عنوان الفتوى : كرامات الأولياء.. حقيقتها.. ضوابطها.. والتعامل الصحيح بشأنها
ما هي حدود كرامات اﻷولياء التي يدعيها بعض الناس بحيث نقول إذا تجاوزوا هذا الحد أصبح هذا الكلام كفرا كشفاء المرضى حيث يقولون إن الولي يستغاث به ويشفي المرضى ـ بإذن الله ـ حيث يدعو الولي الله سبحانه وتعالى فيشفي الله المرضى على يديه، والله على كل شيء قدير وأقول لو كان الولي بإذن الله يشفي المرضى أيا كان المرض ومتى ما أراد الولي، فهذا يعني أن الولي أصبح إلها مع الله وبإذن الله، فهل أكرمه الله وجعله معه إلها؟ فهذا كفر وزندقة، وهل كرامات الولي تكون ملازمة له متى شاء أظهرها؟ أليس هذا يعني أن الولي أصبحت قدرته قدرة إلهية؟ وهل يستغيث الغريق بالولي كي ينقذه ثم يقول هذه كرامة؟ وماذا بقي لله؟ فالذي يستغيث بالولي كي ينقذه يعتقد أن الولي يسمعه ويعلم حاله ويصبح الولي سميعا عليما قديرا؟ أم أنها تظهر بسب التحدي من الكفار أو ما شابه ذلك ثم تختفي، ولو أراد الولي إظهارها مرة أخرى فإنه لا يستطيع، وأقصد بالولي الملتزم بشرع الله الواقف عند حدوده وليس الذي يفعل الفواحش مثل إتيان الذكور وارتفاع التكاليف عنه؟ وما هو أفضل كتاب في حدود كرامات اﻷولياء وقدراتهم حتى نميز ما يكون للولي وما لا يكون إلا لله؟ وهل تصل قدرة الولي إلى أن يحرك الجبال متى أراد ذلك، لأن قدرته أصبحت كقدرة ملك الجبال مثلا؟ ومتى تكون الاستغاثة بالملائكة شركا؟ وهل يجوز أن يستغاث بالملك الذي معه كي ينقذه من السقوط أو الغرق، لأن مع كل إنسان ملك وشيطان، وهذا الملك حي يسمع وقادر؟ ومن يصدق أن الكهان يعلمون الغيب النسبي فقد كفر أم أنه لا تقبل صلاته 40 يوما؟ وما هو أفضل كتاب في هذا الموضوع من المطولات التي فيه الرد على الشبهات؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإشكال السائل في كون صاحب الكرامة الذي يدعو الله فيُشفى المريض، أنه بذلك تكون عنده قدرة إلهية، وأن هذا يعني أن الولي أصبح إلها مع الله وبإذن الله..!! يمكن أن يقال مثله في حق الأنبياء! فهل معجزات الأنبياء تجعلهم آلهة معه سبحانه؟! والجواب بالنفي قطعا، لأن هذا إنما يكون بمشيئة الله وقدرته، وتدبيره وحكمته، كما قال تعالى في حق نبيه عيسى عليه السلام: وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {آل عمران: 49}.
وقال: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي {المائدة: 110}.
والمقصود أن خرق العادة وحدوث المعجزة أو الكرامة لا ترفع صاحبها عن مقام العبودية، وبالتالي لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله، وإنما غاية الأمر أن يُطلب منه الدعاء فيلجأ إلى الله تعالى لدفع كربة، أو تيسير عسير، أو تقريب بعيد، ونحو هذه الأمور.
ومن ذلك ما هو مشهور في ترجمة الصحابي الكريم البراء بن مالك رضي الله عنه، قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: روى التّرمذيّ من طريق ثابت وعلي بن زيد، عن أنس أن النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم قال: ربّ أشعث أغبر لا يؤبه له لو أقسم على اللَّه لأبرّه، منهم البراء بن مالك ـ فلما كان يوم تستر من بلاد فارس انكشف الناس، فقال المسلمون: يا براء، أقسم على ربك! فقال: أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم، وألحقتني بنبيّك، فحمل وحمل الناس معه فقتل مرزبان الزّارة من عظماء الفرس، وأخذ سلبه، فانهزم الفرس، وقتل البراء. اهـ.
والمقصود أن كرامات الأولياء ليس فيها تجاوز لحدود العبودية لله تعالى، وإنما تحصل بمشيئته وقدرته، ويترتب عليها زيادة الإيمان به سبحانه، وصدق التوكل عليه، وليست هي ولا المعجزات قدرة ذاتية في النبي ولا في الولي، وليس ظهورها بمحض إرادتهم أو رغبتهم، وإنما هي من الله تعالى مشيئةً وقدرا، ومن أمثلة ذلك قصة عمران بن حصين المشهورة في تسليم الملائكة عليه، ثم تركها للتسليم برغم رغبته فيه، حيث قال رضي الله عنه: كان يُسلَّم عليَّ حتى اكتويت، فتُرِكْت، ثم تَرَكْتُ الكيَّ فعاد. رواه مسلم.
قال النووي في شرح مسلم: قوله: يسلم علي ـ هو بفتح اللام المشددة، وقوله: فتركت ـ هو بضم التاء، أي انقطع السلام علي: ثم تركت ـ بفتح التاء، أي تركت الكي فعاد السلام علي، ومعنى الحديث أن عمران بن الحصين ـ رضي الله عنه ـ كانت به بواسير فكان يصبر على المهمات وكانت الملائكة تسلم عليه، فاكتوى فانقطع سلامهم عليه، ثم ترك الكي، فعاد سلامهم عليه. انتهى.
وهذا أسعد بن زرارة ـ وهو رضي الله عنه من النقباء ـ أخذه وجع في حلقه، يقال له: الذبحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأبلغن أو لأبلين في أبي أمامة عذرا، فكواه بيده صلى الله عليه وسلم فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ميتة سوء لليهود ـ أو بئس الميت ليهود ـ يقولون: أفلا دفع عن صاحبه، وما أملك له، ولا لنفسي شيئا. رواه أحمد وابن ماجه.
وأما الخطأ والانحراف في تعامل بعض الناس مع قضية الكرامات، فهذا شأن آخر، يحتاج إلى تعليم وتأديب، ليس في ضبط الاعتقاد فحسب، وإنما في ذلك وفي استعمال الألفاظ أيضا، فعن عبادة بن الصامت قال: قال أبو بكر: قوموا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله عز وجل. قال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة، وهو حسن الحديث. اهـ.
وقال الشيخ سليمان آل الشيخ في تيسير العزيز الحميد: قوله: إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله ـ قال بعضهم: فيه التصريح بأنه لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأمور، وإنما يستغاث بالله، والظاهر أن مراده صلى الله عليه وسلم إرشادهم إلى التأدب مع الله في الألفاظ، لأن استغاثتهم به صلى الله عليه وسلم من المنافق من الأمور التي يقدر عليها، إما بزجره أو تعزيره ونحو ذلك، فظهر أن المراد بذلك الإرشاد إلى حسن اللفظ والحماية منه صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد، وتعظيم الله تبارك وتعالى، فإذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم في الاستغاثة به فيما يقدر عليه، فكيف بالاستغاثة به أو بغيره في الأمور المهمة التي لا يقدر عليها أحد إلا الله، كما هو جار على ألسنة كثير من الشعراء وغيرهم؟! وقَلَّ من يعرف أن ذلك منكر، فضلاً عن معرفة كونه شركًا. اهـ.
وراجع فيما يجوز وما لا يجوز من الاستغاثة، الفتاوى التالية أرقامها: 22722، 71750، 53995، 3779.
وعلى أية حال، فحدود الكرامة وضابطها، بل ووقعها، مما اختلف فيه، قال الدكتور محمد الأشقر في رسالته العلمية: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية ـ في مبحث الأفعال الخارقة للعادة: خرق السنن الكونية على أيدي الأولياء: اختلفت الآراء في الأمة الإسلامية حول هذه النقطة، فالمعتزلة وأبو إسحاق الإسفراييني والحليمي، يرون أن النواميس الكونية لا تنخرق إلا لنبيّ، لتكون معجزة له، وأما ما عدا ذلك، فالسنن مطردة اطّراداً منضبطاً لا يتخلّف مطلقاً، فأنكروا بذلك كرامات الأولياء الخارقة للعادة، وسواء أكانت صغيرة أم كبيرة، وأجازوا أن ييسر للأولياء نحو إجابة دعاء، وموافاة ماء في أرض فلاة مما ينحطّ عن رتبة خرق العادات.... وأهل السنة والصوفية وجمهور الأمة، على إثبات كرامات الأولياء، إلاّ أنهم في ذلك على قولين:
الأول: أن كل ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لوليّ، ولا فرق بينهما، إلا أن النبي يتحدّى بخرق العادة ليثبت نبوته، والولي لا يتحدّى، ونسب هذا القول إلى جمهور العلماء، وممن صرّح به النووي في شرح صحيح مسلم، والجويني في الإرشاد.
الثاني: أن كرامات الأولياء بخرق العادات ثابتة، إلاّ أنها لا ترقى إلى مثل وجود ولد دون والد، وقلب جماد بهيمة، وممن قال بهذا القول القشيري، وابن السبكي، وابن حجر العسقلاني، ويظهر أن الباقلاني يقول به في كتابه في التفريق بين المعجزات والكرامات، حيث يرى أن السّحرة يقدرون على كل ما يقدر عليه الأنبياء، ما عدا ما أُجمع على أنهم لا يقدرون عليه، كإخراج ناقة من صخرة، وفلق البحر، وآيات موسى التسع، وإنما يقدرون على نحو الطيران في الهواء، وموت المسحور وحبّه أو بغضه، فيظهر أن قوله في خوارق الأولياء مثل ذلك. اهـ.
ثم فصل في ذلك وذكر أدلة كل فريق، ونصر قول الجمهور، ثم قال: إلاّ أننا مع ذلك نرى أن أكثر ما ينقل عن كثير ممن يدعون الولاية، أو تُدّعَى لهم، من خرقهم للعادات والسنن الكونية، كذب مفترى لا أصل له، أو له أصل من الحق وقد عظمه الأتباع المغلوبون على عقولهم وأفهامهم، أو هو من الباطل من الألاعيب والمخرقات، أو من تصرفات الجن والشياطين، بمعاونتهم أولياءهم وإيحائهم إليهم... وزاد بعض الصوفية المسألة عنفاً، بدعواهم أن الخارق يقع بقوة ذاتية في نفس الولي، وادّعوا أنها قوة إلهية... اهـ.
ولمزيد الفائدة حول هذا الموضوع يمكن الرجوع لكتاب الأمير الصنعاني: الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف ـ مع الدراسة التحقيقية لهذا الكتاب للدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر.
وأما بقية الأسئلة: فنرجو من السائل إرسالها كل على حدته، اتباعا لسياسة الموقع في عدم الجواب عن الأسئلة المتعددة في فتوى واحدة.
والله أعلم.