أرشيف المقالات

الخلاصة في القيم

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2الخلاصة في القـيم
القيمةُ تعني مساواةً لمقدارِ المُثمَّن من غيرِ نُقصانٍ ولا زيادةٍ، فالثَّمَنُ قد يكون بَخْسًا، وقد يكون وفقًا، وربما كان زائدًا، ولكنَّ القيمة ليست كذلك؛ لأنها تمثلُ المعبرَ الحقيقيَّ عن فحوى الشَّيءِ، سواءٌ كان معنويًّا أم ماديًّا.
جاءَ في الصحاح؛ للجوهري، الصحاح الخامس: (والقيمةُ: واحدةُ القيمِ، وأصله الواو؛ لأنه يقوم مقام الشيء)[1]، وفي القاموس المحيط؛ للفيروزابادي: (والقِيمةُ بالكسر: واحدةُ القِيَمِ، وما لَه قِيمةٌ: إذا لم يَدُمْ على شيءٍ، وقَوَّمْتُ السِّلْعَةَ واسْتَقَمْتُه: ثَمَّنْتُه، واسْتَقَامَ: اعْتَدَلَ، وقَوَّمْتُه: عَدَّلْتُه، فهو قَويمٌ ومُسْتَقِيمٌ، وما أقْوَمَهُ: شاذٌّ، والقَوامُ - كسَحابٍ -: العَدْلُ وما يُعاش به، وبالضم: داءٌ في قوائِمِ الشاءِ، وبالكسرِ: نِظامُ الأمْرِ وعِمادُه ومِلاكُه؛ كقِيامِه وقُومِيَّتِهِ)[2].
لذلك؛ فإن الله تعالى قال عن القرآن الكريم، الذي هو كلامه جل جلاله، كما هو صفة من صفاته - أنه قيِّم، قال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ﴾ [الكهف: 1، 2]، ولا شكَّ في أنَّ كلَّ ما في كتابِ الله جل جلاله له قيمةٌ، وليست أي قيمة، إنها قيمةٌ عظمى وعليا وتامة.
وفي القرآن الكريم قيمٌ تشريعيةٌ، وقيمٌ لغويةٌ، وقيمٌ اجتماعيةٌ، وقيمٌ أخلاقيةٌ، وقيمٌ اقتصاديةٌ...
إلخ، ثم إن الله جل جلاله سمَّى الدين الذي هو الإسلام، والذي يتضمن الشريعةَ التي يحيا بها الناس - قيِّمًا، قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 161]، فإن كلَّ ما في الدين من عقيدةٍ أو أحكامٍ أو معاملاتٍ أو أخبار أو قصص أو عِبر - لذو قيمة عليا.
وفي المصباح المنير؛ للفيومي: ("القيمة" الثمن الذي "يُقَاوَمُ" به المتاع، أي "يَقُومُ مَقَامَهُ"، والجمع "القِيَمُ"، مثل: سدرة وسِدَر، وشيء "قِيمِيٌّ" نسبة إلى القيمة على لفظها؛ لأنه لا وصفَ له ينضبط به في أصل الخلقة حتى ينسب إليه، بخلاف ما له وصفٌ ينضبطُ به، كالحبوب والحيوان المعتدل، فإنه ينسب إلى صورته وشكله، فيقال: "مِثليٌّ"؛ أي: له مِثْلٌ، شكلًا وصورةً من أصل الخلقة، و"قَامَ يَقُومُ قَوْمًا وقِيَامًا": انتصب، واسم الموضع "المَقَامُ" بالفتح، و"القَوْمَةُ" المرة، و"أَقَمْتُهُ إقَامَةً"، واسم الموضع "المُقَامُ" بالضم، و"أقَامَ" بالموضع "إِقَامَةً": اتخذه وطنًا)[3].
وفي تاج العروس من جواهر القاموس؛ للزبيدي: (والقِيمَةُ - بالكَسْرِ -: واحِدَةُ القِيَمِ، وهو ثَمَنُ الشَّيْءِ بالتَّقْوِيمِ، وأَصلُه الوَاوُ؛ لأَنَّه يَقُومُ مَقَامَ الشَّيءِ، ويُقالُ: مَا لَهُ قِيمَةٌ، إذَا لَمْ يَدُمْ عَلَى شَيْءٍ ولم يَثْبُتْ، وهو مَجَازٌ، "وقَوَّمْتُ السِّلْعَةَ" تَقْوِيمًا)[4].
وفي تهذيب اللغة؛ للأزهري: "وقال كعب بن زهير: فهُمْ ضَرَبُوكُم حينَ جُرتُمْ عن الهُدَى ♦♦♦ بأسيافِكُمْ حتى استَقمتُم على القِيَمْ

قالوا: القِيَم: الاستقامة، دينًا قِيمًا: مستقيمًا، ويقال: رُمْحٌ قَوِيمٌ، وقَوامٌ قَوِيمٌ؛ أي: مستقيم"[5]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (تقول العامَّة: قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحسن، والعارفون يقولون: قيمة كلِّ امرئ ما يطلب)[6]، والذي يعنينا بهذا القول هو قولُ العارفين؛ لأن عامةَ الناس يعملون ويحكمون على الأشياء بالظاهر، وأما العارفون، فيهتمون بالسرائر ونقائها.
وكلُّ عملٍ كان خالصًا لله جل جلاله قُبِلَ؛ لذلك فإن قيمنا التي نسعى لها ينبغي أن تكون من ضمنِ مطلبنا في رضا الله جل جلاله، وليس من أجلِ الدنيا والتكبر على الخلق، فتكون القيمُ متعلقة بمعنًى روحيٍّ إيجابيٍّ، ترتقي بالإنسان، وترفع من قدره، وتوفر له الحياة الكريمة، وهذا هو الداء الذي وقعت فيه بنو إسرائيل، حين لم يقيموا التوراة والإنجيل، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 66].   فخلاصة القول: أنَّ القِيمَ هي مجموعةُ المبادئ التي تتبنَّاها جماعةٌ من الناس، والتي تكون إيجابية مطلقًا - فليست هناك قيمٌ سلبية، على عكس الأخلاق - وتمارسها الشعوب؛ لتضمن بقاءها في دائرة الحياة الحرة والكريمة لأفرادها، وتكون القيم ذات ثمن معنوي عظيم؛ ولهذا سميت كذلك، وهي دلالة على الاستقامة، وهي التي تحددُ مسار الأخلاق الإيجابية في الأمة.
أو أنها: مجموعةٌ من الفضائلِ المتفقِ عليها بين أفرادِ مجتمعٍ ما، ويُحكم بموجبها على سلوك الأفراد أو الجماعات بالحُسن أو بالسوء، وعلى الأشياء بالجمال أو القبح، وعادة ما تكون عامةً، وإن الأخلاقَ هي تفصيلاتُها، والقيم تختلف من أمة لأخرى؛ لأن الأمم تختلف في أعرافِها وثقافتِها ومعتقداتِها ونظم حياتها عن بعضها بعضًا، ولكن في الغالب هناك مشتركات عامة يتفق عليها البشر بحكم التشابه في الإنسانية والخلق، ثم جاء الإسلام ووحَّدها في المجتمعات التي تنتمي إليه، مع مراعاة للجوانب الخاصة لأمم معينة.
وأحيانًا يتحول خلقٌ معين إلى قيمة، وذلك حين يتحول من صفة فردية إلى ظاهرة أو عرف اجتماعي، ومثالٌ على ذلك الكرمُ، فالكرمُ حين يتصف به فرد فهو خُلق، ولكن حين تتصف به أمة فهو قيمة، فمن أمثلةِ اتصافِ أمة العرب بالكرم: "أن رجلًا سألَ حاتمًا الطائي فقال: • يا حاتم، هل غلبك أحدٌ في الكرم؟ • قال: نعم، غلامٌ يتيمٌ؛ وذلك أني نزلت بفنائه وكان له عشرة أرؤس من الغنم، فعمد إلى رأس فذبحه وأصلح لحمه وقدَّمه إليَّ، وكان فيما قدم الدماغ، فقلت: طيبٌ والله.
فخرج من بين يدي، وجعل يذبح رأسًا بعد رأس ويقدم الدماغ، وأنا لا أعلم، فلما رجعتُ لأرحلَ، نظرتُ حول بيته دمًا عظيمًا، فإذا هو قد ذبح الغنم بأسرها، فقلت له: لمَ فعلتَ ذلك؟
قال: يا سبحان الله، تستطيب شيئًا أملكه، وأبخل عليك به؟! إن ذلك لسبة على العرب قبيحة. فقيل: يا حاتم، فبماذا عوضتَه؟ قال: بثلاثمائة ناقة حمراء، وبخمسمائة رأس من الغنم. فقيل: أنت أكرم منه. قال: هيهات! بل هو واللهِ أكرم؛ لأنه جَادَ بكل ما ملك، وأنا جُدت بقليل من كثير"[7].
فالعربُ أمةٌ عُرفت بالكرم، وصار الكرمُ من قيمها الاجتماعية التي ما زلنا إلى اليوم نتفاخرُ بها، بل يعمل بعضُ أفراد أمتنا بموجبه، وأصبح جزءًا من قيم أمتنا أنها تتفاخر بحاتم الطائي، بالرغم من عدم إسلامه، مثلما تتغنى بكرم عبدالله بن جدعان وأخلاقه، وهو مثل حاتم، واللذان أصبحَا جزءًا من تراثها وقيمها.
وبموجب ذلك فإنَّ سموَّ الروح، والاعتزاز بالعرق، وتراث الأجداد وتاريخهم، والتمسك والفخر به، والتماسك العائلي، والرجولة، والعلم والثقافة، واللغة - تُعدُّ قيمًا للمجتمعات؛ لذلك فبالإمكان أن نقول: إن كل خلق إيجابي هو قيمة، ولكن ليست كلُّ قيمة هي خلقًا؛ ذلك أنَّ القيمَ هي الأساس الذي تنبثق عنه الأخلاق الإيجابية، وأما الأخلاق السلبية، فمصدرها الشيطان والنفس الأمارة.

وإنَّ القيم هي ضابطة الأخلاق وبوصلتها، وهي أعمُّ، والأخلاقُ أخصُّ، والقيم تدعو إلى الفضلِ، وتتجاوزُ حدودَ الاتفاقات على الخير، والأخلاق تقف عند حدود ما اتفق عليه، فالأخلاق تدفعُك إلى أن تطعم فقيرًا، ولكنَّ القيمَ هي التي تجعلك تبني له بيتًا، وتزوِّجُه، وتسيرُ معه إلى النهاية، من هنا كان العربُ أصحابَ قيم، ولكنهم كانوا يعانون من قصورٍ في بعض الأخلاق، والغربُ اليومَ أصحابُ أخلاقٍ من غير قيمٍ، وكانت المثاليةُ في الإسلام عندما جعل القيمَ قائمةً بشؤون الأخلاق، ثم مزج بينهما.


[1] الصحاح؛ الجوهري، ج6، ص 295. [2] القاموس المحيط؛ الفيروزابادي، ج1، ص1387. [3] المصباح المنير؛ المقري الفيومي، ج2، ص 520. [4] تاج العروس من جواهر القاموس؛ الزبيدي، ج33، ص 312. [5] تهذيب اللغة؛ الأزهري، ج3، ص 267. [6] النبوات؛ ابن تيمية، ج11، ص 54. [7] المستجاد من فعلات الأجواد؛ القاضي التنوخي، ص58.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣