عنوان الفتوى : حق المرأة في الفراش كحق الزوج
قرأت الفتوى رقم 9572 والخاصة بعدم منع المرأة من تمكين زوجها من وطئها وقتما شاء وأن تمكنه من الاستمتاع بها - كلما أراد ذلك- على الوجه الذي أباحه الله من الاستمتاع ، فإن لم تفعل ذلك من غير ضرر ، تكون عقوبتها أن تلعنها الملائكة، ومن المتعارف عليه أن الملائكة لا تلعن إلا من غضب الله عليه، فيكون أمر تلك الزوجة أنها ملعونة من الله ثم الملائكة ثم الزوج، وعليها أن تقصد بجماعه لها مرضاة ربها، وإعفاف زوجها حتى لا ينصرف عنها إذا لم تشبع رغبته. فهذا حال تلك الزوجة المسكينة، فما بال الرجل الذي يمتنع عن جماع زوجته لإعفافها حتى لا تنصرف عنه إذا لم يشبع رغبتها ؟ فهل تلعنه أيضا الملائكة؟ وما بال الزوجة الكارهة لزوجها لسوء معاملته لها وعدم اتقاء الله فيها؟ وما بال الزوجة الذي يدفعها زوجها لأفعال تغضب الله ولا يرضى عنها إذا لم تفعل ذلك فهل تلعنها أيضا الملائكة؟ وقد ذكرتم فضيلتكم تلك الجملة وهي فإن لم تفعل ذلك من غير ضرر ... فما هو الضرر الذي يمنعها من تمكين نفسها لزوجها حتى لا تكون ملعونة؟ فضيلة المفتي إن من سماحة الإسلام: لا ضرر ولا ضرار وهناك من الأضرار الكثيرة والتي من الممكن أن تقع على الزوجة وأقلها بغضها له وعدم مقدرتها على الطلاق منه لأسباب لا تحصى ... ورب العزة قال لا إكراه في الدين وعليه فلا إكراه في فعل شيء يكرهه الإنسان، فلم تكره الزوجة على هذا الشيء بالذات طالما أنها متضررة من فعله وتلعن إذا لم تفعله وهي متضررة. أرجو من فضيلتكم إيضاحا أكثر للأضرار التي تبيح للزوج أو الزوجة الامتناع عن تمكين أحدهما نفسه للأخر حتى لا يظن الكثير أن ديننا الحنيف أنصف طرفا على طرف مع الإكراه؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فما ذكرناه في الفتوى المذكورة حق وهو ما دلت عليه النصوص الصريحة، ولا ينبغي للمؤمن أن يعارض أحكام الله وأحكام رسوله بأهوائه وآرائه، فهذا ضلال مبين، وخروج عن الصراط المستقيم, قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا {الأحزاب: 36}.
وهذا الحكم فيه من الحكمة والرحمة ما فيه، وأول من يجني خير هذا وثمرته هو الزوجة نفسها ثم أسرتها وأولادها, فإن المرأة إذا لم تشبع حاجة زوجها في الفراش فإنه غالبا – إن لم نقل – حتما سيبحث عن طريق آخر يشبع شهوته ويقضي حاجته, إما بطريق محرم وهذا فيه ما لا يخفى من المفسدة والخراب للدين والدنيا والزوجة والزوج وأطفالهما, وإما بطريق مباح كأن يتزوج امرأة أخرى، والزوجة لا ترضى بكلا الأمرين لما جبلت عليه من الشح والغيرة, وأحد الأمرين نتيجة حتمية لامتناع المرأة عن فراش زوجها وتضييقها عليه في هذا الأمر، وكلا الأمرين يحدث لها من الأذى والضيق والضرر والغيرة أضعاف أضعاف ما قد يحصل لها من أذى في بعض الأوقات التي تصبر فيها على قضاء شهوة زوجها على غير رغبة منها, فالأفضل للمرأة أن تصبر على زوجها في ذلك حتى ولو كان هذا على غير هواها وراحتها في بعض الأحيان, فهذا خير من أن تصل الأمور إلى هذه النهاية, أرأيت إذاً أيها السائل كيف أن أحكام الشريعة كلها حكمة رحمة وبركة وكلها حرص على مصالح الرجل والمرأة على حد سواء.
وأما قولك (لماذا تكره المرأة على ذلك وهي متضررة) فنقول: لم يقل أحد إن على المرأة أن تجيب زوجها في فراشه ولو كانت متضررة، بل نص الفقهاء أنه يحق لها الامتناع حينئذ لأن القاعدة المقررة المتفق عليها شرعا أنه لا ضرر ولا ضرار.
ولكن الضرر الذي يسوغ للمرأة أن تمتنع عن زوجها في الفراش هو الضرر البين الذي تخشى منه على نفسها كأن تكون مريضة مرضا شديدا أو مصابة بإصابة ما فإذا جامعها زوجها في هذه الحال فإنها تتضرر, فهنا يحق لها الامتناع, أما ما وراء ذلك من الأعذار الموهومة التي ترجع إلى مزاج المرأة ورغبتها أو عدم رغبتها فهذا ليس بعذر ولا يجوز لها الامتناع من زوجها والحال كذلك.
وأما ما تذكر من حال المرأة التي تبغض زوجها بغضا شديدا وتكره معاشرته والبقاء معه وتخشى أن تضيع حقه بسبب ذلك, فقد جعل الشرع لها من ذلك مخرجا كريما وسلوكا قويما ألا وهو الخلع, وقد بينا ذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 97645, 3875, 3118.
وأما الرجل الذي يمتنع عن قضاء حق امرأته في الفراش فلم يرد أن الملائكة تلعنه لأجل ذلك، لكن لا شك أنه ظالم آثم فإن حق المرأة على زوجها في الفراش من أعظم الحقوق التي يجب على الرجل أن يبذلها لها, وقد قال الله تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف {البقرة: 228} ولقد كان رسول الله دائما ما يحذر من تضييع حقوق المرأة عموما فقال: إني أحرج عليكم حق الضعيفين: اليتيم و المرأة. أخرجه الحاكم وغيره وحسنه الألباني، ولطالما عنف صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين ضيعوا أو همّوا أن يضيعوا حقوق زوجاتهم في الفراش، وقد نقلت لنا كتب السنة كثيرا من هذا, ومن ذلك ما أخرجه أبو داود وأحمد واللفظ له عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علي خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة، وكانت عند عثمان بن مظعون، قالت: فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاذة هيئتها، فقال لي: يا عائشة ما أبذ هيئة خويلة! قالت، فقلت: يا رسول الله: امرأة لها زوج يصوم النهار ويقوم الليل فهي كمن لا زوج لها، فتركت نفسها وأضاعتها، قالت: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن مظعون فجاءه فقال: يا عثمان أرغبت عن سنتي؟ فقال: لا والله يا رسول الله ولكن سنتك أطلب. قال: فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، فصم وأفطر وصل ونم،
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينيك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا.
ونص أهل العلم على أن الرجل مأجور بإتيانه أهله، ولو لم يكن له شهوة في ذلك، قال ابن قدامة: سئل أحمد: يؤجر الرجل أن يأتي أهله وليس له شهوة؟ فقال: إي والله يحتسب الولد، وإن لم يرد الولد، يقول: هذه امرأة شابة لم لا يؤجر؟! انتهى.
بل الأمر لا يقتصر على حق الفراش فقط فالزوج عليه أن يتزين لزوجته بما يناسب رجولته، كما تتزين هي له بما يناسب طبيعتها, فإن المرأة يعجبها من زوجها ما يعجبه منها، وقد فهم ذلك ابن عباس رضي الله عنهما من قوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ. {البقرة:228} فقال: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي.
وقال القرطبي في الآية المذكورة: والمقصود أن يكون عند امرأته في زينة تسرها وتعفها عن غيره من الرجال.
أما الزوجة التي يجبرها زوجها على أفعال لا ترضي الله سبحانه فهذه لا يجب عليها طاعته في ذلك لأن الطاعة في المعروف، فإذا امتنعت من طاعته حينئذ فلا تأثم بل إنها تكون مأجورة إن شاء الله, ولا يجوز للرجل أن يطلب من زوجته أن يأتيها فيما حرمه الله من الدبر والحيض، وحال كونها صائمة صيام الفرض ونحو ذلك وعليها أن تمتنع منه وأن تدفعه عن نفسها بكل سبيل.
وأما استدلالك على جواز امتناع المرأة عن فراش زوجها إذا كانت كارهة بقوله تعالى: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ {البقرة: 256}, فإن هذه الآية ليس فيها ما يفيد مطلوبك لا على سبيل التصريح ولا التلميح، ولا العبارة ولا الإشارة, فإن مساق الآية لأمر آخر مغاير لما نحن بصدده, ومعناها ما قاله ابن كثير في تفسيره أي: لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورًا. انتهى.
فهذا هو الإكراه المنفي في الآية، أما ما وراء ذلك فلم تتعرض له الآية, وليس كل إكراه منهي عنه بل هناك إكراه واجب وهو الإكراه بحق، فلو أن شخصا غصب حقوق الناس وأكل أموالهم فهذا يجب على ولي الأمر أن يكرهه على أداء الحقوق لأصحابها, ولو أن غنيا منع زكاة ماله لوجب على السلطان أن يكرهه على إخراج حق الفقراء منها وهذا أمر معلوم من الدين بالضروة, فاحذر أيها السائل من أن تقول على الله بغير علم فإن هذا من أكبر الكبائر وأقبح الفواحش, وصاحبه آثم خاطئ حتى وإن أصاب.
وبذا يتبين الجواب على قولك لماذا يفعل الزوج ذلك بها وهي كارهة له, ذلك أن الزوج لم يظلمها في ذلك ولم يزد على أن استوفى حقه، فإن الفراش هو من أعظم حقوق الزواج.
فإن كانت الزوجة كارهة لهذا ولا تطيق صبرا فقد جعل الشرع لها مخرجا من ذلك وهو الخلع كما سبق ذكره.
وفي النهاية ننبه على أن الشرع قد حث الزوجين على الصبر والإيثار وندب الزوج خاصة إلى الصبر على زوجته فلو كانت المرأة بحالة نفسية سيئة أو غير مهيأة لحق الفراش فيندب للزوج أن يصبر عليها حتى يزول عنها ذلك العارض فلا يحصل اللقاء بينهما إلا وهي مستعدة له راضية به.
والله أعلم.