أرشيف الاستشارات
عنوان الاستشارة : أعيش في حزن وتسخط بسبب مرض أمي.. كيف أكون راضيًا صابرًا
بسم الله الرحمن الرحيم
إنا إنسان بسيط تعرضت أمي إلى الفشل الكلوي، ففشلت معها كل حياتي بما تحمل العبارة من معنى، قدر الله الكريم أن يختبر أمي، وأعتقد أن مرضها قدر لي أكثر منها لما يحدث لي.
أمي تغسل الكلى منذ سنتين، وما أدراك ما هذه السنتين التي مرت بي؟ كل يوم في هذه السنتين تتغير أمي إلى الأسواء، وأنا أموت معها كل يوم، أنهكها الغسيل، سلب نظرها فأصبحت لا ترى جيدًا، وأصبحت جثة لا تتحرك، وأخذ الغسيل من ذاكرتها الكثير، كل هذا الألم الذي ينتاب أمي لا شيء بالنسبة لما يحدث لي، تجرعت الهم والحزن، وأصبت بانفصام بشخصيتي تجاه الله، فأنا الآن لدي صراع مع القدر، كثير ما أقول في نفسي كلامًا لا يليق بالله لما فعله بأمي، وأحيانًا أتفوه به بالقول، فتقول إحدى شخصياتي: "الله يستحق ما أقوله له، فلقد دمر حياتي بسبب مرض أمي".
أنا شاب، أصبحت لا أحب الجلوس مع البشر، وقدمت استقالتي، فلقد كنت في وظيفة يتمناها أغلب الناس، مرتب قوي، إلا أني قدمت استقالتي زهدا في هذه الحياة، وما أوصلني له ربي بسبب أنه يعذب أمي كل يوم، وهو في عرشه لا يرسل أي نفحة من نفحات كرمه أو رحمته على أمي أو عليّ.
قدمت استقالتي وليس لدي ما يعيلني، قلت لعل الله يدرك أني في مصيبة، فيرحم حالي، إلا أن الأمر استمر أتعس من قبل، فأمي أراها ميتة لا محال، وأنا أريد مساعدتك لي.
أنا الآن أريد أن أتأقلم أن أمي ميتة وأخاف أن أكفر بالله، فما أنا فاعل؟ هل إذا قتل الله أمي أكفر به وأضحك على نفسي؟ وأقول إنه لا بد أن أضحك وأنسى الله وأمي لما سببا لي من ألم، وأن أخضع لأمر الله، وأكون طوال حياتي تعيسًا.
أريد برنامجًا لحياتي لأخرج مما أنا فيه، فأنا أخاف أن أخسر أمي وأخسر الله، أحيانًا ينتابني شعور أن الله يضحك على ما أنا فيه من الألم، وأحياناً أسمع الله يقول لي: " تصبّر فو الله إن هذه الدنيا لم ولن تكون لك، فلك عندي حياة أجمل".
كل ما أريده الآن أن لا أخسر الله، أرشدني لهذا الطريق فإحدى شخصياتي تقول لي: "لا تعبد الله ولا تكثر من ذكره، فهو يبتلي من يتقرب منه، لا تذكره ولا تصلي فعندها الله سيكرمك؛ لأنه عادل، عندما لا تذكره سيبعد الابتلاء عنك وعن أمك، ويوم القيامة سيرحمك برحمته"، وشخصيتي الثانية تذكر الله أربعا وعشرين ساعة، لكن أرهقها هذا الذكر دون مقابلَ!
يا شيخ لمن ألتجئ إلى الله الذي يزيد عذابي كل يوم، ولم ينتبه لي أبدًا أم إلى من ألتجئ؟
أنا في ضيقة لا يعلمها إلا من كتبها، وساعات أقول لا أريد أن أنتحر، ولا أريد أن أخسر الله، وسأذكره، لكن ليس حبًا فيه، بل لأجل أن ألتقي بأمي يوم القيامة في الجنة، وساعات من قوة الألم الذي بي أريد من الله أن لا يبعثني نهائيًا، أريد أن أكون ترابًا فلا أريد نعيم الجنة ولا أي شيء.
أرشدني لعلك بإرشادي تنقذ روحًا أرهقها التعب فقد أصبح فؤادي فارغًا.
لا إله إلا هو حبيبي، إليه ألتجئ، لا مهرب منه إلا إليه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ سعود حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نرحب بك - أخِي الكريم - في إسلام ويب.
أخِي: الذي أخافه عليك حقيقة هو ألا يكون قد أصابك الضجر من تمريض أُمِّك والعناية بها، أرجو أن تسامحني - أيها الفاضل الكريم - في هذا الذي أقوله لك.
أعرفُ أن كثيرًا من الناس الذين يمرِّضون ويعتنون بذويهم - خاصة إذا كان المرض مرضًا مُزمنًا - قد يأتيهم تفكير اكتئابي سخيف جدًّا، هنالك شيء من الكدر، وهنالك شيء من عدم القدرة على المواكبة والتواؤم مع مرض الشخص العزيز عليهم، وهذا يجعلهم يتضجرون ويحتجُّون، ويتساءلون حول القدر ومآلات الحياة والموت.
أيها الفاضل الكريم: الفشل الكلوي مرض معروف جدًّا، يُصيبَ الناس، وهو بالفعل مرض من الأمراض المزمنة، الأمراض التي تؤدِّي إلى صعوبات ومشاكل كثيرة جدًّا، وهذا أمر معروف جدًّا.
والدتك نسأل الله لها العافية والشفاء، ونسأل الله تعالى أن يجزيها خيرًا على صبرها على هذا الابتلاء، وأنت يجب أن تعرف أن الله تعالى قد فتح بابًا من أبواب الجنة لتصبر على ما ابتُليتْ به والدتك من سقمٍ وعلَّةٍ ومرضٍ، وأن تُحسنَ أنت في العناية بها وتمريضها.
أما أن تُفكِّر بالكيفية التي فكّرتَ بها فهذا أمرٌ غير مقبول، هذا نوع من النكران، هذا نوع من التبرير، هذا نوع من الدفاعات النفسية السلبية، أرجو أن تُعيد طريقة تفكيرك، قضاء الله وقدره هو أمر مكتوب، ولا يُغيِّره إلَّا بالدعاء، والمرض ابتلاء - أيها الفاضل الكريم -.
سيدنا عروة ابن الزبير كان مسافرًا من المدينة المنورة إلى دمشق بدعوةٍ من الوليد بن عبد الملك - الخليفة الأموي - فأُصيب بمرضٍ في رجله، وأخذ المرض يشتدَّ ويشتد، حتى إنه دخل دمشق محمولاً لم يعد قادرًا على المشي، فانزعج الخليفة فجمع له أمهر الأطباء، واجتمع الأطباء وقرروا أن به (الآكلة) - الغرغرينا - وليس له علاج إلَّا البتر - قطع ساقه - فأُخبر عروة بقرار الأطباء فقال: (اللهم لك الحمد)، ولم يزد عليها كلمة واحدة، واجتمع الأطباء على عروة وقالوا: اشرب المرقد أو الخمر - وهو شراب مخدر أو ذاهب للعقل حتى لا يشعر بألم قطع ساقه وبترها - فرفض تمامًا وأبى مستنكرًا ذلك، وقال: (كيف أشربها وقد حرمها الله في كتابه؟) فقالوا: كيف نفعل بك؟ قال: "دعوني أصلي، فإذا قمت للصلاة فشأنكم وما تريدون".
هذه القصة تُظهر احتساب الأجر فيما يُصيب الإنسان من ابتلاء، وتظهر الصبر على البلاء، وتظهر الرضا بقضاء الله في قول عروة "اللهم لك الحمد"، وتُظهر الصبر على الألم والوجع، وتظهر عدم الرضا بالتداوي بشيء مُحرَّم وهو الخمر - أو غيره - وتظهر أن الصلاة بخشوعٍ وأن ذكر الله تعالى دواء وشفاء.
فيا أيها الفاضل الكريم: أرجو أن تعيد تفكيرك، وأرجو ألا تخسر الدنيا والآخرة، وأرجو أن تفكِّر بصورة أكثر واقعية وأكثر عمليَّةً، وأنا حقيقةً لا أنكر عليك أبدًا شيئًا أو أطمئنك بصورة غير منطقية، لا أريد أن أقول لك كلامًا يَسُرَّك ويضرك - أيها الفاضل الكريم - الفشل الكلوي مرض مزمن، مرض صعب على صاحبه، لكن آلاف الناس يُصابون به، وهذا قدرهم، وهذا هو المكتوب لهم، والمرض يُصيب البر والفاجر، يُصيب المؤمن والكافر، لكنَّ الفرق يأتي في الصبر، فالصبر من سمات المؤمن؛ لأنه يحتسب الأجر عند الله تعالى، والصبر ليس له جزاء إلَّا الجنة، واعرف - أيها الفاضل الكريم - أن والدتك هي في كنف الله وفي حفظه، وما تعاني منه من تعبٍ ظاهريٍ يجب ألا يقودك لهذا التفكير، هي في كنف الله وتحت رحمته، وإن كان الطبّ محدودًا فرحمة الله غير محدودة أبدًا.
أيها الفاضل الكريم: انتشل نفسك من هذا التفكير، ولا تجعل الشيطان يساورك ويراوغك ويقودك إلى هذه المهالك، الله فتح لك بابًا إلى الجنة، فاحرص على برِّك بأُمِّك وتمريضها تَفُزْ برضوان الله وجنته، وتسعد في الدنيا والآخرة، فأحسن الظنَّ في الله تعالى، واجتهد في خدمة والدتك.
باركَ الله فيك، وجزاك الله خيرًا، وبالله التوفيق والسداد.
+++++++++++++++
انتهت إجابة د. محمد عبد العليم استشاري أول الطب النفسي وطب الإدمان، وتليها إجابة الشيخ أحمد الفودعي مستشار الشؤون الأسرية والتربوية:
+++++++++++++++
مرحبًا بك في استشارات إسلام ويب.
لقد أسرفت على نفسك في التَّسَخُّطِ من قضاء الله تعالى وقدره، وقَدَرُ الله تعالى نافذ لا محالة، فما قدَّره الله تعالى فينا وشاء أن يكون فإنه كائن شئنا أم أبينا، رضينا أم كرهنا، وقد صدق النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- حين قال: (إن عِظَمِ الجزاء مع عِظَمِ البلاء، وإن الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) رواه الترمذي وغيره.
فالتسخط من قدر الله لن يدفع هذا القدر ولن يردَّه، فقَدَرُ الله نافذ لا محالة، والواجب على العبد أن يصبر – أي يحبس نفسه عن التسخط بفعل أو قولٍ – وينبغي له بعد هذا الصبر أن يرضى بقضاء الله، ولا يرضى إلَّا إذا تذكَّر نِعَمِ الله سبحانه وتعالى عليه الكثيرة، وأن ما أصابه إنما هو جزءٌ يسير ممَّا أصاب غيره، وإذا تذكَّر هذه الحقائق رضي بما هو فيه.
والله تعالى لا يبتلي الناس عبثًا، ولكنه يبتليهم سبحانه وتعالى إمَّا ليُكفِّر ذنوبهم وسيئاتهم بصبرهم على هذا البلاء، وإمَّا ليرفع درجاتهم، وإمَّا ليُخرج ما في صدورهم وقلوبهم من المرض والغل، فيبدو ذلك على ألسنتهم وعلى جوارحهم، فالله تعالى له الحكمة البالغة والحجة القاهرة، وهو أرحم بعباده من أنفسهم، يُقدِّر لك الخير ويسوقه إليك في صورٍ شتَّى، وكمْ من نعمةٍ جليلةٍ ضمَّنها الله تعالى مصائب كبيرة، ولكنَّ الناس لا يعلمون ذلك.
فالواجب عليك - إذا أردت لنفسك الخير في دنياك وفي آخرتك – أن تُحسن ظنَّك بالله، فإنه سبحانه وتعالى أهلٌ لكل ظنٍّ جميل.
واقرأ في كتاب الله تعالى أنبياء الله ورسله وأحوالهم مع البلاء، فهل ما أصاب أُمَّك أو أصابك أنت بتمريضها، هل ما أصابها له نسبة إلى جانب ما أصاب الله تعالى به نبيه وعبده أيوب الذي ابتلاه بمرضٍ في جسمه، ولم يبق إلَّا لسانه يتحرَّك بذكر الله، ثم بعد مُضي زمن الابتلاء نجَّاه الله تعالى، وبدَّل حاله من حالٍ إلى حالٍ، لكنَّه مدحه بصبره ورضاه بقضاء الله تعالى وقدره فقال: {نِعْمَ العبد إنِّه أوَّاب} ففاز بخير الدارين.
فنحن ننصحك بأن ترجع إلى رُشدك وعقلك، وأن تعلم بأن الله تعالى لا يَضُرُّه شيءٌ ممَّا تفعل، فإنه غني عن العالمين، وقد قال سبحانه وتعالى:{يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد}، واعلم بأن الله تعالى لا تنفعه طاعة الطائعين، كما لا تضره معصية العاصين، فلو كفر أهل الأرض جميعًا ما نقص ذلك من مُلك الله شيئًا.
فسارع بإنقاذ نفسك من الهلاك والبوار الذي أنت مُقْدِمٌ عليه، اتقي الله في نفسك، ولا تُوردها مساخط الله تعالى، فإنك إنما تجني على نفسك، بادر بالتوبة، وخذ بالأسباب الشرعية التي شرعها الله تعالى لدفع القَدَر، فاعمل في منفعة نفسك، واسعَ في شفاء أُمِّك، واصبر على ما نزل بها، وستجد في ذلك السعادة الحقيقية.
نسأل الله تعالى أن يُلهمك رُشدك، ويَقِيَكَ شرَّ نفسك.
أسئلة متعلقة أخري | شوهد | التاريخ |
---|---|---|
أريد تفسيرا لكل ما يحدث لنا! | 1506 | الأحد 14-06-2020 05:54 صـ |
هل كل شيء يحدث له غاية؟ | 6280 | الاثنين 30-03-2020 06:05 صـ |
ما الذي يجعلني أتبع الدين بدون قيود؟ | 2532 | الثلاثاء 24-03-2020 05:50 صـ |
كيف أتقبل فشلي في اختبار القرآن؟ | 5334 | الأحد 22-12-2019 12:29 صـ |
كيف أجمع بين الرضا والدعاء؟ | 4754 | الثلاثاء 09-04-2019 07:03 صـ |