int(20076) array(0) { }

أرشيف المقالات

الحكمة من البلاء (1)

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
الحكمة من البلاء (1)
 
يحكى أن ثلاثة من العميان دخلوا في غرفة بها فيل، وطُلِب منهم أن يكتشفوا ما هو الفيل ليبدءوا في وصفه.
 
بدءوا في تحسُّس الفيل وخرج كل منهم ليبدأ في الوصف:
قال الأول: الفيل هو أربعة عمدان على الأرض!
قال الثاني: الفيل يشبه الثعبان تمامًا!
وقال الثالث: الفيل يشبه المكنسة!
 
وحين وجدوا أنهم مختلفون بدءوا في الشجار، وتمسَّك كل منهم برأيه، وراحوا يتجادلون ويتهم كل منهم الآخر بأنه كاذب ومُدَّعٍ!
 
بالتأكيد لاحظت أن الأول أمسك بأرجل الفيل، والثاني بخرطومه، والثالث بذيله.
 
يتعامل الكثيرون منا مع الابتلاءات التي تواجههم كتعامل هؤلاء العميان، يحكمون على الأمور بعيون قاصرة، وبنظرة محدودة، ولا يدركون جميع أبعاد الأمر، يرون الظاهر فقط دون أن يفكروا في مآلات الأمور وعواقبها البعيدة.
 
لما أخبر الله تعالى الملائكة أنه سيخلق خليفة في الأرض، استشكلوا ذلك بأن هذا الإنسان سيفسد في الأرض ويسفك الدماء؛ ذلك لظنهم أن هذا الخلق شر ووراءه شرور أكثر؛ وذلك لأن علمهم ليس كعلم الله؛ لذلك قال الله لهم: ﴿ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30].
 
ولم يدركوا أن هذا الخلق وإن كان ظاهره شر فإنه ليس شرًّا محضًا؛ بل سيترتب عليه الكثير من المنافع، لم يدركوا أن سيكون من هذا الخلق الأنبياء والشهداء والصالحون والشهداء الذين يباهي الله بهم؛ بل منهم من هم أفضل من الملائكة، ولم يدركوا كم العبادات والفوائد المترتبة على خلق الإنسان وعمارة الأرض به.
 
فأراد الله أن يبين لهم خطأ ظنهم، فعَلَّم آدمَ الأسماء كلها، ثم عرضها عليهم فلم يعرفوها، فعلموا بذلك فضيلة آدم عليهم، وعلموا كمال حكمة الله وعلمه في تقدير الخلق، فاعترفوا بذلك قائلين: ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 32].
 
ذكر السعدي في تفسيره: (قال الله تعالى للملائكة: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ ﴾ [البقرة: 30] من هذا الخليفة ﴿ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]؛ لأن كلامكم بحسب ما ظننتم، وأنا عالم بالظواهر والسرائر، وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة، أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر، فلو لم يكن في ذلك إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصدِّيقين، والشهداء والصالحين، ولتظهر آياته للخلق، ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة، كالجهاد وغيره، وليظهر ما كمن في غرائز بني آدم من الخير والشر بالامتحان، وليتبين عدوه من وليِّه، وحزبه من حربه، وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه، واتصف به، فهذه حكم عظيمة، يكفي بعضها في ذلك).
 
لو أن شخصًا لا يقرأ ولا يعلم قصة سيدنا يوسف من قبل، ثم شرع في قراءتها، فإذا به يجد سيدنا يوسف يُلقَى في البئر، ثم يُباع في السوق، ثم يُبتلى بفتنة امرأة العزيز، ويدخل السجن وغيرها من الابتلاءات التي مر بها، وهو النبي الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم.
 
لو علم كل ذلك ولم يكمل القصة لظن السوء بأقدار الله، ولكنه عندما يصل لنهاية القصة ويرى تتابُع الأحداث يعلم كم أن الله كان لطيفًا بسيدنا يوسف في هذه الأحداث، ويدرك أن كل بلاء منها كان حلقة في سلسلة وصول سيدنا يوسف بحكم مصر وتمكينه من خزائنها.
 
فلولا أنه أُلقي في البئر لما أخذته القافلة، ولما ذهب إلى القصر، ولولا مراودة امرأة العزيز له لما أُدخِل السجن، ولما علم به ملك مصر، ولما جعله على خزائن مصر.
 
إذًا فكل تقدير من تقديرات الله كانت خيرًا وإن بدا للناظر وقتها غير ذلك.
 
غالبًا ما نكون كسيدنا موسى مع الخضر، نستعجل الحكم على الأمور، أو على أقل تقدير نريد أن نعرف الحكمة وراء كل قدر يصيبنا، لا نريد أن يلحق بنا أي شَرٍّ.
 
لكن لو كان عندنا عِلْمٌ كعلم الخضر، لعلمنا أن كل بلاء وراءه خير ونفع كبير، قد لا تدركه عقولنا وحواسُّنا القاصرة.
 
فلولا الخرق الصغير في جسم السفينة لفقد المساكين السفينة كلها، ولولا موت الغلام الكافر لما عوَّض الله والديه بغلامٍ خير منه، ولولا بناء الخضر للجدار دون أجر لفقد الغلامان اليتيمان كنزَهما.
 
ولكن بما إننا ليس عندنا هذا العلم اللدني، فلا يشترط أن نعلم الحكمة من كل أمر يحدث لنا، إذا كان سيدنا موسى لم يعلم هذه الحكم قبل أن يخبره الخضر، فهل سنكون نحن أعلم بكل حكمة لأفعال الله؟!
 
قد يطلعنا الله على بعض الحكم ليربط على قلوبنا ويثبتها وقت البلاء، ولكن قد تحدث أمور لا نعرف حكمتها ليختبر الله إيماننا بالقدر ويقيننا في حكمة الله، فلا نكون كاليهود الذين لا يؤمنون حتى يروا كل شيء أمام أعينهم كما قالوا لسيدنا موسى: ﴿ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [النساء: 153].
 
أو كالكفار الذين لا يريدون أن يؤمنوا حتى يروا الله بأعينهم فيقولون: "أو نرى ربنا"، كما قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 21].
 
بل نؤمن بالغيب وما يغيب عنا من قضاء الله وحكمته، ونؤمن أن تقدير الله كله خير للمؤمن، ونؤمن أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا.
 
نؤمن بأن الله سبحانه حكيم يضع الأشياء في مواضعها وهو أحكم الحاكمين سبحانه وله الحكمة البالغة.
 
نؤمن بأنه عليم يعلم الغيب والشهادة، ويعلم ما يصلحنا ويناسبنا، وهو رحيم لطيف ودود أرحم بنا من أمهاتنا، فلا يصيبنا ببلاء إلا لأنه يريد أن يعافينا من بلاء أكبر منه، لا يبتلينا إلا ليعافينا، ولا يكسرنا إلا ليجبرنا.
 
نؤمن بأن كل شر ظاهر وراءه خير باطن، فعسى أن نكره شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا.
 
ألم يكن إلقاء موسى في البحر مكروهًا وبلاءً لأُمِّ موسى ومظنة هلاك لموسى عليه الصلاة والسلام؟!
 
ولكن كانت عاقبته حسنة له ولأمه؛ حيث نجَّى الله موسى سالمًا، وأرجعه إلى حِضْن إمه، وأقر عينها به.
 
لولا الضغط على زجاجة العطر لما فاحت منها الرائحة الزكية، ولولا الضغط على قلبك بالبلاء لما انتشر عطرك ولما ظهر أريج الإيمان من قلبك زكيًّا عطرًا فوَّاحًا يجذب القلوب إليك ويرضي ربك عنك.
 
ألا تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء شم رائحة عطرة، فلما سأل عنها سيدنا جبريل، أخبره أنها رائحة ماشطة بنت فرعون؟
 
فعلامَ استحقَّت أن يبقى عطرها كل هذه الأعوام حتى يشمَّه النبي؟ أليس ذلك بسبب ما حل بها من بلاء ومحنة؟
 
البلاء هو عطرك الباقي الذي يثبت حتى تلقى به ربك، فلولاه لما اشتم قلبك رائحة الأنس بالله والتضرع إليه والاستكانة بين يديه.
 
البلاء وإن كان ظاهره ألمًا فإن باطنه أمل، ولولا الألم لما أحس الإنسان أن هناك مرضًا بالجسم يحتاج إلى أن يُعالَج، فهو ألم مفيد، وإلا فإن بعض الأمراض كالسرطان قد يصيب شخصًا ويزيد وينتشر في جسمه ويصل لمرحلة متقدمة جدًّا من المرض دون أن يعلم أنه مصاب به؛ لأنه لا يحدث ألمًا بالجسم.
أرأيت أن الألم نعمة في مثل هذه الحالات، فلو كان تألَّم منه لسهل عليه اكتشافه وعلاجه مبكرًا.
 
يُحكى أنه كان لامرأة صينية عجوز إناءان، أحدهما سليم، والآخر به شرخ، وكانت تقوم بملئهما كل يوم بالماء من النهر، وتحملهما على كتفيها بعمود خشبي حتى تصل إلى المنزل، وفي نهاية المطاف كان أحدهما يصل بكمية الماء كاملة، والآخر بنصف كمية الماء، وذلك لمدة سنتين كاملتين، وبالطبع كان الإناء السليم مفتخرًا بنفسه، والإناء الآخر محتقرًا لنفسه، وفي يوم من الأيام وبعد سنتين من المرارة والإحساس بالفشل والنقص، تحدث الإناء المشروخ للسيدة العجوز وقال لها: إني خجل جدًّا من نفسي؛ لأني عاجز وبي عيب يسرب الماء على الطريق المؤدي إلى المنزل! فابتسمت العجوز وقالت: ألم تلحظ الزهور التي على جانب الطريق من ناحيتك، وليست على الجانب الآخر!
 
أنا على علم تام بالماء الذي يتسرب منك؛ لذلك قمت بغرس البذور على طول الطريق حتى ترويها، وأنا في طريق عودتي للمنزل، وقمت بتزيين المنزل بهذه الزهور، وإن لم يكن بك هذا العيب ما نبتت الزهور، ولم أجد هذا الجمال يزين منزلي!
 
فلولا كسرك بالبلاء لما أينعت زهورك، ولما أشرق بستان إيمانك ويقينك بالله.
 
فلولا كسرك لما عرفت حقيقة الدنيا وسرعة زوالها وهوانها على الله، ولما عرفت الآخرة ونعيمها، ولما أقبلت عليها تطمع فيما أعَدَّه الله في الجنة للصابرين على البلاء.
 
بلاؤك هو الصدمة الكهربائية التي تنعش قلبك من موته وتعلِّقه بغير الله وتعيده إلى رحاب حب الله وحده والتعلق به وحده.
 
فبلاؤك في الأشخاص الذين تعلق بهم قلبك تعلُّقًا مذمومًا يفيقك وينتشلك من هذ الداء الوبيل الذي يسقط القلب في أسفل سافلين، ويخبرك أنه لا يُحَب لذاته إلا الله، ويجعلك لا تأمن إلا بالله، ولا يسكن فؤادك إلا به، ولا ترجو النفع من سواه، ولا تتوكَّل إلا عليه.
 
لولا بلاؤك لما زال عن قلبك الران والكبر والغرور والطغيان الذي يغشاه، لولاه لما رجعت إلى ربك، ولظللت على غيِّك وجَهْلك وذنوبك حتى تلقى الله بها، قال تعالى: ﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف: 168].
 
لولا البلاء لما استشعرت نعم الله عليك، ولما خرجت كلمة الحمد لله من قلبك بقوة كما تخرج وقت البلاء، لولاه لما استشعرت حال المحرومين، ولما أحسست بما يجول في قلوبهم.
 
لولاه لجئت إلى القيامة مفلسًا كما قال أحد السلف: "لولا البلاء لجئنا يوم القيامة مفاليس".
 
بلاؤك- إذا صبرت عليه وعلمت أنه من عند الله وبقضائه وقدره- يكون سببًا في هداية قلبك في المصائب وفي جميع أمورك، وهداية قلبك يتبعها هداية جوارحك ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11].
 
قال ابن كثير في تفسير الآية: "﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11]؛ أي: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعوَّضه عما فاته من الدنيا هدًى في قلبه، ويقينًا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرًا منه."

شارك المقال

فهرس موضوعات القرآن