مسرح وسينما
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
مسرحية (ست البنات)
تأليف: الأستاذ أمين يوسف غراب. إخراج: الأستاذ حمدي غيث.
تمثيل: فرقة المسرح المصري الحديث. للأستاذ علي متولي صلاح بدأ التنافس يشتد بين المؤلفين وبين الفرق المسرحية عندنا على تقديم المسرحيات الهزلية (الكوميدية) حتى أوشكت أن تستغرق المسرح المصري كله.
ومرد ذلك - من غير شك - إلى أن هذه المسرحيات قريبة من أهواء الجماهير، محببة إلى نفوسهم، وإلى أنها تجلب من (الإيراد) ما لا تجلبه سواها من المسرحيات! ولست أدري ما الذي يهدف إليه الكثيرون من مؤلفي هذه المسرحيات؟ اللهم إن كان كل ما يهدفون إليه هو إضحاك الجماهير - دون نظر إلى أي اعتبار آخر - فليس عليهم من بأس إذا هم تركوا المسرحية واكتفوا (بالنكتة) الشعبية، أو (القافية) البلدية، أو هز البطون وتلعيب الحواجب وإخراج اللسان وما إلى ذلك، فإن في هذا غناء لهم أي غناء، ومتسعاً لهم أي متسع! أما إذا كانوا يهدفون إلى الإضحاك عن طريق (المسرحية) فإن لزاماً عليهم أن يراعوا قواعد هذه المسرحية، وأن يدرسوا أصولها، وأن يجعلوها غرضهم الأول بحيث يكون الضحك منبعثاً عنها، متشععاً من داخلها، لا منصباً عليها انصباباً من الخارج في افتعال وإقحام؛ ليستمر ضحك الجمهور، وترتفع قهقهته، فيضمن المؤلف والفرقة ازدحام الناس ووفرة الإيراد! وليست المسرحية التي نعالجها اليوم نموذجاً أعلى لهذا اللون من المسرحيات التي يقصد منها إلى الإضحاك وحده وإن أخذت بالكثير من أسبابها - ولكن هذه الظاهرة واضحة في مسرحياتنا الهزلية، حنح إليها المؤلفون جنوحاً كبيراً حتى جعلوا مقدار نجاحهم يساوي تماماً مقدار ما تؤدي إليه مسرحياتهم من إضحاك، دون نظر إلى مقومات المسرحية أو إلى الغرض التهذيبي أو العقلي منها! ومسرحيتنا اليوم (ست البنات) تقوم على قصة شاب يشتغل محامياً تزوج حديثاً، ولكنه ظل سادراً في غيه وضلاله، منصرفاً عن بيته وعن مكتبه إلى عشيقاته الكثيرات اللائى اتخذ لهن مسكناً خاصاً أنيقاً يقضي فيه معهن السهرات الممتعة والليلات الملاح! ولكن زوجته - وقد ضاقت بذلك كثيراً - اتخذت صورة خادمة المنزل واتفقت مع وكيل مكتبه - بعد أن بذلت له الوعود المعسولة! - على أن يوافيها بأنبائه جميعاً، ويطلعها على حركاته وسكناته، ويفضي إليها بأسراره ومواعيده مع عشيقاته.
واتخذت - من ناحية أخرى - صفة مندوبة جمعية وهمية تسمى (جمعية الهلال الأخضر).
وجعل وكيل المكتب - وقد سحره جمالها وجمحت به رغبته في تحقيق وعودها! - يفضي إليها كل يوم بتلك الأنباء والمواعيد.
وأخذت هي - بصفتها مندوبة جمعية الهلال الأخضر - تتصل بأباء عشيقاته.
وتعمل جاهدة على أن تفسد عليه كل خطة.
وأن تأخذ عليه كل سبيل. ثم انتهت إلى أن عرفت مكان مسكنه الخاص ومأوى عشيقاته.
ففجأته فيه ذات ليلة.
ولكنها لم تجده به.
وإنما وجدت صديقاً له كان قد استبقاه وطلب إليه القيام بخدمة كبرى! فقد اجتمع له في مساء تلك الليلة موعدان مع عشيقتين يريد إحداهما ويأبى الأخرى.
ولن يستطيع أن يجمع بينهما في صعيد واحد! فطلب إلى صديقه هذا أن ينتظر بالمنزل حتى تحضر هذه (الأخرى) فيحاول أن يتخذ معها موقفاً مريباً يفجؤهما فيه هذا الزوج فيثور عليها ويطردها من المنزل فيصفو له الجو مع عشيقته التي يهواها! ولكن الزوجة هي التي حضرت - قبل العشيقة المرتقبة - فحسبها الصديق تلك العشيقة ورغب في القيام بالمهمة التي طلبها إليه صديقه.
ورغبت هي أيضاً - بينها وبين نفسها - في ذلك لإشعال نار الغيرة في صدر زوجها.
فالتقت الرغبتان.
وجاء الزوج فرأى هذا الموقف المريب.
فتاب وأناب.
وأقسم لها بالله العظيم أن يهجر هذا المنزل.
وأن يثوب إلى زوجته وإلى عمله مدى الحياة. ذلك هو الخط الرئيسي لمسرحية (ست البنات)؛ ولست أفهم سبباً لإطلاق هذه التسمية على مسرحيتنا هذه إلا أن هذه الكلمة من صميم كلام الشعب.
وليس مما يصح في الأذهان أن يسمي المؤلف إحدى بطلات مسرحيته باسم (ست البنات) مثلاً، قاصداً إلى ذلك متعمداً إليه.
ثم يجعل من هذا الاسم المفتعل اسماً للمسرحية كلها دون أن توجد أدنى علاقة بين هذا الاسم وبين موضوع المسرحية.
فإن هذا خداع للناس وتضليل لهم يجب أن ينأى عنه كرام المؤلفين.
وقد أشرت إلى ذلك عند حديثي عن (صندوق الدنيا).
. والعجيب في أمر (ست البنات) هذه - وهي زوجة المحامي - أنها ظهرت لنا في الرواية - أول ما ظهرت - طيبة القلب ساذجة سليمة الفؤاد صابرة مؤمنة تقول بأن (الست تعيش مرة واحدة وتتجوز مرة واحدة) - وإن كان ذلك يؤذي شعور بعض السيدات ويخالف ما شرع الله! - وتقول بأن (الدموع في بيت الزوج أحسن من الضحك في بيت الأب).
ثم إذ بنا نراها بعد قليل جداً من الزمن.
وقد انقلبت امرأة لعوباً خبيثة ماكرة تمثل دور الخادمة في حذق وإتقان.
وتلعب بعقل وكيل مكتب زوجها - وهو رجل كهل كثير التجارب - وتغريه بالأماني المعسولة، وتستدرجه فيفضي لها بكل ما تريده، وتمثل - في نفس الوقت - دور مندوبة جمعية الهلال الأخضر - وهي جمعية وهمية كما قدمت - وتستمر في هذا التمثيل طويلاً دون تعثر أو اضطراب حتى تحقق ما تريد! فمن أين جاءها كل هذا المكر والدهاء على حين فجأة؟.
وعلى العكس منها تماماً كان زوجها، فهو - كما بدا من أول الرواية حتى قبيل نهايتها - رجل عابث مستهتر، زير نساء، واسع الحيلة، كثير التجارب في أمور النساء خاصة، ثم هو محام فوق ذلك كله، وهو قد أستشعر التجسس عليه وأحسه ولمسه حتى قال (كل الناس بيتجسسوا علي حتى التليفون!).
رجل هذا شأنه كيف لا يدرك أن موقف زوجته مع صديقه - في منزله الخاص - تمثيل منها وصناعة؟ كيف لا يدرك ذلك وهو يعرف أخلاق صديقه، ويعرف أن زوجته لم تلتق به ولم تعرفه إلا منذ لحظة؟ ويعرف أن الأمر يقع في منزله الخاص الذي لم تدخله زوجته إلا هذه المرة، والذي لا تأمن فيه أن يحضر زوجها في أي وقت لأنها تجهل نظام المنزل ومواعيد حضوره فيه - وهذا في نظر الزوج طبعاً - كيف يجتمع له كل ذلك ثم ينخدع في هذا الموقف ويؤمن بأنه حقيقة خالصة؟ ثم لماذا تاب وأناب؟ ألأنه قد انكشف أمره؟ إن ذلك لا يكون سبباً فهو يعلم أن أمره مكشوف من زمن بعيد، وأن الناس يتجسسون عليه، وأن التليفون يتجسس عليه أيضاً كما قدمنا! أم لأنه انخدع فظن السوء بصديقه وبزوجته، وذلك أمر لا يعني من كان على شاكلته، ثم هو قد علم بعد لحظة يسيرة بأنه كان تمثيلاً من الزوجة وكان خطأ من الصديق كما صرح له بذلك! إن الممثل الذي كان يقوم بدور الزوج - وهو الأستاذ صلاح سرحان - قد أختلج واضطرب عندما أراد أن يقوم بهذه التوبة والإنابة فأكبرناه وحمدنا له هذا الاختلاج والاضطراب! إنه إحساس منه بحرج الموقف، وشدة المفارقة، والنقلة المفاجئة من الضلال البعيد إلى الهدى والاستقامة! وكم كان خيراً لو أن المؤلف نأى عن الكلام الذي يمس الناحية الجنسية كقول الخادمة مثلاً عن وكيل المكتب الذي طلب أن يكون متقدم أتعابه قبلة (إذا كان المنيل بيعمل كده على المقدم!) وكقول المؤلف - متهكماً عن نظام علاقة الزوج بعشيقاته إن (جلساته تنعقد في البارات، والحكم على السلم، والتنفيذ هنا في الشقة!) وغيرها فإن هذا - وإن أضحك البعض كما يقصد إليه المؤلف - فإنه يؤذي شعور البعض الآخر والمسرح للناس جميعاً. وكم كان خيراً لو أنه نأى عن الكلام الذي فيه تعريض ببعض الناس أو زراية ببعض الطوائف مثل قوله للخادمة (أنت خدامة ولا مدرسة إنشاء!) ومثل قوله (إنها متخرجة من حي زينهم) ومثل زرايته المستهجنة بالشعراء وإظهاره لأحدهم وهو يخور كالثور قائلاً (عا - عا) ويدق صدره بيده كالمجنون، ويقبض قبضات من الهواء يضحك لها الناس فيرضى المؤلف ويمتلئ سروراً بضحكهم! وأرجو ألا تجمع الرغبة في الإضحاك ببعض المؤلفين إلى هذا الحد.
وكم كان خيراً لو قال - نوعاً ما - من الاعتماد الكثير على التليفون الذي استمر معه طول الرواية والذي يذكرنا بالمغني الضعيف الذي يجعل أكبر اعتماده على (التخت)! ولا أدري كيف يشهد الزوج الريبة بين زوجه وصديقه ويؤمن بهما إيماناً تاماً، ثم يدور الحوار بينهم طويلاً، وصديقه ينحيه ويبعده عنها - باعتبار أنها صديقته التي صارت خليلة لصديقه هذا - ويستمر هذا الحوار ربع ساعة دون أن يعلن أنها زوجته؟ كيف يحتمل الزوج هذا كله؟ وما الذي عقل لسانه عن إعلان أنها زوجته؟ بل ما الذي أقعده عن قتله أو قتلها وهو ما يفعله الكثيرون في مثل هذا الموقف؟ أما المخرج والممثلون فأشهد أنهم - في جملتهم - قد أمدوا هذه المسرحية بحياة ليست منها في شيء، فإنهم قد بذلوا جهداً مشكوراً وحملوا مشقة كبيرة، وأخص بالذكر منهم (أحمد الجزيري)، (نور الدمرداش) ولكني أسأل الأستاذ المخرج: كيف - وقد جعل المؤلف فصل الرواية الأول يمثل نهاراً كاملاً - لم يعمل فاصلاً يوضح به مرور هذا الزمن الطويل، ولم يغير الإضاءة كما تتغير في واقع الحياة؟ وكيف يجعل الخادمة تقابل الضيف الكبير وهي تحمل (المقشة) بل تضعها أمامه على المنضدة وهو أمر غير مألوف في الحياة؟ وكيف يظلم مكتب المحامي إظلاماً دامساً ويدعه فارغاً من كل صوت ومن كل إنسان فترة من الزمن؟ وكيف يملأ القسمين اللذين انقسم إليهما المسرح - في الفصل الثاني - بالحركات الكثيرة هنا وهناك فتشغل إحداهما عن الأخرى وتكون سبباً في إضعافها وإماتتها؟ وأسأل الأستاذ (عدلي كاسب) لماذا يتشبث بمحاكاة (بشارة واكيم) في هيئته وحركاته وكلماته فيذكر الناس (بشارة) وينسون (عدلي)؟ وكيف يمد يده - مغازلاً - لمندوبة جمعية الهلال الأخضر في بيتها بمجرد لقائه بها في منزلها بدون أي مقدمات تشجعه على ذلك؟ وكيف يطلق العنان لأنفه فيسترسل في (التشخير) مرات عديدة اللهم إلا إذا كان ذلك لأنه رأى الجمهور يستريح لهذا الشخير ويضحك منه؟ ولماذا يطلق الرصاص على الوكيل - الذي حسبه المحامي - بافتعال واضح وهو يقفز ويضحك ويجري؟ ويطلقه في الهواء دون هدف؟ وأسأل (صلاح سرحان)، (سميحة أيوب) لماذا يطلبان التليفون بإدارة أربعة أرقام لا خمسة كما يجب - وقد تكرر هذا منهما - وهما يعلمان أن التمثيل يجب أن يمثل الحقيقة بحذافيرها وأنه إذا دخله الزيف فقد انهار من أساسه؟ وأسأل (أحمد الجزيري) لماذا يخلع الحذاء ويهم بأن يضرب به المحامي وصديق المحامي ثم لا يفعل - دون أن يرده أحد عن هذا الفعل - وهو عمل غير مستحب؟ ولماذا - وهو يحاول إفهام السيدة أن اسمه دردير أفندي بالدال - يشير بيديه - ممثلاً صورة حرف الدال - إشارة تمثل أحد الأعضاء الجنسية في الإنسان، ليضحك الناس، وهو يعلم أن هذا الشيء لا يجوز؟ وكيف يسمح المخرج بهذه الفعلة؟ وأسأل (سميحة أيوب) كيف تجري وراء زوجها وهو يفض الخطاب كأنها تستطلع ما فيه مع أنها قرأت صورته كاملة أمامنا - نحن جمهور المشاهدين - منذ لحظة يسيرة مع أنها وقفت خلفه بحيث نراها نحن ولا يراها هو؟ أرجو أن يتنبه الممثلون إلى أن هذه الدقائق في أعمالهم ليست دقائق في أعين الجمهور الذي يرقب كل حركاتهم في يقظة شديدة وانتباه كبير. علي متولي صلاح