كلمة عن التوبة إلى الله
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
كلمة عن التوبة إلى الله نعم يا أخي..
لك توبة وتوبة
أرأيتَ إلى هذا الأخ الكريم، كيف رجَع إلى فطرته الخيِّرة النقية مِن بعد أن ركبَ رأسه، واتبَع هواه ونفسه، وصاحب شياطين الإنس حقبةً مِن الزمن، اقترف فيها صنوفًا مِن الآثام، وألوانًا من الذنوب.
جلس إليَّ على غير موعد، وتحدث إليَّ على غير معرفة سابقة، وكأنما ساقه القدَر لنتبادلَ حديثًا في الخير خالصًا، ومَودةً في الله صادقة، عسى أن يكون مِن وراء ذلك برٌّ وطُهرٌ، وزكاةٌ وخير، ﴿ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ [إبراهيم: 20].
صارحني بكثير مما اقترف جملةً وتفصيلًا، حتى كنتُ أشيد عليه بطَيِّ الحديث وإجماله، فليس لي في هذا التفصيل مِن حاجةٍ.
أيقن أنه كله عيوب وآثام، وأنْ ليس له أمل في هدى ولا توبة، فقد قضى دهرًا طويلًا في حمأة الرذيلة، فأنى له أن يدخلَ حظيرة الطُّهر والفضيلة؟
اسْتَصْغَر نفسه، فلا يراها تصلح بعدما فسدتْ، واستعظم ذنوبَه فلا يراها تُغفر بعدما جسمتْ، حتى لقد كرَّر مقالةَ القانطين: فهل لي من توبة؟ فهل لي من توبة؟
نعم يا أخي، لك توبةٌ وتوبة، وليستْ ذنوبك كلها شيئًا مذكورًا في جنب يأسك وقنوطك، إن الشيطان قد أغراك حتى كاد يرديك، فلما أن شعر برجوعك إلى فطرتك التي فطرك اللهُ عليها، جاءك بالطامة الكبرى، وهي اليأس مِن روح الله، والقنوط من رحمة الله؛ ﴿ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾[الحجر: 56]، وهذه يا أخي هي موطنُ الخطر، فتدارَكْ نفسك وارحمها إن كنتَ لها محبًّا، وبها رفيقًا.
إنَّ شعورك بالنقص هو مبدأ الكمال، وإن استصغارك لنفسك هو أول خطوات الخير والفضيلة، لكن الخطر كل الخطر هو المغالاة والإفراط، حتى تنكسَ فلا تجد لك مقيلًا.
هوِّنْ على نفسك، فلستَ أكثر جرمًا ممن قد كفَر وأشرك، ثم رجع إلى ربه تائبًا مسلمًا؛ ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [الأنفال: 38]، ولستَ أكثر ذنوبًا ممن أسرفوا على أنفسهم، ولم يَدَعُوا جريمةً إلا ارتكبوها، ولا موبقةً إلا اقترفوها، ثم رجعوا إلى الله فتاب عليهم، وعفا عنهم، وأَدْخَلَهُم برحمته في عباده الصالحين.
واستمع إلى ما رواه النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّ ناسًا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، وانتهكوا الحرمات، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، إن الذي تقول وتدعو إليه لحسنٌ لو تُخبرنا بأن لما عملنا كفارة، فنزلتْ: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 68 - 70]، قال: يُبدل شركهم إيمانًا، وزناهم إحصانًا، ونزلتْ: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 53]، لعل لك يا أخي في هذا نفعًا، وإن شئت أن تزداد قدوتك فهذا حديث الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى صلوات الله عليه: روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنَّ نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قَتَل تسعةً وتسعين نفسًا، فسأل أعلم أهل الأرض؛ فدُلَّ على راهبٍ فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له مِن توبة؟ فقال: لا، فقَتَلَهُ فكَمَّل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجلٍ عالم، فقال: إنه قَتَل مائة نفس، فهل له مِن توبة؟ فقال: نعم، مَن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلِقْ إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجعْ إلى أرضك؛ فإنها أرض سوءٍ، فانطلق حتى إذا نصف الطريق، أتاه مَلَك الموت فاختصمتْ فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالتْ ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه على الله تعالى، وقالتْ ملائكة العذاب: إنه لم يعملْ خيرًا قط، فأتاهم مَلَك في صورة آدمي، فجعلوا حكمًا بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيها كان أدنى فهو له، فقاسوا فوَجَدُوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقَبَضَتْهُ ملائكة الرحمة)).
وفي رواية: ((فأوحى الله إلى هذه أن تباعَدي، وإلى هذه أن تقربي، وقال: قيسوا بينها؛ فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر، فغفر له)).
أخي، ما أظن أنَّك أسرفتَ إسرافَ هذا الرجل، وقد تاب الله عليه لما رجع إليه خالصًا مخلصًا، وما أظنك إلا اقتنعتَ وشمرتَ عن ساعد الجد، وعزمتَ عزيمةً صادقةً لا تشوبها شائبة تسويف ولا فتورٍ أن ترفضَ رُفقاء السوء، وأن تجالسَ أهل الخير والتقى، وأن تسأل الله الهداية قلبًا وقالبًا إلى الصراط المستقيم، الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
مجلة البريد الإسلامي: العدد 1، 2، المحرم وصفر 1363هـ، يناير، فبراير 1944م