المسلمون كالجسد الواحد
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
المسلمون كالجسد الواحدإذا كان المسلمون كالجسد الواحد، أو كالبنيان يشد بعضه بعضاً - كما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإن هذا من شأنه أن لا تكون بينهم فُرقة، ولا أن يسود بينهم الهجران، وفساد ذات البين، بل يجدر بهم أن يسود بينهم التواصل والتلاحم، ويتعمَّقَ بينهم الوئامُ والرفاء.
إن أكثر ما تنشرح له صدور أعداء الإسلام والمسلمين، وتَقَرُّ به أعينهم، أن يكون المسلمون متقاطعين متدابرين، متهاجرين متخاصمين، وأن يقع بينهم فساد ذات البين، فيعقب ذلك وينتج عنه أن يصيروا شيعا وأحزاب، وتذهب ريحهم، فيضعفوا ويقوى عدوهم.
من أجل هذا وغيره نهى الإسلام نهيا حاسما عن القطيعة بين المسلمين، وأمرهم أمراً جازما بإصلاح ذات بينهم.
قال تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾ [الأنفال: 1].
ويأمر الله تعالى بالمبادرة إلى إزالة العداوة والقطيعة التي تقع بين طائفتين من المؤمنين لسبب أو لآخر، فيقول سبحانه: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ [الحجرات: 9].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [الحجرات: 10].
وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال»[1].
وعن جابر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «إن الشيطان قد أيس - [وفي رواية «يئس»] - أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»[2].
قال الإمام النووي: هذا الحديث من معجزات النبوة، ومعناه أيس أن يعبده أهل جزيرة العرب، ولكنه يسعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن ونحوها[3].
وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين، ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا»[4].
وعن أبي خراش السلمي، رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه»[5].
وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟» قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: «إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة»[6].
وعلى المسلم أن يسارع بإنهاء القطيعة بينه وبين أخيه، ويبادر بإفشاء السلام عليه، ويعمد إلى أسباب الهجر الذي وقع بينهما فيعمل على إزالتها، وله بهذا عظيم الأجر والمثوبة، وكان أخوه شريكا في الأجر إذا رد السلام، وإن امتنع فقد باء بالإثم.
عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث، فليلقه فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باءا بالإثم، وخرج المسلِّم من الهجرة»[7].
وإن قبول اعتذار المعتذر من الأمور التي تساعد في تقليل حدوث الهجر بين المسلمين، وتعبيد الطريق للوصال والصفاء، وإزالة الشحناء والخصومة، ولذلك ينبغي على المسلم أن يقبل اعتذار أخيه إذا جاءه معتذرا، وهذا من باب العفو والصفح الذي ندبنا إليه الشرع الحكيم.
قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134].
وقال سبحانه: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199].
إن المسلمين إذا تمسكوا بما أمرهم به دينهم من الوحدة وإصلاح ذات البين؛ كان حالهم أفضل مما هم فيه، وصاروا أعزة أمام أعدائهم، وبرئوا مما هم فيه من هوان واستضعاف، بل ولتغير وجه العالم، ولأعاد خصوم الإسلام وأعداء المسلمين حساباتهم مراتٍ ومراتٍ.
لقد أتى علينا زمانٌ نحن فيه كثيرٌ، ولكن كثرتنا لم تُغن عنا شيئًا، ولم تملأ عيون أعدائنا أو نفوسهم مهابة، وأضحت كثرة المسلمين التي جاوزت المليار ونصف المليار - بسبب التفرق والتقاطع والهجران على مستوى الأفراد والجماعات - غُثاء كغثاء السبيل، كما أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذَّر!!
عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثيرٌ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن»، فقال قائلٌ: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا، وكراهية الموت»[8].
[1] رواه البخاري في ك الأدب ب الهجرة 8/ 21 رقم 6076، ومسلم في ك البر والصلة ب النهي عن التحاسد والتباغض والتدابر 4/ 1983 رقم 2558.
[2] رواه مسلم في ك صفة القيامة والجنة والنار ب تحريش الشيطان 4/ 2166 رقم 2812، والترمذي في ك أبواب البر والصلة ب ما جاء في التباغض 4/ 330 رقم 1937، وقال: «هذا حديث حسن»، وأحمد 22/ 256 رقم 14366، و23/ 119 رقم 14816، وأبو يعلى في مسنده 4/ 73 رقم 2095.
[3] شرح النووي على مسلم 17/ 156.
[4] رواه مسلم في ك البر والصلة ب النهي عن الشحناء والتهاجر 4/ 1987 رقم 2565، وأبو داود في ك الأدب ب فيمن يهجر أخاه المسلم 7/ 275 رقم 4916، والترمذي في ك البر والصلة ب ما جاء في المتهاجرين 4/ 337 رقم 2023، وأحمد 15/ 22 رقم 9053.
[5] رواه أبو داود في ك الأدب ب فيمن يهجر أخاه المسلم 7/ 274 رقم 4915، وأحمد 29/ 455 رقم 17935، والطبراني في الكبير 22/ 307 رقم 779، والحاكم في المستدرك 4/ 180 رقم 7292، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
[6] رواه أبو داود في ك الأدب ب في إصلاح ذات البين 4/ 208 رقم 4919، والترمذي في ك أبواب صفة القيامة 4/ 663 رقم 2509، وقال: «حسن صحيح»، وأحمد 45/ 500 رقم 27508، وابن حبان في صحيحه 11/ 489 رقم 5092.
و«الحالقة»: الخصلة التي من شأنها أن تحلق: أي تُهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر، وقيل.
هي قطيعة الرحم والتظالم.
النهاية لابن الأثير 1/ 428.
[7] رواه أبو داود في ك الأدب ب فيمن يهجر أخاه المسلم 7/ 237 رقم 4912، وصحح ابن حجر إسناده، (فتح الباري 10/ 495)، وحسن النووي إسناده في (رياض الصالحين).
[8] رواه أبو داود في ك الملاحم ب في تداعي الأمم على الإسلام 6/ 355 رقم 4297، وأحمد 37/ 82 رقم 22397، والبيهقي في شعب الإيمان 13/ 16 رقم 9887، وحسنه الشيخ شعيب الأرنؤوط.
وقوله صلى الله عليه وسلم (يُوشك الأمم) أي: يقرب فرق الكفر والضلالة (أن تداعى): حذف إحدى التاءين، أي: تتداعى (عليكم): بأن يدعو بعضهم بعضا لمقاتلتكم وكسر شوكتكم وسلب ما ملكمتموه من الديار والأموال (كما تداعى الأكلة) أي: تتداعى، والمعنى: كما يدعو أكلة الطعام بعضهم بعضا (إلى قصعتها) أي: التي يتناولون منها بلا مانع ولا منازع، فيأكلونها عفوا صفوا، كذلك يأخذون ما في أيديكم بلا تعب ينالهم، أو ضرر يلحقهم، أو بأس يمنعهم.
(فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ) أي: أذلك التداعي لأجل قلة نحن عليها يومئذ (قال: بل أنتم يومئذ كثير) أي: عدداً وقليل مددا، (كغثاء السيل) أي ما يحمله السيل من زبد ووسخ، شبههم به لقلة شجاعتهم، ودناءة قدرهم، وخفة أحلامهم، وخلاصته: ولكنكم تكونون متفرقين، ضعيفي الحال، خفيفي البال، مشتتي الآمال، ثم ذكر سببه بعطف البيان فقال: (ولينزعن) أي: ليخرجن (الله من صدور عدوكم المهابة) أي: الخوف والرعب (منكم) أي: من جهتكم (وليقذفن) أي: وليرمين، أي: الله (في قلوبكم الوهن) أي: الضعف، وكأنه أراد بالوهن ما يوجبه؛ ولذلك فسره بحب الدنيا وكراهة الموت.
(مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي بن سلطان محمد، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري (المتوفى 1014هـ)، 8/ 3365 - 3366 باختصار وتصرف، دار الفكر، بيروت - لبنان، ط الأولى 1422هـ - 2002م).