أرشيف المقالات

أين موقعك بين العافيتين؟

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
أين موقعك بين العافيتين؟
 
كثيرة تلك المطالب التي يلهث الإنسان وراءها لينالها، فينال بها جانبًا من جوانب سعادته الحياتية، ومسراته البدنية.
 
بيد أن الناس يختلفون فيما يطلبون؛ سموًّا ودنوًّا، نوعًا وكمًّا، خيرًا وشرًّا، لكنهم يتفقون على مطلب كبير كلهم يريده، ولا يريد أن يفارقه؛ لكونه القاعدة الكبرى التي يقوم عليها بنيان راحاته وصرح لذاته - هذا المطلب هو مطلب العافية.
 
وقد تجلى في هذه الأيام قوة الرغبة الإنسانية في المحافظة على بقاء العافية لدى الأصحاء، والبحث الشديد عنها من قِبَلِ المرضى.
 
فالعالم اليوم في تحرك دؤوب، ونشاط غير مسبوق - على المستوى الرسمي والمستوى الشعبي - وبذل سخي، وتعب مضنٍ، كل ذلك مصحوب بالخوف والقلق؛ طلبًا للعافية، وخشية من ذهابها.
 
فلقد قدم العالم تنازلات كبيرة؛ رغبةً في سلامة الأبدان من الإصابة بكورونا، هذه التنازلات لم يكن يومًا ليتنازل عنها بسهولة ولو جرى ما جرى؛ لأنها مرتبطة بالشهوات والأهواء، وليس بالأمر اليسير أن يتنازل أسير الشهوة عن شهوته، والغارق في اللذة عن لذته، فقد أُغلقت دور ونوادي الرذيلة وأماكن اللهو، وأوقفت بعض الدول عن العمل كثيرًا من أماكن الزحام؛ من مصانع وشركات ومطارات ومواطن سياحة وغير ذلك، مع ما لتلك الأماكن من عوائد مالية كثيرة، ومصالح حياتية كبيرة لها، وحظرت دول التجوال، وألزمت الناس بالبقاء في بيوتهم، وترك جميع نشاطاتهم خارج المنزل، وكل هذا من أجل العافية، ولا ملامة في هذه الإجراءات الاحترازية؛ فسلامة الأبدان مما يدعو إليه الشرع والعقل.
 
لكن علينا أن نسبر غور ما يجري، ونقرأ الحدث قراءة إيمانية، نقف من خلالها وقفات اعتبار، ونحن نرى كل هذه الجهود الجبارة، وهذه المخاوف الكثيرة، وهذا التوقف الكبير عن مطامع الشهوات.
 
الوقفة الأولى: إن كل تلك الأعمال صُرفت من أجل عافية الدنيا، التي هي عافية ناقصة وقصيرة ويسيرة ومظنونة، فأين موقع البشرية اليوم من عافية الآخرة، التي هي عافية تامة وخالدة وكاملة ومتيقنة؟ وأين أمارات استعداد الإنسان لعافية الآخرة التي يسلم فيها جسده من النار، وغضب الجبار، ويتنعم في جنات تجري من تحتها الأنهار خالدًا فيها أبد الآباد؟
 
فهل بذلت أيها الإنسان من مالك ووقتك وجهدك من أجل عافية الآخرة، كما بذلت اليوم من أجل عافية الدنيا؟
وهل انقطعت عن مواطن العصيان من أجل عافية الآخرة، كما انقطعت عنها من أجل عافية الدنيا؟
وهل تحرزت في أماكن الطاعة من أجل عافية الآخرة، كما تحرزت اليوم في بيتك من أجل عافية الدنيا؟
وهل حلَّ في قلبك من الخوف على فوات عافية الآخرة، كما حل فيه من الخشية على ذهاب عافية الدنيا؟
وهل حرصت على سلامة أهلك وأولادك من النار، كما حرصت اليوم على سلامتهم من كورونا؟
 
الوقفة الثانية: في ظل هذا الحجر الصحي المفروض يتذكر الإنسان - وهو حبيس بيته - ذكريات جميلة عن أيام العافية قبل مجيء هذا الفيروس:
1- فيتذكر تلك اللحظات السعيدة التي كان يلتقي فيها بأحبابه وأصحابه، بلا مخاوف ولا فواصل حدودية، فيتصافحون ويتعانقون، وابتسامتهم تملأ المكان، والسعادة تعم الجنان، واليوم أصبح الأمر كما قال موسى عليه السلام للسامري عقوبةً له على بدعته: ﴿ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ﴾ [طه: 97]؛ والمعنى: "فاذهب فإن لك في حياتك أن تعيش منبوذًا تقول لكل أحد: لا أمس ولا أمس"[1]، وكما قال ابن زيدون:
 






أضحى التنائي بديلًا من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا


بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
شوقًا إليكم ولا جفت مآقينا


نكاد حين تناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الأسى لولا تأسينا


حالت لفقدكم أيامنا فغدت
سودًا وكانت بكم بيضًا ليالينا[2]






 
2- ويتذكر أيضًا تلك الساعات الرائعة التي كان يقضيها في التنقل من مكان إلى آخر؛ حيث رمى به الهوى، وأحبته النفس، وتسوقه الذكرى في أيام عزلته هذه إلى استحضار راحة نفسه وهي تتنزه في المنتزهات الفاتنة للأبصار، ويخالط الناس فيها ويجالسهم بأمان.
 
3- ويتذكر كذلك سروره الذي كان يجده في ذهابه إلى أماكن الطعام والشراب، فيأكل ويشرب هناك، أو يجلبها معه إلى البيت.
 
4- ويتذكر أنه كان في ذلك العيش السعيد، واليقين الكاذب يخدعه بأنه ستدوم عليه هذه الحال، ولن تتبدل، فما كان يدور في خلده بأنه سيصير إلى ما صار إليه اليوم من العزلة، والانقطاع عن كثير من اللذة.
 
مر مالك بن دينار على قصر فيه بعض الجواري يقلن:






ألا يا دار لا يدخلك حزن
ولا يغدر بصاحبك الزمانُ


فنعم الدار تأوي كل ضيف
إذا ما ضاق بالضيف المكانُ






 
قال: ثم مررت عليه بعد حين وهو خراب وبه عجوز، فسألتها عما كنت رأيت وسمعت، فقالت: يا عبدالله، إن الله يغير ولا يتغير، والموت غالب كل مخلوق، قد والله دخل بها الحزن وذهب بأهلها الزمان[3].
 
واليوم في ظل الحجر الصحي أصبح كل ذلك من الماضي الجميل، الذي لم تبقَ منه إلا الذكريات الحزينة، فربما يتذكر المرء تلك الملذات النفسية والجسدية والحزن يعصر قلبه، ويضيق عليه مكانه في البيت؛ ولسان حاله:






فشتت شملي دون كل أخي هوًى
وأقصدني بل كلهم سيبين


ومهما تكن من ضحكة بعد فقدها
فإني وإن أظهرتها لحزين


سلام على أيامنا قبل هذه
إذ الدار دار والسرور فنون[4]






 
وفي هذه الوقفة نقول: سيأتي على الإنسان المعرض عن ربه زمن الآخرة الذي سيتذكر فيه دنياه الفائتة، ولذات غفلته السالفة، لكنه تذكر يورثه الحسرة الدائمة، من غير أمل في العودة إلى مسرات ماضيه، أما حجر اليوم فسيبقى أمدًا وينتهي، ويعود الناس إلى حياتهم الطبيعية.
 
الوقفة الثالثة: من خلال هذا الحدث العالمي المتعلق بعافية الدنيا، ليأخذ العاقل العبرة بأن يجد ويجتهد في الوصول إلى عافية الآخرة.
 
فما أحسن هذا الحدث مذكرًا من غفل، ومعلمًا من جهل، وواعظًا من سها، ورادًّا من نأى! والراشد من العباد من يقرأ ما وراء الأحداث من العبر، ويتجه إلى الجانب الخفي الذي لا تصل إليه أبصار الناظرين، وإنما تبلغه بصائر المعتبرين؛ كموقف أبي الدرداء يوم فتح قبرص؛ فعن جبير بن نفير قال: "لما افتتح المسلمون قبرص، وفرق بين أهلها، فقعد بعضهم يبكي إلى بعض، وبكى أبو الدرداء، فقلت: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأذل الشرك وأهله؟ قال: دعنا منك يا جبير، ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا تركوا أمره! بينا هم أمة قاهرة قادرة إذ تركوا أمر الله عز وجل؛ فصاروا إلى ما ترى"[5].
 
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.





[1] التفسير الميسر (5/ 382).


[2] ديوان ابن زيدون (ص: 1).


[3] المستطرف (2/ 134).


[4] الأغاني (12/ 181).


[5] العقوبات لابن أبي الدنيا (ص: 19).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣