عنوان الفتوى : الارتزاق من الشبهات أولى من سؤال الناس.
سؤالي هو - أنا شاب متدين نشأت في بلد كل ما فيها يدعوك إلى المنكرات والتي كنت أقع في الكثير منها - ولكن نزعتي لحب الدين والاستقامة كانت دائما تؤلمني للوقوع في التقصير من ناحية والمنكرات من ناحية أخرى - حتى منَ الله علي بمعرفة سبب النجاة من حالة التذبذب التى كنت أعيشها وأتحول إلى التزام الطريق المستقيم - وذلك بأني هجرت صحبة السوء والتزمت طريق المسجد والعلماء وطلب العلم وإن كان تعثر علي إيجاد الصديق الصالح وإن كان هذا لا يؤرقني وكفاني الأنس بالله . المفاجأة جاءت من ناحية أبي - إذ أنه أنكر علي التزامي بشكل حاد وشديد وأقام الدنيا ولم يقعدها حتى اطمئن أني تركت الصلاة في المسجد وعدت إلى أصدقائي العاديين وعاودت مشاهدة الأفلام الأجنبية التي كنت أحبها حيث إنني معروف عني أني لا أحب الأفلام المصرية. وحقيقة أنى تحت ضغط الجحيم الذي أشعلة أبى في بيتنا والذي كان لوالدتي النصيب الأكبر منه، قررت أن أؤجل الالتزام حتى أكمل تعليمي وأتمكن من السفر خارج بلدي المليء بالمنكرات وأستقل بمقدرات أمري بعيدا عن الاصطدام مع أبى. وقد كان - من منة الله - سافرت إلى السعودية للعمل والتزمت حيث الأجواء كلها تعينك على الطاعة وساهمت بشيء من كسبي في القيام بأعباء المعيشة وتزويج أختي مما أثر على زواجي وتأخرت إلى سن 33 حتى تمكنت من الزواج بالدين وبعض من ساعدوني بالدين على الزواج أسقطوا الدين ومرت الأيام هكذا وتحسنت علاقتي بوالدي خلال فترة سفري . حتى رجعت من سفري للاستقرار في بلدي مضطرا لأن الأوضاع تغيرت وبناتي كبرن وبدأت من جديد في بلدي غريب عن أحوالها والتي جعلتها بلدا ذو تركيبة عجيبة في تصوري فالنساء أخذن مكانة في كل مناحي الحياة فوق الرجال وزاد الاختلاط بشكل فظيع وانهارت الحواجز الاجتماعية بين الطبقات وحدث تحول كبير في النهج الاستهلاكي للمجتمع ودخلت الرفاهية كعنصر أساسي في الحياة العائلية وحتى بعض الأيام مثل شم النسيم أصبح عيدا مقدسا . وغيرة كثير مما جعلني أبدوا ككائن قادم من كوكب آخر في نظر أهلي وبدأ والدي يحاول مرة أخرى إثنائي عن التزامي وتغيير حياتي أنا وعائلتي من الألف إلى الياء وذلك بوضعنا تحت المجهر وانتقاد كل شيء فينا - النقاب؛ اللحية ؛ هجر التلفاز ؛ عدم سماع الأغاني ؛ عدم الذهاب معهم إلى المصايف وهكذا . فكان الحل في أني بمنتهى النعومة واللطف التزمت سكني والقائم في حي آخر لا يبعد كثيرا عن حي أبي وأنشغلت في فتح محل تجارى بما يوجد معي من مال وكنت أزور والدي كل أسبوعين مرة . نظرا لانشغالي بالمحل من ناحية وتجنبا لضغوط أبي الحادة والمستميتة لإثنائي عن نهج حياتي الغريب عليهم . وحدثت مفاجأة أخرى وهي أني لم أوفق في مشروعي وخرجت منه بربع ما كان معي من مال ودخلت مشروعا أخر وخرجت منة صفر اليدين وفقدت كل رأس مالي وهذا في خلال 6سنوات بعد عودتي من السعودية وبلغ سني في ذلك الوقت 42 سنة وفكرت في السفر مرة أخرى أو العمل ببلدي في أي شركة ولكن لم أوفق في الحصول على أي فرصة عمل لا في الداخل ولا في الخارج . واشتدت محاربة أبى لي وسقطت من نظره وبارزني العداء وبرر كل ما ابتليت به من فشل وفقدان لرأس مالي لأني متشدد من وجهة نظره. واتهمني بأني أرميه بالكفر والعياذ بالله لأني عندما تحضر الصلاة أذهب للصلاة في المسجد ولا أصلي معه في المنزل. وعندما علم أحد أقاربي بما أنا فيه أرسل إليه مبلغا من المال لا أعلم نيته فيه - هل بعثة قرضا أم مساعدة – لا أدري ونفذ المال بدون أن أحصل على عمل وطلبت منة مرة أخرى على نية أنى عندما أعمل أو أجد شريكا لعمل مشروع أرد له مبلغه ولكنى لم أجد أي مخرج وطلبت منه مرة ثالثة ومن قريب آخر ومن صديق آخر ومن أخر وسقط في بحر من العطايا اللتي لو أنها أتت دفعة واحدة لأقامت لي مشروعا جيدا ولكن هذا حدث على مدار خمس سنوات لم أوفق في الحصول على عمل باستثناء عمل مؤخرا مع أخي الأصغر لا يحقق لي الكفاية وبه شيء من الشبهات، حيث إننا نقدم خدمة نقل لمن يريد نقل بضاعته من مكان لآخر ونأخذ عمولة مقابل ترتيب هذا الأمر حيث إننا لا نمتلك وسائل نقل . وكذا نخلص علي البضاعة جمركيا . وفي أثناء ذلك نقوم بدفع رشوة لموظفي الجمارك لإتمام العمل وإلا فلا سبيل لك غير هذا وكذلك عند عمل الفواتير نقوم بإضافة بنود أجمالية لتحصيل عمولتنا ووضع ربحنا مثل مصاريف سحب وخلافة وهذا يجعلني لا أشعر بالراحة من هذا الرزق. ملخص
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فما ذكرته من قصتك السابقة هو ابتلاء واختبار لك من الله تعالى، ويبتلى الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل كما في الحديث الصحيح، فاصبر واحتسب، أما طاعة والدك فلا تكون إلا فيما يرضي الله، فإذا أمر بمعصية فلا يطاع ولكن يصاحب بالمعروف، وأما الدين فقد ذكرنا في فتوانا رقم: 22262، دعاء الدين، وفي فتوانا رقم: 57914، الدعاء وأهميته، وفي فتوانا رقم: 28652، جوالب الرزق فراجعها.
وأما خدمات نقل البضائع فهي إجارة جائزة على ما تتفقان من العمل والأجر المعلوم، وأما التخليص الجمركي وما فيه من رشوة فاعلم أن دفع الرشوة حرام، إلا أنا بينا في فتوانا رقم: 8097، أن دفع هذه الرشوة ظلما هو من المكس المحرم أخذه، وقد نقل الذهبي في الكبائر الإجماع على أن آكل المكس شر من الزاني وشارب الخمر، فإذا اضطر دافع المكس لدفعه لدرء ظلم ونحوه فلا مانع حينئذ والإثم على آخذه، وقد فصل شيخ الإسلام في الفتاوى ذلك تفصيلا مبسوطا وأفادت فتاواه أن الإنسان المجبر على المكس من ظالم لا حرج عليه.
وأما كون رزقك من الشبهات فإن وجدت غيره تركته، وإلا فقد نقل الشاطبي في الموافقات عن مالك أن الارتزاق من الشبهات أولى من سؤال الناس.
والذي نوصيك به هو المزيد من الصبر والتقوى حتى تنجح في هذا الاختبار الذي لا ينجح فيه إلا الموفقون المفلحون فإن النجاح فيه يفضي إلى السعادة الأبدية بإذن الله تعالى، فأيقن بذلك ولك فيمن سبقك من الأنبياء وصالحي هذه الأمة أسوة حسنة، فاقرأ سيرهم ووطن نفسك على أن يكون همها اللحاق بهم والحشر في زمرتهم، فستسمو حينئذ عن الالتفات إلى الدنيا وزهرتها، ويسهل عليها كل ما تلقى في سبيل ذلك.
ولمزيد من الفائدة راجع الفتاوى التالية: 32683، 5860، 35951.
والله أعلم.