عنوان الفتوى : خرق العادة ليس دليلاً على الولاية
ما الحكم الشرعي في شخص يعتقد أن الله سبحانه وتعالى قد فوض بعض الأولياء -كالسيد البدوي وغيره- في التصرف في الكون حتى بعد مماتهم أو نحو ذلك, وإذا اعترض عليه أحد يقول إنه يعلم بأن الله هو المتصرف في الكون ولكنه قد أعطى لهؤلاء تلك الكرامة. وهو يستدل على جواز ذلك بكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في (مجموع الفتاوى): 1-(وَمَا زَالَ فِي عَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ الْمَنْصُورَةِ وَجُنُودِ اللَّهِ الْمُؤَيَّدَةِ مِنْكُمْ مَنْ يُؤَيِّدُ اللَّهُ بِهِ الدِّينَ وَيُعِزُّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ . وَفِي أَهْلِ الزَّهَادَةِ وَالْعِبَادَةِ مِنْكُمْ مَنْ لَهُ الْأَحْوَالُ الزَّكِيَّةُ وَالطَّرِيقَةُ الْمَرْضِيَّةُ وَلَهُ الْمُكَاشَفَاتُ وَالتَّصَرُّفَاتُ ....) انتهى 2- وأيضا: فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ عُمْدَتُهُمْ فِي اعْتِقَادِ كَوْنِهِ وَلِيًّا لِلَّهِ أَنَّهُ قَدْ صَدَرَ عَنْهُ مُكَاشَفَةٌ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ أَوْ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ مِثْلِ أَنْ يُشِيرَ إلَى شَخْصٍ فَيَمُوتَ ؛ أَوْ يَطِيرَ فِي الْهَوَاءِ إلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا ,أَوْ يَمْشِيَ عَلَى الْمَاءِ أَحْيَانًا ؛ أَوْ يَمْلَأَ إبْرِيقًا مِنْ الْهَوَاءِ ؛ أَوْ يُنْفِقَ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ مِنْ الْغَيْبِ أَوْ أَنْ يَخْتَفِيَ أَحْيَانًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ ؛ أَوْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ اسْتَغَاثَ بِهِ وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ مَيِّتٌ فَرَآهُ قَدْ جَاءَهُ فَقَضَى حَاجَتَهُ ؛ أَوْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِمَا سُرِقَ لَهُمْ ؛ أَوْ بِحَالِ غَائِبٍ لَهُمْ أَوْ مَرِيضٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ ؛ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهَا وَلِيٌّ لِلَّهِ ؛ بَلْ قَدْ اتَّفَقَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ لَمْ يُغْتَرَّ بِهِ حَتَّى يَنْظُرَ مُتَابَعَتَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُوَافَقَتَهُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ . وَكَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ...انتهى كلامه. وهل في هذا المقطع الأخير ما يتناقض مع فتاوى شيخ الإسلام بكفر من يستغيث بالميت أو الغائب؟وجزاكم الله خيرا. فكيف أرد عليه بالدليل من الكتاب والسنة, وكيف أرد على استدلاله بكلام شيخ الإسلام رحمه الله؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن اعتقادَ أن غير الله يتصرف في الكون بالضُر والنفع والخفض والرفع والعطاء والمنع من أقبح أنواع الشرك في الربوبية، وهو ما لم يكن يعتقده المشركون من أهل الجاهلية، فقد كانوا يعتقدون أن الله وحده هو المدبر لأمور الكائنات دون ما سواه، وإنما كانوا يصرفون العبادات لغيره من الآلهة والأنداد الباطلة بزعم أنها تشفع لهم عنده وتقربهم إليه زُلفى، قال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ {يونس:31}.
وطلبك دليلاً على إبطال هذه العقيدة من أعجب الأشياء! فإن القرآن كله من أوله إلى آخره ناطقٌ بأن الملك لله وحده والتدبير والتصرف له وحده، وزعمُ أن الله يكرمُ بعض خلقه بأن يجعله يتصرف في الكون كلامٌ باطل متناقض، وخلاصته أن الله أكرمه بأن جعله إلهاً معه فما أقبح هذا الزعم، والله يقول: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ {النمل :61}، بل جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى، وهو تعالى الغني عنهم .
وأما زعمه أن شيخ الإسلام يقول بهذا فمن أقبح الكذب والافتراء على شيخ الإسلام، وهل عاش شيخ الإسلام إلا مُنافحاً عن التوحيد مقرراً لقواعده، مُرسياً لدعائمه، والنصُ الأول المذكور من كلام الشيخ هو من رسالته لجماعة عدي بن مسافر، وفيه ثناؤه عليهم وبيانه أن لهم كرامات وأحوالا، وليس مقصودٌ بقوله (والتصرفات) ما فهمه هذا الزاعم بحال، وأين إثبات كرامات الأولياء والذي هو مُعتقد أهل السنة والجماعة من دعوى إلهٍ مع الله يتصرفُ في الكون وفق ما أراد، بل كرامات الأولياء أمرٌ ثابتٌ قطعاً وهو ما يجريه الله على أيديهم من خوارق للعادات تأييداً للحق وهدايةً للخلق.
وأما النص الثاني المذكور من كلام الشيخ فقد جاء في سياق كلامه رحمه الله عن الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وفيه بيانُ أن خرق العادة ليس دليلاً على الولاية وهو من أكبر ما يُهدم به بُنيان الصوفية الغلاة من قواعده، فإن الشياطين قد يقدرون بإذن الله على بعض هذه الخوارق مما يُقدره الله عز وجل امتحاناً للناس وفتنةً للمفتونين منهم، وأما قوله رحمه الله: إن كرامات الأولياء أعظم من هذا بكثير فمراده به ما قرره في غير موضع من أن التوفيق للثبات على الحق ولزوم السنة والدين هو أعظم كرامات الأولياء، فأعظم الكرامة لزوم الاستقامة، كما أن كرامات الأولياء في عامتها تأتي تأييداً للدين ونصرةً له، وأما أن ولياً لله يتصرف في الكون فهذا ما لا يعتقده مسلم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالله سبحانه هو المستحق أن يعبد لذاته، قال تعالى: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }، فذكر الحمد بالألف واللام التي تقتضي الاستغراق لجميع المحامد، فدل على أن الحمد كله لله، ثم حصره في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فهذا تفصيل لقوله: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فهذا يدل على أنه لا معبود إلا الله، وأنه لا يستحق أن يعبد أحد سواه، فقوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته: من المحبة والخوف، والرجاء، والأمر، والنهي. {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إشارة إلى ما اقتضته الربوبية، من التوكل والتفويض والتسليم؛ لأن الرب سبحانه وتعالى هو المالك، وفيه أيضا معنى الربوبية والإصلاح، والمالك الذي يتصرف في ملكه كما يشاء.
فإذا ظهر للعبد من سر الربوبية أن الملك والتدبير كله بيد الله تعالى، قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فلا يرى نفعا، ولا ضرا، ولا حركة، ولا سكونًا، ولا قبضا، ولا بسطا، ولا خفضًا، ولا رفعًا، إلا والله سبحانه وتعالى فاعله، وخالقه، وقابضه، وباسطه، ورافعه، وخافضه. فهذا الشهود هو سر الكلمات الكونيات، وهو علم صفة الربوبية. والأول هو علم صفة الإلهية وهو كشف سر الكلمات التكليفيات.
فالتحقيق بالأمر والنهي، والمحبة والخوف والرجاء، يكون عن كشف علم الإلهية.
والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم يكون بعد كشف علم الربوبية، انتهى .
ولا نطيل بذكر النقول عنه رحمه الله في هذا المعنى فإنها من الكثرة بحيثُ لا تكادُ تُحصر إلا بكلفة، ولكننا نُحيلك على تصانيفه وكتبه النافعة فإنها دائرةٌ في كثيرٍ منها على تقرير التوحيد وبسط أدلته.
والله أعلم.