أرشيف المقالات

اليأس من نصر الله جل جلاله

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
اليأس من نصر الله جل جلاله


اليأس من نَصر الله جل جلاله، والشكُّ في وعده جل جلاله -لا يصح أن يُنسب أبدًا إلى المؤمنين؛ فالمؤمنُ ليس من حقه أن يقرِّر أجلًا لإهلاك أعداء الله، أو موعدًا لنصرة دين الله، ولكنْ من شأنه أن يسعى في نصرة هذا الدِّين بما يطيق، وأن يبحث عن أسباب النصر، والطرق الموصلة إليه؛ فالمؤمن لا ييئسُ من نصر الله مهما تأخَّر النصر، بل ينتظر ويترقَّب نصر الله الذي وعده به مولاه في قوله: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47].

"وسبحان الذي أوجب على نفسه نصر المؤمنين وجعله لهم حقًّا، فضلًا وكرمًا، وأكَّده لهم في هذه الصيغة الجازمة التي لا تَحتمل شكًّا ولا ريبًا، وكيف والقائل هو الله القوي العزيز الجبار المتكبر، القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير؟! يقولها سبحانه معبرة عن إرادته التي لا تُرَد، وسنَّته التي لا تتخلَّف، وناموسه الذي يحكم الوجود.

وقد يبطئ هذا النصرُ أحيانًا - في تقدير البشر - لأنَّهم يحسبون الأمور بغير حساب الله، ويقدِّرون الأحوال لا كما يقدرها الله، والله هو الحكيم الخبير، يصدق وعده في الوقت الذي يريده ويعلمه، وفق مشيئته وسنَّته، وقد تتكشَّف حكمة توقيته وتقديره للبشر وقد لا تتكشف، ولكن إرادته هي الخير، وتوقيته هو الصحيح، ووعده القاطع واقع عن يقين، يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين"[1].

فإذا كان المؤمن في ثِقة من وعد ربِّه له بالنَّصر والتمكين، هرَب منه اليأسُ وفَرَّ بلا رجعة، فلا ييئس المؤمن بنزول البلاء، ولا ينهار ولا يُحبَط حين يواجه الكروبَ والمصائب، وعلى المسلم أن يعلم أنَّ العاقبة الحتمية هي نصرةُ أهل الحق؛ فالصِّراع موجود بين أهل الحق وأهل الباطل منذ فجر التاريخ إلى يوم أن تقوم الساعة، والنصرة في نهاية المطاف لأهل الحق، عندما يبذل أهلُ الإيمان طاقتهم كاملة.

"ولقد مضت سنَّة الله سبحانه مع الأولياء أنهم لا ينيخون بعقوة الظفر إلَّا بعد إشرافهم على عرصات اليأس، فحين طال بهم الترقُّب، صادفهم اللطف بغتة، وتحقَّق لهم المبتغى فجأة"[2].

فالبلاء والمحن، والبأساء والضراء، والشوق إلى النصر والخلاص - كلُّها أمور مرَّ بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم، ورسل الله وأنبياؤه السابقون، وأولياؤه المقرَّبون، يقول الله عزَّ وجل مؤكدًا هذه السُّنةَ الربانية: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214].

"هكذا خاطب الله الجماعةَ المسلمة الأولى، وهكذا وجَّهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها، وإلى سنته سبحانه في تربية عباده المختارين، الذين يَكل إليهم رايته، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته، وهو خطاب مطردٌ لكلِّ من يختار لهذا الدور العظيم، وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة، إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه؛ من الرسول الموصول بالله، والمؤمنين الذين آمَنوا بالله، إنَّ سؤالهم: ﴿ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ﴾؟ ليصوِّر مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة، ولن تكون إلا محنة فوق الوصف، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب: ﴿ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ﴾؟ وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة، عندئذٍ تتم كلمة الله، ويجيء النَّصر من الله: ﴿ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾، إنَّ الصراع والصبر عليه يهب النفوسَ قوة، ويرفعها على ذواتها، ويطهِّرها في بوتقة الألم، فيصفو عنصرها ويضيء، ويهب العقيدة عمقًا وقوة وحيوية، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها؛ وعندئذٍ يدخلون في دين الله أفواجًا كما وقع، وكما يقع في كل قضية حق، يلقى أصحابها ما يلقَوْن في أول الطريق، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم مَن كانوا يحاربونهم، وناصَرَهم أشدُّ المناوئين وأكبر المعاندين، على أنه - حتى إذا لم يقع هذا - يقع ما هو أعظم منه في حقيقته؛ يقع أن ترتفع أرواحُ أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة، والحرص على الحياة نفسها في النِّهاية..
وهذا الانطلاق كسبٌ للبشرية كلها، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء؛ كسب يرجح جميعَ الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون، المؤتمَنون على راية الله وأمانته ودينِه وشريعته.

وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنَّة في نهاية المطاف، وهذا هو الطريق، هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى، وللجماعة المسلمة في كلِّ جيل"[3].

والمؤمن الصادق هو الذي يتسلَّح بما أمره الله، ويهبنفسه قوة عند الشدائد، ويثبُت عند البلاء والاختبار وهو واثق تمام الثقة في نصر الله العزيز الغفار.

ومما يُؤكد هذه الحقيقةَ أيضًا قوله جل في علاه: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [يوسف: 110].

"يُخبرُ تعالى أنَّ نصره ينزل على رُسله صلوات الله وسلامُه عليهم أجمعين، عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله تعالى في أحوج الأوقات إلى ذلك"[4].

"وفي قوله: ﴿ قَدْ كُذِبُوا ﴾ وردت قراءتان سبعيَّتان؛ إحداهما بتشديد الذال، والثانية بالتخفيف، وعلى القراءتين فالغاية في قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ ﴾ غاية لكلام مَحذوف دلَّ عليه السياق.

والمعنى على القراءة التي بالتشديد: لقد أرسلنا رسلَنا لهداية الناس، فأعرض الكثيرون منهم عن دعوتهم، ووقَفوا منهم موقف المنكِر والمعاند والمحارب لهدايتهم، وضاق الرسل ذرعًا بموقف هؤلاء الجاحدين، حتى إذا استيئس الرسل الكرام من إيمان هؤلاء الجاحدين، وظنوا - أي: الرسل - أن أقوامهم الجاحدين قد كذَّبوهم في كلِّ ما جاؤوهم به؛ لكثرة إعراضهم عنهم، وإيذائهم لهم؛ أي: حتى إذا ما وصَل الرسل إلى هذا الحد من ضيقهم بأقوامهم الجاحدين، جاءهم نصرنا الذي لا يتخلَّف.

والمعنى على القراءة الثانية التي هي بالتخفيف: حتى إذا يَئس الرسلُ من إيمان أقوامهم يأسًا شديدًا، وظن هؤلاء الأقوام أن الرسل قد كذبوا عليهم فيما جاؤوهم به، وفيما هددوهم به من عذاب إذا ما استمروا على كفرهم، حتى إذا ما وصل الأمر بالرسل وبالأقوام إلى هذا الحد، جاء نصرنا الذي لا يتخلَّف إلى هؤلاء الرسل، فضلًا منَّا وكرمًا.

فالضمير في قوله: ﴿ كُذِّبُوا ﴾ بالتشديد يعود على الرسل، أمَّا على قراءة التخفيف ﴿ كُذِبُوا ﴾ فيعود إلى الأقوام الجاحدين.
ومنهم من جعل الضمير - أيضًا - على قراءة ﴿ كُذِبُوا ﴾ بالتخفيف يعود على الرسل، فيكون المعنى: حتى إذا استيئس الرسلُ من إيمان قومهم، وظنوا - أي: الرسل - أن نفوسهم قد كذبت عليهم في تحديد موعد انتصارهم على أعدائهم؛ لأنَّ البلاء قد طال، والنصر قد تأخَّر..
جاءهم - أي: الرسل - نصرنا الذي لا يتخلَّف"[5].

والناظر في سيرة سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، يجده صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين - قد وصل البلاء بهم ذروته في صدر الدعوة المحمدية، حتى شكا الصحابةُ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا البلاء وهذه الشدَّة؛ ففيما رُوي عن خباب بن الأرت، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسدٌ بردةً له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تَستنصر لنا؟! ألا تَدعو لنا؟! فقال: ((قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفينِ، ويمشَّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصدُّه ذلك عن دينه، واللهِ ليتمنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا اللهَ، والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون))[6].

وتلك سنَّة الله التي لا تحابي أحدًا: "إنَّ الباطل وإن صال وجال، وإنْ علا في زمان أو طال؛ فإنَّه ولا ريب سيعود إلى ما كان عليه من التراجع والصَّغار، وتلك سُنَّة من سنن الحكيم القهار، وقد وعد أصدق الواعدين سبحانه: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء: 18]؛ ذلك أنَّ هذا هو طبيعة الباطل: ﴿ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81]، وإنَّ الذي يمكث ويبقى هو ما يَنفع الناس: ﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ﴾ [الرعد: 17]"[7].

ولتأخير النَّصر حِكَمٌ وفوائدُ عظيمة، منها:
الفائدة الأولى: تَذكير أهل الإيمان بسنَّة الله عز وجل في الأمم الماضية التي أصابها ما أصابهم من البأساء والضرَّاء ثم كانت العاقبة والنصرة لهم.

الفائدة الثانية: التنبيه على أن نصر الله عز وجل لا يتحقَّق للإنسان إلا إذا حقق الإنسانُ ما أمره به الله عز وجل؛ وذلك بأن يأمر بالمعروف ويَنهى عن المنكر، مع ضرورة الأخذ بالأسباب وإعداد العدة.

الفائدة الثالثة: في تأخير النصر اختبار للمؤمنين وإظهار للمنافقين؛ فلو كان الطريق إلى النصر سهلًا، لسار فيه الناس أجمعون، لكن تأخير النَّصر يبيِّن لنا أهلَ الإيمان من غيرهم؛ ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [الأنفال: 37]، فأهل الإيمان ثابتون وعليهم ينزل نصر الله عز وجل.

الفائدة الرابعة: تأخير النَّصر فيه هضم للنَّفس وكسر لشموخها وجماحها؛ حتى لا يتطرَّق التيه والكِبرُ إلى نفوس أهل الإيمان، وحتى تظل قلوبهم متَّصلة بربهم، سائلين إياه النصرَ والظفر على الأعداء.

[1] في ظلال القرآن (5/ 2774).

[2] تفسير القشيري (1/ 174).

[3] في ظلال القرآن (1/ 218، 219) بتصرف.

[4] تفسير القرآن العظيم (4/ 424).

[5] التفسير الوسيط للقرآن الكريم (7/ 425).

[6] صحيح البخاري (9/ 20/ 6943).

[7] مجلة البيان، مقال بعنوان: (بشائر النصر) العدد (185) (ص 147).

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢