يا معشر الشباب
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
يا معشر الشبابعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، وان لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ».
النكاح:
في اللغة الضم والتداخل، وفي الشرع: عقد التزويج، قال الفارسي: إذا قالوا: نكح فلانة أو بنت فلان، فالمراد العقد، وإذا قالوا: نكح زوجته، فالمراد الوطء.
والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله تعالى: ﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ﴾ [النساء: 3]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ﴾ [النور: 32].
قوله: (عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه)، في رواية عن علقمة قال: كنت مع عبدالله، فلقِيه عثمان بمنى، فقال: يا أبا عبدالرحمن، إن لي إليك حاجة فخَلَوَا، فقال عثمان: هل لك يا أبا عبدالرحمن في أن نزوِّجك بكرًا تذكِّرك ما كنت تعهد، فلما رأى عبدالله أن ليس له حاجة إلى هذا أشار إليَّ، فقال: يا علقمة، فانتهيت إليه وهو يقول: أما لئن قلت ذلك، لقد قال لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".
قوله: (يا معشر الشباب): المعشر جماعة يشملهم وصف ما، والشباب جمع شاب، ويُجمع أيضًا على شَبَبَةٍ وشُبان بضمِّ أوله، وأصله الحركة والنشاط، وهو اسم لمن بلغ إلى أن يكمل ثلاثين، قال القرطبي: في المفهم يقال له حدث إلى ستة عشر سنة، ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين، ثم كهل، وقال النووي: الأصح المختار أن الشاب من بلغ ولم يجاوز الثلاثين، ثم هو كهل إلى أن يجاوز الأربعين، ثم هو شيخ، وقال أبو إسحاق الإسفراييني المرجع في ذلك إلى اللغة، وأما بياض الشعر فيختلف باختلاف الأمزجة.
قال الحافظ: خص الشباب بالخطاب؛ لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم إلى النكاح بخلاف الشيوخ، وإن كان المعنى معتبرًا إذا وجد السبب في الكهول والشيوخ أيضًا؛ انتهى.
والمراد بالباءة القدرة على مؤن النكاح.
قال النووي: اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد، أصحهما أن المراد معناها اللغوي وهو الجماع، فتقديره من استطاع منكم الجماع لقدرته على مُؤَنه، وهي مُؤنُ النكاح، فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مُؤنه، فعليه بالصوم ليدفع شهوته، ويقطع شر منِّيه كما يقطعه الوجاء، وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشباب الذين هم مظنة شهوة النساء، ولا ينفكون عنها غالبًا.
قال الحافظ: ولا مانع من الحمل على المعنى الأعم بأن يراد بالباءة القدرة على الوطء ومؤن التزويج[1].
قوله: (فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)؛ أي: أشد غضًّا وأشد إحصانًا له ومنعًا من الوقوع في الفاحشة، وقد روى مسلم من حديث جابر رفعه: "إذا أحدكم أعجبته المرأة، فوقعت في قلبه، فليعمِد إلى امرأته فليُواقعها، فإن ذلك يرد ما في نفسه".
قوله: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم)، في رواية عند الطبراني: "ومن لم يقدر على ذلك، فعليه بالصوم".
قال الحافظ: (فيه إشارة إلى أن المطلوب من الصوم في الأصل كسر الشهوة، قوله: "وجاء"،الوفاء رَضُّ الأنثيين، والإخصاء سَلُّهما، وإطلاق الوجاء على الصيام من مجاز المشابهة؛ انتهى.
قال القرطبي: المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزوبة؛ بحيث لا يرتفع عنه ذلك إلا بالتزويج، لا يختلف في وجوب التزويج عليه.
وعن طاوس: قال عمر بن الخطاب لأبي الزوائد: إنما يمنعك من التزويج عجز أو فجور؛ أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، وأخرج الحاكم من حديث أنس رفعه: "من رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه على شطر دينه، فليتَّق الله في الشطر الثاني".
قال الحافظ: وفي الحديث أيضًا إرشاد العاجز عن مؤن النكاح إلى الصوم؛ لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل، وتقوى بقوته وتضعف بضَعفه، واستدل به الخطابي أيضًا على أن المقصود من النكاح الوطء، ولهذا شرع الخيار في العنة، وفيه الحث على غض البصر وتحصين الفرج بكل ممكن، وعدم التكليف بغير المستطاع، ويؤخذ منه أن حظوظ النفوس والشهوات لا تتقدم على أحكام الشرع، بل هي دائرة معها)[2].
تتمة:
قال في الاختيارات: والإعراض عن الأهل والأولاد ليس مما يُحبه الله ورسوله، ولا هو دين الأنبياء؛ قال الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ [الرعد: 38]، والنكاح في الآيات حقيقة في العقد والوطء والنهي لكل منهما، وليس للأبوين إلزام الولد بنكاح من لا يريد، فلا يكون عاقًّا كأكل ما لا يريد، ويحرم النظر بشهوة إلى النساء والْمُرد، ومَن استحله كفر إجماعًا، ويَحرُم النظر مع وجود ثوران الشهوة، وهو منصوص الإمام أحمد والشافعي، ومن كرَّر النظر إلى الأمرد ونحوه، وقال: لا أنظر بشهوة كذب في دعواه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾ [طه: 131]، وأما إن كان على وجه لا ينقص الدين، وإنما فيه راحة النفس فقط كالنظر إلى الأزهار، فهذا من الباطل الذي يستعان به على الحق، وكل قسم متى كان معه شهوة، كان حرامًا بلا ريب، سواء كانت شهوة تمتع بالنظر، أو كانت شهوة الوطء واللمس والنظر، وإن احتاج الإنسان إلى النكاح، وخشي العنت بترْكه، قدَّمه على الحج الواجب، وإن لم يخف قدَّم الحج، ونصَّ الأمام أحمد عليه في رواية صالح وغيره، واختاره أبو بكر، وإن كانت العبادات فرض كفاية كالعلم والجهاد، قدِّمت على النكاح إن لم يخش العنت[3]؛ انتهى.
وقال المجد: باب النظر في المخطوبة في حديث الواهبة المتفق عليه، فصعد فيها النظر وصوبه، وعن المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدمَ بينكما"؛ رواه الخمسة إلا أبا داود، وعن أبي هريرة قال: خطب رجل امرأة فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئًا"؛ رواه أحمد والنسائي وعن جابر، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: "إذا خطب أحدكم المرأة، فقدر أن يرى منها بعض ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل"؛ رواه أحمد وأبو داود، وعن موسى بن عبدالله عن أبى حميد أو حميدة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "إذا خطب أحدكم امرأة، فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة، وإن كانت لا تعلم"؛ رواه أحمد، وعن محمد بن مسلمة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: "إذا ألقى الله عز و جل في قلب امرئ خطبة امرأة، فلا بأس أن ينظر إليها"؛ رواه أحمد وابن ماجه؛ انتهى والله الموفق.
[1] فتح الباري: (9/ 108).
[2] فتح الباري: (9/ 110).
[3] الاختيارات الفقهية: (1/ 527).