أبحث عن صديق
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
أبحث عن صديقتُحتِّم علينا روابطُ الصَّداقة شروطًا من الواجب الحفاظُ عليها، لا في مقابل المكافأة والجزاءِ على حُسن الصَّنيع، ولكن لأنَّ الصداقة هكذا، مقدَّرٌ لها أن تكون وتحيا.
في بعض الأحيان يتطلَّب الواحد منَّا أن يتحلَّى بصفات تأباها نفسه؛ لما فيها من المذلَّة والضعف، وعلى الرّغم من كل الضُّغوطات والقيود التي تجعل الواحد منَّا يحدِّث نفسه، وربَّما يصرخ بأعلى صوته: لماذا عليَّ أن أتحمَّل هذه الآصار؟! أليس من السهل أن أزيلها عن عاتقي وفكري؟! أليس من السَّهل أن أكسر تلك القيود، وأتحرَّر من سجن الذُّل والانكسار الذي أقبع فيه؟! أليس من اليسير جدًّا أن أفُكَّ تلك الروابط، وإن كانت قد مضى عليها كثير من السنين، ولا سيَّما إذا اصطليتُ بنارها مرَّات إثرَ مرَّات؟!
إلا أني أجدني حائرًا في حل ذاك الرِّباط، بل وأجد نفسي تَزجرني عن فِعل ذلك!
نعم، ربَّما على الإنسان الذي لا يَفهم معنى الصداقة، ولا يكترث لأمر يسمَّى ردَّ الجميل والمقابلة بالإحسان والصَّبر على أذى الحبيب، هو من يَسهل عليه قطع العلائق، والإخلال بالشروط، وتعدِّي الحدود؛ لأنَّ معاني الأخوّة غير موجودة أصلاً في قاموس فكره، فالأثَرة وحبُّ الذات، وحظُّ النفس لا يمكن لهم أن يتركوا في القلب حيِّزًا - ولو كان قليلاً - لِفَهم الخصال السامية التي تسمو بالنفس في العلياء؛ ما دامت مستمسكةً بالأصول والثوابت.
كثيرٌ مَن يجهل - أو يتجاهل - الواجبات والشروط التي فُطرَتْ عليها الأنفس، وجاءت الشريعة بتقريرها وتكميلها؛ لإصلاح عالم البشر الذي امتلأ بالأشرار، وما أكثرَ مَن يخالفها في زماننا هذا، الذي تعدَّدت عجائبه، وانهارت فضائله، وانقلبَت فيه الموازين! أحيانًا نُخدع في هؤلاء، ونَصبُّ اللومَ المتواصلَ على أنفسنا في أنَّنا ربَّما لم نحسن التعامل، أو لم نفهم ما يجب علينا فعلُه، أو من الممكن أنَّنا قد أخطأنا في حقِّ غيرنا، وحتَّى لم ندرِ ماذا فعلنا! وهذا الاتهام للنفس محمودٌ مطلوب؛ ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 53].
فالنفس أمَّارة بالسوء، وتسعى دائمًا إلى نيل مُبتغاها، حتى ولو كان على حساب ظُلم الآخرين، أو هَضم حقوقهم، ولكن بعد الاتِّهام والبحث والتحرِّي لا نزال عاجزين عن العُثور على السَّبب في قطع أواصر الصداقة، وهدم بنيانها الذي أُسِّس منذ أمد بعيد؛ هل السبب فينا أو في غيرنا؟! ربَّما تسامُحنا المفرِط مَن جرَّ علينا تلك الويلات، وجرَّأ علينا كل نذلٍ لئيم، قد كنَّا نحسبه في يوم من الأيام صديقًا وفيًّا! وهل يصل الحدُّ به حتَّى يُحيط الخطأ - إن كان خطأً فعلاً - بهالةٍ من التَّشهير والتعنيف؟! أو يصل به الحدُّ في آخر المطاف إلى الهجر، حتى أصبحنا نرى من يؤصِّل ويقعِّد بأنَّ الأصل في المسلم هو وجوب أخذ الحَيطة منه؛ بحجَّة أنَّه مجهول أو غير معروف! لا اعتبارَ لحسن الظنِّ بالمسلم، فضلاً أن يكون داعيةً أو طالبَ علم، لا لالتماس الأعذار، لا للرِّفق ولا للنصيحة، بل للتشهير والفضيحة، فأصبح واقع أمتنا يُرثى لحاله!
فوا أسفاه على أمَّة وصَل بها الحال أن أضحى أبناؤها يمزِّق بعضهم بعضًا! لم تكفِ ضربات الأعداء ومطارقُ الخصوم التي تتناوب عليها صباحَ مساء حتَّى صار جسدها الواهي الممزَّق فريسةً للذئاب الذين يتربَّصون بها الأخطار.
لم تكفِ كل هذه الصدماتُ الموجعة في جسد أمَّتنا المتهاوي، حتى جرَّعها أبناؤها السمَّ الزُّعاف، أبناؤها يَسومونَها سوء العذاب، أبناؤها يعقُّونها ويهينونها، كفَيْنا أعداءنا بأنفسنا، اختلفنا وتفرَّقنا لأتفه الأسباب! ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105]، وأطلَقنا العِنان للشيطان يلعَب بنا كيفما شاء!
وما وجد - ولن يجد - الشيطانُ لابن آدم مدخلاً كمثل هذه المداخل لإيقاعه في حبائله؛ يأتيه مِن باب العبادة ليوقعه في أوهى المسالك، وأردى المهالك، فهل أصبح التعيير والتجريح بغير أثارةٍ مِن علم ولا سلطان مبين هما أُسَّ العبادة وروحَها؟! وهل هذا السُّكوت على المنكَر سيستمرُّ ويَبقى، أو علينا أن نُنهي مراحله وأشواطه، فنرتاح مِن صراعنا الدخيل الذي أجَّجَته نار العداوة والبغضاء لغير سبب معلوم؟!
إنَّها لمِن المصيبة أن تُصاحب صديقًا تظنُّ أنه يفهمك ويقدِّر ظروفك، ويراعي أحوالك، ويعتذر لك في مواطن الهفوة والزلل، ويقوِّيك عند الضعف والشدائد - مصيبةٌ أن تُفتقد هذه الأخلاقُ فينا، وتجدها عند قومٍ فاسقين أو كافرين، إنَّه من السَّهل أن تألفَ إنسانًا تعتقد أنه سيكون في يوم من الأيام سَنَدك، ومشجِّعَك على اقتحام الحياة بما تَحمله من أعباءٍ وأخطار، ثم سرعان ما تجد أنك قد أخطأتَ العنوان، وضللتَ الطريق! فتُصاب بنوبةٍ من الاكتئاب والضجر، وتحسُّ أنَّ الدنيا ضاقت عليك بما رحُبَت، وأنَّك تتنفَّس من فمِ إبرة؛ لأنَّك بكل سذاجة وغفلةٍ اعتقدت أنَّك قد وجدْتَ ما كنتَ تصبو إليه، وظفرتَ بما لم يظفر به غيرك عليه، وأنَّك قد عثرت على مطلبك الغالي، وهدفك المنشود.
إنَّه ليعزُّ على النَّفس أن تجد صديقًا وفيًّا تأنسُ إليه في وَحدتها، وتتسلَّى به في غُربتها، صديقًا يجدِّد فيها العزيمة والقوة والإرادة، صديقًا يغرس فيها حبَّ طاعة الإله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم!
آه على عُمُرٍ ضاع في بحور الأمنيات! آه على حياة زلَّت بها الأقدام! وا أسَفاه على نفسٍ ضاقت بها الحِيَل، ولم تجِد سوى العبَرات لإطفاء لوعة الحُرقة التي سكنَت فؤادها!
مال هذي النفس في هذا العالم الذي ينوء بما يَحمله من أنس، ثم لم تجد مِن بينهم مَن تبثُّ إليه همومَها، وتشكو إليه ألمها الدَّفين، وجُرحَها العميق، سوى السُّهاد الذي يؤرِّقها، والاكتئابِ الذي يَصحبها!
ولكن على الرغم من انقلاب الأصحاب وتآمُر الأحباب ستظلُّ أيها المسلم قويًّا؛ ما دُمتَ تحمل سلاحًا لا يخذلك، وتصحب إلهًا لن يتخلَّى عنك، ستظل شامخًا كالنَّسر فوق القمة الشمَّاء، وأنت تدعو الله أن يقوِّي ضعفك، ويُرشدك سبيل الحق؛ لأنَّك اعتقدت اعتقادًا جازمًا أنَّ الله تعالى لا يُخيِّب من رجاه ولا يردُّ من دعاه، ولا يُخلف وعده؛ هو أملُك ورجاؤك، ما دمتَ مستمسكًا بدينه وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم.