقتضي الاستشهاد بآيات ظاهرة يشاهدها المخاطبون ويعايشونها ، فكان قوله تعالى : ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) منطلقا من واقعهم الذي يرونه : من حاجتهم وحاجة جميع الحيوانات إلى الماء ، أو من تخلقهم وتخلق الحيوانات من ماء التناسل . وليس في هذا السياق تعرض ـ أصلا ـ لعالم الغيب من الملائكة أو الجن أو غيرهم من خلق الله ؛ لأن المحاججة إنما تكون بعالم الشهادة ، حتى تكون الحجة أقوى وأبين ، وأما عالم الغيب فقد لا يؤمن به المخاطب ، فضلا عن أن يعرف كيفية خلقه وما هي مكوناته ، وعلى هذا يكون الجن والملائكة لم يدخلوا في سياق العموم ابتداء .

2- صيغ العموم في اللغة العربية ليست دائما على إطلاق عمومها ، فقد تكون مخصوصة ، بل قال أهل العلم : إن أكثر عمومات القرآن مخصوصة .
وقد جاءت صيغة العموم ( كل ) في بعض الآيات ، ولم تدل على العموم المطلق ، وذلك في قوله تعالى عن الريح التي أرسلها لإهلاك قوم عاد : ( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) الأحقاف/25 ، وقوله تعالى عن ملكة سبأ : ( إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ) النمل/23 ، ومن المعلوم أن الريح لم تدمر السماء ولا حتى المساكن ، وأن ملكة سبأ لم تؤت ما أوتيه النبي سليمان عليه السلام .

وعلى هذا ينبغي فهم صيغ العموم في القرآن ، لأنه نزل بلسان عربي مبين ، والعرب تطلق صيغ العموم كثيرا ، وهي تعلم أن ثمة بعض المخصوصات .
فكذلك قوله تعالى : ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) ينبغي تخصيصه بالملائكة ، فإنها قد خلقت من نور ، ولا تحتاج إلى الماء ، ويبقى الجن أيضا في دائرة احتمال التخصيص .
وبهذا يظهر التوافق وعدم التناقض بين الآيات .
يقول الألوسي في "روح المعاني" (7/36) : " ولا بد من تخصيص العام ، لأن الملائكة عليهم السلام وكذا الجن أحياء ، وليسوا مخلوقين من الماء " انتهى .
وانظر "البحر المحيط" لأبي حيان (8/327) .

ويقول الرازي في تفسيره (11/13) : " لقائل أن يقول : كيف قال : وخلقنا من الماء كل حيوان ، وقد قال : ( والجآن خلقناه مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم ) الحجر/27 ، وجاء في الأخبار أن الله تعالى خلق الملائكة من النور ، وقال تعالى في حق عيسى عليه السلام : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى ) المائدة/110 ، وقال في حق آدم : ( خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ) آل عمران/59 .
والجواب : اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة المخصِّصَة قائمة ، فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود ، وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى عليهم السلام ؛ لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك " انتهى .
ونقله الشنقيطي في "أضواء البيان" (4/215) .

3- وخلق الجن من النار هو في أصل خلق الله سبحانه وتعالى لهم ، ثم كان تكاثرهم عن طريق التناسل ، تماما كما أن الله خلق الإنسان بداية من الطين ، ثم بدأ بالتناسل والتكاثر ، ولما لم نكن نعرف شيئا عن كيفية تناسل الجن ، يبقى احتمال تناسلهم بماء التناسل قائما ، ومن ينفي الاحتمال يحتاج إلى دليل حسي أو عقلي أو شرعي ، وقد لا يوجد ، وقد فسر بعض أهل العلم : ومنهم أبو العالية من السلف ، الماءَ الوارد في قوله سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) بماء النطفة التي جعلها الله طريق التناسل في جميع الحيوانات ، فقد يكون الجن يتناسلون بالنطف أيضا .
يقول الشنقيطي في "أضواء البيان" (4/216-217) :
" قوله تعالى : ( وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ )
الظاهر أن ( جَعل ) هنا بمعنى خَلَق ؛ لأنها متعدية لمفعول واحد ؛ ويدل لذلك قوله تعالى في سورة النور : ( والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ ) النور/45
واختلف العلماء في معنى : " خلق كل شيء من الماء " :
قال بعض العلماء : الماء الذي خلق منه كل شيء هو النطفة ؛ لأن الله خلق جميع الحيوانات التي تولد عن طريق التناسل من النطف ، وعلى هذا فهو من العام المخصوص.
وقال بعض العلماء : هو الماء المعروف ؛ لأن الحيوانات إما مخلوقة منه مباشرة ، كبعض الحيوانات التي تتخلق من الماء ، وإما غير مباشرة ؛ لأن النطف من الأغذية ، والأغذية كلَّها ناشئة عن الماء ، وذلك في الحبوب والثمار ونحوها ظاهر ، وكذلك هو في اللحوم والألبان والأسماك ونحوها : لأنه كله ناشئ بسبب الماء .
وقال بعض أهل العلم : معنى خَلْقه كل حيوان من ماء : أنه كأنما خلقه من الماء لفرط احتياجه إليه ، وقلة صبره عنه ، كقوله : ( خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ ) " انتهى .
وانظر "زاد المسير" (5/348) ، "تفسير القرطبي" (11/248) ، "الدر المنثور" (5/626) .

ثالثا :
يظهر جليا لمن يهتم بالجواب عن الشبه التي يطلقها بعض النصارى أنَّ هؤلاء المنشغلين باستخراج هذه الشبه بعيدون كل البعد عن فهم اللغة العربية ، بل قد يكونون من الأعاجم الذين لم يدرسوا العربية ، وإنما يريدون العبث ومحاولة الطعن في هذا القرآن العظيم .
وكل عاقل يدرك أن لا محل لأي تناقض في كتاب الله تعالى ، ليس ذلك فقط لأن الله سبحانه وتعالى قال فيه : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) النساء/82 ، بل لأن العرب أصحاب اللسان العربي العالي ، البالغ في الفصاحة والبلاغة القمة العالية ، والذي تحداهم القرآن في آيات عديدة أن يجاروا أسلوب القرآن الرفيع ، فلم يستطيعوا إليه سبيلا ، لم يَدُر في خلدهم مثل هذه الدعاوى المتنطَّعة في تناقض القرآن ، ولم يخطر لهم مثل هذه الشبه مع شدة تحريهم عن كل مطعن في القرآن .
ويدلك ذلك على الجهل الذي يخيم في أذهان أصحاب الشبه هؤلاء ، وهم لا يشعرون أنهم بشبهاتهم هذه إنما يكشفون عن جهلهم وقلة معرفتهم .
والله أعلم .