عنوان الفتوى : ترك بعض خصال الخير لا يخرج من الملة
هل المسلم لا يزال يبقى مسلما إذا لم يكتمل إيمانه؟ فمثلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الطهور شطر الإيمان"، وإذا كان شخص ما لم يحافظ على الطهارة في حياته أبداً فهل هذا يصبح كافرا لأن إيمانه لم يكتمل؟وأظن أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.إذا لم يحب شخص لأخيه ما يحب لنفسه فهل يصبح كافراً؟فإذا لم يكتمل إيمان شخص، مثلاً : ثيابه، جسده، بيته لم يكن نظيفاً قط، فهل هذا الشخص يدخل الجنة؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الإيمان له شعب متعددة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان" رواه البخاري عن أبي هريرة.
وكل شعبة من شعب الإيمان تسمى إيماناً، فالصلاة وسائر أعمال الجوارح من الإيمان، والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والرجاء من الإيمان، وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً، منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب، وهذه الحقيقة واضحة في كتاب الله، قال تعالى: (لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ) [الفتح:4].
وقال تعالى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً) [لأنفال:2].
وقال تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173].
فهذه الآيات تدل على أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا معتقد أهل السنة، ولهذا حمل العلماء الأحاديث التي فيها نفي الإيمان على نفي كماله الواجب لا على نفي أصله، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" متفق عليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد" رواه مسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" رواه أحمد وابن حبان عن أنس، فالمراد بهذه الأحاديث - في القول الصحيح المعتبر - أنه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله الواجب، كما يقال لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة، والتعبير بالكمال وعدمه ثابت بالسنة، ففي معجم الطبراني الأوسط عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، الموطؤون أكنافاً الذين يألفون، ويؤلفون ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف".
والذي يترك المعاصي أكمل إيماناً ممن يقترفها، ومن يحافظ على خصال الخير غير الواجبة كالسنن والمتسحبات أكمل إيماناً ممن يقتصر على الواجبات، ولهذا كان المؤمنون متفاوتون في إيمانهم، فبعضهم أكمل من بعض.
فإن إيمان الصديقين الذي يصّير الغيب في قلوبهم كأنه شهادة بحيث لا يقبل التشكيك والارتياب ليس كإيمان غيرهم ممن لا يبلغ هذه الدرجة، بحيث لو شكك لدخله الشك، ويزيد هذا الإيمان بالنظر في الكون، وتأمل آيات الله المسطورة والمنظورة، وهذا واضح في كتاب الله، فيقول الله عن كتابه المنظور: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) [لأعراف:185].
ويقول تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [الأنعام:75].
ويقول الله عن كتابه المسطور (القرآن): (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال:2].
وأهل الإيمان ممن يفعلون الكبائر لا يخلدون في النار، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان" رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
والمقصود بالدخول: الخلود، فإن أهل الإيمان وإن دخلوا النار، فإنهم لا يخلدون فيها.
والله أعلم.