أرشيف المقالات

الوسطية في العبادات

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
الوسطية في العبادات

أهلُ السنَّة وسَط في أمور العبادات بين أهل التفريط، الذين يضيعون العبادة، فلا يخشعون ولا يطمئنون عند أدائها، وأهل الإفراط، الذين يخالفون سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ويتجاوزون الحدَّ عند أداء العبادة، وسوف نذكر بعض الأمثلة على ذلك:
(1) روى أحمدُ عن أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أسوأ الناس (أي: أقبحهم) سرقةً الذي يسرق من صلاته))، قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرق من صلاته؟ قال: ((لا يتم ركوعَها ولا سجودها))؛ (حديث صحيح) (مسند أحمد - ج 37 - ص 319 حديث22642).
• قال علي الهروي رحمه الله: قيل: جعَل جنس السرقة نوعين: متعارفًا وغير متعارفٍ، وجعل غير المتعارف أسوأ؛ لأن أخذَ مال الغير ربما ينتفع به في الدنيا، ويستحل من صاحبه، أو تقطع يده، فيتخلص من العقاب في الآخرة، بخلاف هذا السارق؛ فإنه سرَق حق نفسه، وأبدل منه العقاب، وليس في يده إلا الضرر؛ (مرقاة المفاتيح - علي الهروي - ج 2 - ص 717).
 
(2) روى الشيخانِ عن أبي هريرة: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل، فصلى، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد وقال: ((ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تصلِّ))، فرجع يصلي كما صلى، ثم جاء، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تصلِّ)) ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق، ما أُحسن غيره، فعلمني، فقال: ((إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعدل (أي تعتدل) قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، وافعل ذلك في صلاتك كلها))؛ (البخاري حديث: 757/ مسلم حديث: 397).
قوله: (فإنك لم تصل)؛ أي: لم تصل صلاةً كاملةً أو صحيحةً؛ (مرقاة المفاتيح - علي الهروي - ج 2 - ص 650).
قال الإمام النووي رحمه الله: هذا الحديث دليل على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود والجلوس بين السجدتين؛ (مسلم بشرح النووي - ج 4 - ص 108).
 
(3) روى البخاريُّ عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبِروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؛ قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمَن رغب عن سنتي فليس مني))؛ (البخاري حديث: 5063).
 
(4) روى الشيخانِ عن عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألم أُخبَرْ أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟))، قلت: إني أفعل ذلك، قال: ((فإنك إذا فعلتَ ذلك هجمت عينك (ضعف بصرها)، ونفهت (تعبت) نفسك، وإن لنفسك حقًّا، ولأهلك حقًّا؛ فصُمْ وأفطر، وقُمْ ونَمْ))؛ (البخاري حديث: 1159/ مسلم حديث: 1159).
قال الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله: في هذا الحديث بيانُ رِفق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته، وشفقته عليهم، وإرشاده إياهم إلى ما يُصلحهم، وحثه إياهم على ما يطيقون الدوام عليه، ونهيهم عن التعمق في العبادة؛ لما يخشى من إفضائه إلى الملل المفضي إلى الترك، أو ترك البعض، وقد ذم الله تعالى قومًا لازموا العبادة ثم فرطوا فيها؛ (فتح الباري - لابن حجر العسقلاني - ج 4 - ص 225).
 
(5) روى الشيخان عن سعد بن أبي وقاصٍ قال: (رد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعونٍ التبتُّلَ، ولو أذن له لاختصينا)؛ (البخاري - حديث: 5073/ مسلم حديث: 1402).
قال الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله: قوله: (رد على عثمان)؛ أي: لم يأذن له، بل نهاه، والمراد بالتبتل هنا الانقطاع عن النكاح وما يتبعه من الملاذ إلى العبادة.
قال الطبري رحمه الله: التبتُّل الذي أراده عثمان بن مظعونٍ: تحريم النساء، والطِّيب، وكل ما يلتذُّ به؛ فلهذا أنزل في حقه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 87]؛ (فتح الباري - لابن حجر العسقلاني - ج 4 - ص 225).
قال الإمام النووي رحمه الله: قوله: (لاختصينا) معناه: لو أذن له في الانقطاع عن النساء وغيرهن من ملاذ الدنيا، لاختصينا؛ لدفعِ شهوة النساء، ليمكننا التبتل، وهذا محمول على أنهم كانوا يظنون جواز الاختصاء باجتهادهم، ولم يكن ظنهم هذا موفقًا؛ فإن الاختصاءَ في الآدمي حرام، صغيرًا كان أو كبيرًا؛ (مسلم بشرح النووي - ج 9 - ص 118).
• معنى الخصاء:
الخصاء: هو قطع الخصيتين اللتين بهما قوام النسل، أو تعطيلهما عن عملهما.
 
(6) روى الشيخانِ عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ((ما هذا الحبل؟))، قالوا: هذا حبلٌ لزينبَ، فإذا فترت تعلَّقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا، حُلُّوه، ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد))؛ (البخاري - حديث: 1150/ مسلم - حديث: 784).
(الساريتين) مفردها السارية؛ أي: العمود الذي يقوم عليه السقف.
قوله: (ما هذا الحبل؟)؛ أي: لماذا هو ممدود هكذا؟
قوله: (لزينب)؛ أي: لزينب بنت جحشٍ، إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم.
قوله: (فإذا فترت)؛ أي: كسِلَتْ عن القيام في الصلاة.
قوله: (تعلقت)؛ أي: تعلَّقت بالحبل حتى تتابع قيامها ولا تنام.
قوله: (نشاطه)؛ أي: على قدر مدة نشاطه؛ (فتح الباري - لابن حجر العسقلاني - ج 3 - ص 36).
قوله: (فليقعد)؛ أي: عن القيام بالعبادة.
قال الإمام النووي رحمه الله: هذا الحديثُ فيه الحثُّ على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمق، والأمر بالإقبال عليها بنشاطٍ، وأنه إذا فتر فليقعد حتى يذهب الفتور؛ (مسلم بشرح النووي - ج 6 - ص 73).
(7) روى البخاريُّ عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كانَتْ عندي امرأة من بني أسدٍ، فدخل علَيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((من هذه؟)) قلت: فُلانةُ، لا تنام بالليل، فذكر من صلاتها، فقال: ((مه! (أي كفى) عليكم ما تطيقون من الأعمال))؛ (البخاري حديث: 1151).
 
(8) روى مسلم عن عبدالله بن مسعودٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هلَك المُتنطِّعون)) قالها ثلاثًا؛ (مسلم حديث: 2670).
قال الإمام النووي رحمه الله: قوله: (المتنطِّعون)؛ أي: المتعمِّقون الغالُون، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم؛ (مسلم بشرح النووي - ج 16 - ص 220).
 
(9) روى مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلى أحدُكم للناس فليخفِّفْ؛ فإن في الناس الضعيفَ، والسقيمَ، وذا الحاجة))؛ (مسلم حديث: 467).
 
(10) روى البخاري عن ابن عباسٍ، قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، إذا هو برجلٍ قائمٍ، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل، نذَر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مُرْه فليتكلم، وليستظلَّ، وليقعد، وليتمَّ صومه))؛ (البخاري حديث: 6704).
 
(11) روى الشيخان عن أنسٍ رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخًا يهادى بين ابنيه، قال: ((ما بال هذا؟))، قالوا: نذر أن يمشي، قال: ((إن اللهَ عن تعذيب هذا نفسَه لَغَنيٌّ))، وأمره أن يركب؛ (البخاري حديث: 1865/ مسلم حديث: 1642).
قوله: (يهادى)؛ أي: يمشي بينهما معتمدًا عليهما.
قوله: (ما بال هذا؟)؛ أي: ما شأن هذا يمشي هكذا؟

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣