عنوان الفتوى : شبهات وجوابها حول طلاق الثلاث
وكأين من قرية عتت عن أمر ربها و رسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا. هذا وعيد من الله بالعذاب لمن عتى عن أمره و رسله، ذكره سبحانه بعد أن بين أحكام الطلاق فيكون التهديد واقعا على من خالف قوله في مسألة الطلاق: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. رب العالمين يقول هذا ثم يأتي من يجعل القرآن لعبة و هزوا و يقول: من قال لامرأته: طالق ثلاثا بانت منه، ألا يخشى من وعيد الله وحسابه؟ الطلاق مرتان، ليس لفظتان و لا اثنان. و عند العرب على نقيض العجم تفهم مرتان على اشتراط التفرق بينهما زمانا. و قد ذكر الله حرف العطف ف بعد السكتة الفاصلة لتوضيح التباين الزمني بين الطلقات، ومثال على ذلك قوله تعالى:وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين و لتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا.. الآية . فلتشرحوا لي يا عباد الله معنى مرتين في هذه الآية، و بينوا لي إن كان الأمر متوقفا على نية بني إسرائيل في الإفساد مرة أواثنتين، فإن كانت مرة تفرقتا، وإن كانت نيتهم اثنتين وقعتا في وقت واحد، تعالى الله عن الهزو واللعب. فهذا الكلام لا يليق ببشر فيكف برب العالمين الحكيم المبين؟ كيف يستهين من أمضى عمره في طلب العلم بتحريم ما أحل الله، ويحرم زوجا من زوجه وهو أحق بردها؟ يقول المفتي: لو تتبعنا الرخص كقولنا لا يقع طلاق الغضبان لما وقع طلاق قط. و أنا أقول: ليس هناك من رجل يطلق امرأته و هو ينوي إرجاعها إلا إذا كان يلعب، فهل نلغي نحن البشر رخصة الله بإعطاء الزوجين فرصة الرجوع لبعضهما، وتصحيح ما قاما به في ساعة غضب شيطاني؟ الله رخص للرجل في إرجاع زوجه مرتين، فإن كرر الطلاق فهو إما رجل يلعب، أو لم يوفق إلي زوجة ترضيه فتحرم عليه زوجته حتى تنكح زوجا غيره ثم يطلقها الزوج الآخر، و أنت تقول الأمر مبني على نيته فان نوى مرة كانت مرة وإن نوى اثنين كانت اثنين و ان نوى ثلاثا كانت ثلاثا!! و إن نوى مائة طلقة يا شيخ فما العمل؟ هل تقع ثلاثا والباقي على الحساب؟ استغفروا ربكم و ارجعوا إلى الحق- بارك الله فيكم- و لا تكونوا سببا في خراب البيوت، ومانعا من رخص الله التي رخصها لعبادة.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فليعلم أولاً أن هذه المسألة –مسألة وقوع الطلاق ثلاثاً- بكلمة واحدة أو في مجلس واحد من المسائل التي اختلف أهل العلم فيها قديماً وحديثاً، ونحن في هذا الموقع من منهجنا في الفتوى اعتماد ما ذهب إليه الجمهور من أهل العلم، كما هو الحال في هذه المسألة مع عدم إهمالنا للمخالف، ولا سيما إذا كان أحد الأئمة المحققين... فلا ندري السبب الحامل للسائل على الإنكار الشنيع لما ذهبنا إليه واعتمدناه في هذه المسألة فهل هو ينكر الخلاف فيها، أم لم يطلع عليه، أم أنه يرى أنما ذهبنا إليه فيها –أسوة بالأئمة الأربعة وأتباعهم- يخالف نصاً صريحاً في كتاب الله تعالى أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو فيه خروج عن إجماع الأمة؟.. وإلا فما الداعي للإنكار.
ولا نخفي السائل استغرابنا النبرة الحادة والعتاب الفج الذين تضمنتها عبارته غير أن عزاءنا في ذلك أن الموضوع لا يخصنا وحدنا بل هو موجه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ومن كان بحضرته إذ ذاك من الصحابة وإلى من اهتدى بهديه واستن بسنته من سلف هذه الأمة بمن في ذلك الأئمة الأربعة وأتباعهم.
ثم إننا ننبهه إلى أنه لا يجوز الإقدام على تفسير القرآن الكريم بالرأي المجرد من غير بصيرة بلسان العرب وأساليب كلامهم، ومعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وكلام السلف والخلف.
قال السيوطي رحمه الله تعالى: أجمعوا على حظر تفسير القرآن بالرأي من غير لغة ولا نقل. انتهـى.
وروى الترمذي- رحمه الله- في جامعه من حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ. وضعفه جماعة من أئمة الحديث ،ولكن معناه صحيح.
فلا يجوز القول في القرآن بالرأي المجرد الذي يعتمد على الحدس والتخمين، فهذا تعد على كتاب الله تعالى لا يجوز ولو صادف الصواب، لأنه أخطأ الطريق في الوصول إلى هذا الصواب.
وقد كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يقول: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.
وقد استدل العلماء على ذلك بقوله سبحانه: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. وبما رواه أبوداود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال في القرآن برأيه وبما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار. وقوله: من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ. رواه أبو داود والنسائي.
فإن أشكل شيء من تفسيره فليرجع المرء إلى أولي العلم، وليطالع كتب التفسير وما ذكر فيما أشكل عليه ليتبين الصواب.
وأما ما ذكرته في قوله تعالى: الطلاق مرتان ، وأن ذكر المرة يقتضي التفاوت في الزمن فهو صحيح، لكن ما المقصود به في الآية؟
قال ابن الجوزي في زاد المسير: في قوله تعالى الطلاق مرتان قولان:
أحدهما: أنه بيان لسنة الطلاق، وأن يوقع في كل قرء طلقة قاله ابن عباس و مجاهد
والثاني: أنه بيان للطلاق الذي يملك معه الرجعة، قاله: عروة، وقتادة، وابن قتيبة، والزجاج. انتهى
وقال أبو السعود: والمعنى أن التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع بين الطلقتين أو الثلاث فإن ذلك بدعة عندنا.
وقال القرطبي في تفسيره: ترجم البخاري على هذه الآية : باب من أجاز طلاق الثلاث بقوله تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وهذا إشارة منه إلى أن هذا التعديد إنما هو فسحة لهم فمن ضيق على نفسه لزمه، قال علماؤنا: واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع طلاق الثلاث في كلمة واحدة وهو قول جمهور السلف، وشذ طاوس وبعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحد يقع واحدة.
وبناء عليه فمن قال لزوجته أنت طالق ألف طلاق أو مائة طلاق وهو ينوي ثلاثاً أو لاينوي، وقعت ثلاث طلقات، وبانت منه زوجته عند جماهير أهل العلم، لأنه قيد الطلاق الصريح بعدد صريح، فيعامل بذلك العدد، وتقع منه ثلاث طلقات، لأن هذا هو الذي يملكه من الطلاق، وباقي الطلقات عدوان واستهزاء بآيات الله.
وقد روى الدارمي بسند صحيح عن علقمة قال: إنه جاء رجل إلى عبد الله فقال: إنه طلق امرأته البارحة ثمانياً بكلام واحد، قال: فيريدون أن يبينوا منك امرأتك، قال: نعم، قال: وجاءه رجل فقال إنه طلق امرأته مائة طلقة، قال: بكلام واحد، قال: فيريدون أن يبينوا منك امرأتك، قال: نعم، فقال عبد الله: من طلق كما أمره الله فقد بين الله الطلاق، ومن لبس على نفسه، وكلنا به لبسه، والله لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله نحن، هو كما تقولون.
وفي مصنف عبد الرزاق وغيره عن علقمة قال: جاء ابن مسعود رجل فقال: إني طلقت امرأتي تسعاً وتسعين، وإني سألت فقيل لي: قد بانت مني، فقال ابن مسعود: لقد أحبوا أن يفرقوا بينك وبينها، قال: فما تقول رحمك الله؟ فظن أنه سيرخص له، فقال: ثلاث تبينها منك، وسائرهن عدوان.
فهذه الآثار تدل على أنه لا اعتبار للنية في عدد الطلقات إذا صرح المطلق بالعدد، لأن عبد الله بن مسعود لم يستفصل من السائل هل نوى ثلاثاً أم لا؟
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الطلاق يقع في هذه الصورة طلقة واحدة -نوى ثلاثاً أو لم ينو- واستدلوا بما رواه مسلم عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: الناس قد استعجلوا من أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم.
ووجه الدلالة من الحديث: أن الطلاق المجموع بكلمة واحدة لا يقع به إلا طلقة واحدة، وراجع الفتوى رقم: 5584
و على كل فإن إيقاع الثلاث بلفظ واحد أوأكثر هو من التلاعب بالأحكام الشرعية، وقد قال تعالى: ولا تتخذوا آيات الله هزواً، وقد أخرج النسائي عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟ صححه الألباني في غاية المرام.
فإذا كان الذي يطلق ثلاثاً جميعاً يلعب بكتاب الله، فكيف بالذي يطلق ألفاً أو مائة؟
ولاتنافي بين احتساب الثلاث عليه وبين تقحمه للإثم ووقوعه فيه، ولذلك ألزمه جمهور أهل العلم بالثلاث حتى ادعى بعضهم الإجماع على ذلك وأنه لم يشذ عنه إلا من لايعتد بخلافه.
وأما طلاق الغضبان فقد اختلف فيه، وغايته ما فصله ابن القيم أن له ثلاثة أحوال:
حال لايقع فيها الطلاق وهو:ما إذا غلب على عقله وفقد إدراكه لفقده آلة التكليف.
وحال يقع فيها إجماعا وهو: من كانت عنده مبادئ الغضب فقط.
وحال اختلف فيها وهي: ما بين تلك الحالتين.
وما يذكر من أن الطلاق لايقع غالبا إلا في حالة الغضب والشقاق بين الزوجين صحيح، إذ لا يعمد الإنسان في الغالب إلى تطليق زوجته إلا إذا كان مغضبا منها، ولايطلقها وهو معجب بها على رضى منها .
ومن استعجل في أمر الطلاق ولعب بعصمة زوجته فجعلها على لسانه في الجد والهزل كان حريا أن تطلق منه، وتحرم عليه وهو المفرط فيها، ولذا جعل الله الطلاق ثلاثا تحل مراجعة الزوجة بعد الأولى والثانية ليراجع كل من الزوجين نفسه إن كان قد أخطأ ويتجنب خطأه، فإن وقع الطلاق الثالث فلارجعة تأديبا لهما .
وقد قال صلى الله عليه وسلم ثلاث جدهن جد وهزلهـن جد: الطلاق، والعتاق، والرجعة. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
فليس الطلاق إذن بمحل للهزل والتلاعب ومن أوقعه وقع عليه، ولايمكن لأحد أن يلغي الرخصة التي جعل الله لعباده في الرجعة بعد الطلقة الأولى أو الثانية، لكن من اتخذ آيات الله هزوا وأوقع الثلاث دفعة فإنه قد استعجل ما يملك من طلاق وخالف السنة فيه فوقع عليه مع ما يلحقه من الإثم، ولو طلق مائة طلقة حسبت عليه ثلاثا والباقي قد اتخذ به آيات الله هزوا.
وللمزيد يمكنك مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية : 109433، 98385، 5584.
والله أعلم.