أرشيف المقالات

الكرم والعطاء

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2الكرم والعطاء
الكرم: هو سعة الخلق، فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر من الإنسان، ولا يقال هو كريم حتى يظهر منه ذلك، فيقال للشخص بأنه كريم إذا ظهر منه أعمالٌ كبيرة: كإنفاق مال كثير في عُسرة، أو تحمل حملٍ تُحقن به دماءُ قوم.   وأكرم الأفعال المحمودة ما يقصد به أشرف الوجوه، وأشرف الوجوه ما يقصد به وجه الله تعالى، فمن قصد وجه الله تعالى في أفعاله فهو التقي الكريم، قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، فأكرم الناس من قصد بأفعاله المحمودة وجه الله تعالى، وهو الذي يفوز بثواب الدنيا والآخرة، كما قال عز وجل: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114]، فخص سبحانه بالأجر العظيم من أراد بإحسانه مرضاة الله الكريم.   وكل شيء يشرف في بابه يوصف بأنه كريم، كما قال تعالى: ﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ [لقمان: 10]، فأشرف كل جنس أكرمه، ولما كان عطاء الله ورزقه لعباده وثوابه لهم لا نظير له في حسنه وكثرته وسعته وُصف بأنه كريم، كما قال تعالى: ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحج: 50]، وقال تعالى: ﴿ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴾[يس: 11].   وقد سمى سبحانه نفسه بالكريم والأكرم، ووصف نفسه بالكرم، لأن لفظ الكرم جامع للمحاسن، لا يراد به مجرد الإعطاء، بل الإعطاء من تمام معناه، وإلا فالكرم كثرة الخير ويسره، فالله سبحانه أخبر بأنه الأكرم في قوله تعالى: ﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾ [العلق: 3]، بصيغة التفضيل والتعريف لها ـ، فدل على أنه الأكرم وحده مطلقًا غير مقيد، فدل على أنه متصف بغاية الكرم الذي لا شيء فوقه ولا نقص فيه، فهو سبحانه الكريم مطلقًا الذي كمل كرمه وكبر فضله.   أما الجود: فهو سعة العطاء وكثرته، ولهذا يوصف الله تبارك وتعالى به لسعة عطائه وكثرته، كما في سنن الترمذي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود»[1]، فالله تعالى أجود الأجودين وأكرم الأكرمين، وكل ما بالعباد من نعم فمن جوده وكرمه سبحانه وتعالى.   ولما كان الله تبارك وتعالى قد جبل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم على أكمل الهيئات وأشرفها وبعثه ليتمم مكارم الأخلاق كان صلى الله عليه وسلم أكرم الناس وأجود الناس على الإطلاق، كما كان أفضلهم وأكملهم في جميع الأوصاف الحميدة، ففي صحيح مسلم رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ـ في استفتاح صلاة الليل ـ: «واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت»[2].   وكان جوده صلى الله عليه وسلم يجمع أنواع الجود، ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وأشجع الناس[3].   وفيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام، فيدارسه القرآن، فلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة[4]، وفي الصحيحين عن جابر قال: «ما سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا»[5]، وفي الترمذي وغيره ـ بسند قوي ـ عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخر شيئًا لغد[6].   والمقصود: أن الكرم والجود من الأخلاق الكريمة والصفات الجليلة التي يحبها الله تعالى، وجبل عليها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وشرع لعباده المؤمنين التأسي به صلى الله عليه وسلم فيها، فعلى الداعية إلى الله تعالى أن يتحلى بالكرم والجود عن احتساب وغنى نفس، وليجاهد نفسه على ذلك فإنه منصور ومهدي، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69] ، وقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].   وكما أن العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتصبر يصبره الله، فهكذا من جاهد نفسه على الجود والكرم وفقه وزاد من فضله وبارك له فيما أعطاه، وحشره مع أهل الكرم والتقوى، فما أكرم المآل وما أعظم البشرى!   وحتى يكون الداعية ناجحًا في دعوته نافعًا للخلق بفضل ما آتاه الله تعالى، فإن الكرم والجود من أسباب محبة الخلق وهدايتهم للحق، ولذا كان الكرم والجود ديدن النبي صلى الله عليه وسلم وأظهر أخلاقه، فكان صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق نفسًا وأجودهم بالخير وأجزلهم عطية، فكان صلى الله عليه وسلم لا يحصي ما يعطي، ولا يَمُنُّ بما أعطى، فقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يلبث إلا يسيرًا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها[7].   وفيه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى يوم حنين صفوان بن أمية مائة من الإبل، ثم مائة، ثم مائة[8]، قال صفوان رضي الله عنه: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إلي فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ.   وفي البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعراب يوم حنين: «فلو كان لي عدد هذه العضاة ـ أي: الشجر الذي في الوادي ـ نعمًا لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلًا ولا كذوبًا ولا جبانًا»[9].   ففي كرمه صلى الله عليه وسلم وجوده أسوة للداعية إلى الله تعالى الذي يرجو أن يكون من اتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم في الدعوة على بصيرة، وأن يجمعه الله تعالى به في الجنة لما كان عليه من محبته واتباعه في السيرة، فإذا جمع الله للداعية أن مَنَّ سبحانه عليه ببذل العلم والدعوة إلى الخير، والجود بالمال في وجوه الخير ابتغاء وجه الله تعالى، فقد جمع الله له أسس الخير وأعلى مقامات الإحسان والبر وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسُلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها»[10] متفق عليه.
فكيف إذا جمع له بين الاثنين: العلم والمال، والجود والكرم فيهما؟!   وفي الترمذي عن أبي كبشة عمر بن سعد الأنماري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه..." الحديث، وفيه: قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالًا وعلمًا فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان فهو بنيته، فأجرهما سواء..." الحديث[11].   فأنفق -أخي الداعية- مما آتاك اللهُ في وجوه الخير عند الحاجة، وعلى قدر الطاقة، وعن طيب نفس، ولا تتطلع إلى ما بيد غيرك، فإن حد السخاء بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة، وأن توصله مستحقه بقدر الطاقة، فكن سخيًا متورعًا متعففًا جوادًا كريمًا، فإن السخي قريب من الله تعالى، ومن خلقه، ومن أهله، وقريب من الجنة، وبعيد من النار.   ولا تظنن أن كثرة الإنفاق تنقص الرزق ـ فذلك ظن سوء برب العالمين ـ بل ثق أن ما أنفقته سيخلف الله عليك بدله وخيرًا منه، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39].   وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا»[12].   وفيهما أيضًا عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يا ابن آدم أَنفق أُنفق عليك»[13].   وفيهما عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»[14].   وفي البخاري عنه أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربعون خصلة أعلاهنّ منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة»[15].


[1] أخرجه الترمذي برقم (2799). [2] أخرجه مسلم برقم (771). [3] أخرجه البخاري برقم (2820)؛ ومسلم برقم (2307). [4] أخرجه البخاري برقم (6)؛ ومسلم برقم (2308). [5] أخرجه البخاري برقم (6034)؛ ومسلم برقم (2311). [6] أخرجه الترمذي برقم (2362). [7] أخرجه مسلم برقم (2312). [8] أخرجه مسلم برقم (2313). [9] أخرجه البخاري برقم (3148). [10] أخرجه البخاري برقم (73)؛ ومسلم برقم (816). [11] أخرجه الترمذي برقم (2325). [12] أخرجه البخاري برقم (1442)؛ ومسلم برقم (1010). [13] أخرجه البخاري برقم (4684)؛ ومسلم برقم (993). [14] أخرجه البخاري برقم (12)؛ ومسلم برقم (39). [15] أخرجه البخاري برقم (2631).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن