عشرة من مقومات الشخصية الإسلامية (1)
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
عشرة من مقومات الشخصية الإسلامية (1)لا شكَّ أن الشخصيةَ المسلمة في زماننا، تعيش حالةً مؤسفةً من التحقير والإذلال من طرف الشعوب الغربيَّة، التي صارت لا ترى فينا سوى سوق استهلاكية لمنتجاتها، وعقولٍ تابعة لأفكارها، وجمود لاهث وراء بريق حضارتها، وتوق لمحاكاتها وتقليدها، هذه الشخصية تتذيَّل قائمةَ الأمم الأخرى في الاقتصاد، والتعليم، والابتكار، والتنظيم، وسبل العيش؛ فكان من السهل أن تلتصق بالأُمَّة الإسلامية اتهاماتٌ خطيرة، ترميهم بالجهل والتخلُّف، والعنف والإرهاب، وصار كلُّ مسلم - مهما بلغ من حُسن الأخلاق، وسلامة السلوك - في نظر الغربيين أهلًا للكلمات القاسية، والعبارات الشاتمة، والأساليب المستهزئة المذلَّة، إلا القليل.
ففي فرنسا أربعة ملايين من المسلمين لا يُعتبرون عند جملة الفرنسيين سوى عمَّال في آلات، لا يُسمع لهم صوت، ولا يُقام لدينهم اعتبارٌ، إلا بقَدْر خدمتهم للمجتمع، والإسهام في اقتصاده، أو توجيه بوصلة منتخبيه، بينما يوجد هناك قرابة 600 ألف يهودي فقط، يفرضون وجودهم، ويبسطون سيطرتهم، ويملؤون الدنيا صياحًا وصراخًا إذا ما مُسَّت عقيدتهم، أو أُريدوا على ساميَّتِهم.
إذا أنتَ لم تَعرِفْ لِنَفْسِك حقَّها
هَوَانًا بها كانت على الناس أَهْوَنَا
وإيَّاكَ والسُّكْنَى بِدَارِ مذَلَّةٍ
تُعَدُّ مُسِيئًا بَعْدَما كنتَ مُحْسِنَا
وزاد من تعميق هذا الوضع وجودُ بعضِ العناصر منا ممن يكرهون الإسلام والمسلمين، ويعملون على إشعال نار الفتن الطائفية، والقلاقل العِرقِيَّة، في الوقت الذي أضحى فيه المسلمون في أمَسِّ الحاجة للالتفاف حول دينهم، والاعتصام بمنهج نبيِّهم صلى الله عليه وسلم، الذي بنى الشخصية المسلمة أحسنَ بناء، وجعل لها مقوِّمات راسخة، من شأنها أن تجعل منها الشخصيةَ العالمية التي يجب أن تُحتذى، والمثال السامي الذي يجب أن يُقتدى، كما كان المسلمون يوم اعتُبر مَن تحدَّث العربيةَ من الغربيين متحضِّرًا متقدِّمًا، ويوم كانت نظريات الطب عند المسلمين تُدرَّس في فرنسا بالعربية لمدة أربعة قرون.
لذلك كان لزامًا أن نقف وقفة متأنية مع أهمِّ مقومات هذه الشخصية المسلمة، والتي يمكن إجمالها في عشرة، نقتصر اليوم إن شاء الله تعالى على ثلاثةٍ منها:
1- كونها ربَّانية، تقوم على الإيمان بالله ورسوله، والتصديق بما بلَّغه نبيُّنا صلى الله عليه وسلم عن ربه؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 20]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ﴾ [الأنعام: 162، 163]، وهذا الإيمان يقتضي توحيدَ الله تعالى بأنواع التوحيد الثلاثة:
• توحيد الربوبيَّة؛ حيث يعتقد المسلم أن الله تعالى هو خالقه وموجده، وهو الذي يملك التقدير والتصريف والتدبير، وكل ما في الأرض والسماء هو مِن خَلْق الله، لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا؛ قال تعالى: ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ﴾ [سبأ: 22].
وبما أن الله تعالى هو الخالق المدبِّر الحَكَم، فلا حقَّ لأحدٍ أن يشرِّع للناس ما لم يشرِّعْه الله، ولا حقَّ لأحد - مهما بلغ من علوم الدنيا، وحاز من ميداليات التجربة، وأوسمة الحنكة - أن يُحِلَّ ما حرَّمه الله، أو أن يُحرِّم ما أحلَّه الله، وما هانت الشخصيةُ المسلمة في زماننا، إلا لوجود من يعتسف على القوانين الإلهية، ويروغ على التشريعات الربَّانية، بدعوى الحرية والمساواة؛ كالمطالبة بإلغاء التفاضل في الإرث بين الرجال والنساء، وإباحة الخمور، وتسويغ الزنا والشذوذ الجنسي، وإباحة الإفطار في رمضان، وتجويز حرية الدين والعقيدة، وغير ذلك.
• توحيد الألوهية، وهو صرفُ العبادة لله وحده، لا إلى الأوثان والأحجار، ولا إلى القرود والأبقار، ولا إلى المال والعَقَار، ولو كان صاحب ذلك يَدَّعي معرفةَ الواحد الغفار، وأنه الخالق القهار؛ فقد قال ذلك أهل الجاهلية فما نفعهم بشيء، قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾ [الزخرف: 9].
• توحيد الأسماء والصفات، بإثبات الكمال لله فيها كمالًا مطلقًا، دون تعطيل، أو تأويل، أو تشبيه، أو خوضٍ في كيفيةٍ، بل نقول كما قال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].
وذكر ربُّنا عز وجل هذه الأنواع الثلاثة جملةً واحدةً في قوله تعالى: ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65].
2- كونها منقادة للشرع، مذعنة للوحي؛ لأنه كلامُ الله أو كلام رسوله، لا الجنوح إلى التأويلات العقلية، ولا إلى الاجتهادات البشرية الوهمية؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الجاثية: 18].
لقد ضعُفت الشخصية المسلمة وهانت؛ لأنه وُجد من بين المنتسبين لها مَن ينادي بفصل الدين عن الدنيا، وإبعاد الدين عن السياسة والحُكم، وقَصرِ الدين على المساجد، وتسييج الأسئلة الدينية ببعض القضايا الفقهية التعبُّدية؛ قال تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
3- كونها محاطة بهالة من محبَّة الله ورسوله، والشوق إليهما، لا تبغي بدلهما شيئًا، ولا تقدِّم بين يديهما أحدًا؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [الحجرات: 1]، ومن الأمور الثلاثة التي تؤشِّر على وجدان حلاوة الإيمان عند المسلم: ((أن يكون اللهُ ورسولُه أحَبَّ إليه ممَّا سواهما))؛ متفق عليه.
غير أنها محبَّة محفوظة من الغُلوِّ، نائية عن المبالغة، لا ترفع النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلى مقام الأُلوهية، الذي قد يعبَّر عنه بالتمسُّح بالجدران والشباك، أو دعائه، والتوكُّل عليه، أو الاستغاثة به، أو الطواف بقبره والسجود له، أو التوسُّل بذاته، مما رأينا كثيرًا من الناس يفعلونه، من غير سند مِن شرعٍ، أو دليلٍ من سُنَّةٍ؛ فلا محبَّة من غير صدق الاتباع.
مَن يدَّعِي حبَّ النبيِّ ولمْ يُفِدْ
من هَدْيِهِ فسفاهَةٌ وهُرَاءُ
والحبُّ أولُ شرطِهِ وفروضِهِ
إنْ كانَ صِدقًا طاعةٌ ووفاءُ
إن محبَّة الصحابة الكرام لله ورسوله، جعلتهم يهاجرون مرتين إلى الحبشة، ومرَّة من مكة إلى المدينة، تاركين وراءهم أزواجَهم وأولادهم، وأموالهم وممتلكاتِهم، لا يبغون إلا الله ورسوله؛ ضحَّوا بالغالي والنفيس من أجل أن يبلُغَنا هذا الدين ناضجًا، غضًّا، طريًّا، لم تعبث به يد الكذَّابين، ولم تداخله لوثة المتربِّصين.
هذا صهيبٌ نموذج للتضحية البليغة في سبيل دين الله، تحبسه قريش عن الهجرة حتى يترك لهم كلَّ ماله، ويقولون له: "قدِمتَ إلينا ولا مالَ لَكَ، وتخرجُ أنتَ ومالُكَ؟ والله لا يَكونُ ذلك أبدًا، فقال لهم: أرأيتُمْ إن دَفعتُ إليكم مالي، تُخلُّونَ عنِّي؟ قالوا: نعَم، قال: فدفعتُ إليهم مالي، فخلَّوا عنِّي، فخرجتُ حتى قَدِمْتُ المدينةَ، فبلغَ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: ((ربحَ صُهَيْبٌ، ربحَ صُهَيْبٌ))؛ صحَّحه في فقه السيرة، وفيه نزل قول الله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207].
لم يكن صهيب ينتظر من النبيِّ صلى الله عليه وسلم منصبًا مرموقًا يعوِّض به أمواله، ولا جاهًا في دولة الإسلام يرفع به بين القوم هامته، ويستطيل به قامته، بل كان نموذجًا للشخصية المسلمة، التي تُؤْثِر اللهَ ورسولَه على مصالحها الشخصية، وتقدِّمهما على منافعها الذاتية.
لم تضمحل الشخصية المسلمة في زماننا إلا لتنكُّر بعضنا لهذه القدوات الشامخة، الذين سمَّاهم الله بالسابقين الأولين، وقال فيهم نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: ((احفظُوني في أصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلُونَهُم))؛ ص.
ابن ماجه، وأجمع علماؤنا على وجوب توقيرهم، وفرض تقديرهم؛ قال الإمام مالك رحمه الله: "الذي يشتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليس له نصيبٌ في الإسلام".
هم القوم إن قالوا أصابوا، وإن دُعُوا
أجابوا، وإن أَعطَوا أطابوا وأجزَلوا
ولا يستطيع الفاعلون كفعلِهم
وإن حاولوا في النازلات وأجمَلوا