أرشيف المقالات

تذكير الأحباء بفوائد وحكم الابتلاء

مدة قراءة المادة : 18 دقائق .
تذكير الأحباء بفوائد وحكم الابتلاء

تعريف الابتلاء:
أ- من الناحية اللغوية:
قال ابن فارس في مقاييسه (1 - 293): "بُلِيَ الإنسانُ وابْتُلِيَ، وهذا من الامتحان، وهو الاختبار، وقال:
بُلِيتُ وَفِقْدَانُ الحَبِيبِ بَلِيَّةٌ ** وَكَمْ مِنْ كَرِيمٍ يُبْتَلَى ثُمَّ يَصْبِرُ
 
وقال الجعديُّ في البلاء أنّهُ الاختبار:
كَفَانِي البَلاءُ وَإِنِّي امْرُؤٌ ** إِذَا مَا تَبَيَّنْتُ لَمْ أَرْتَبِ".
 
ب- من النَّاحية الشَّرعيَّة:
النَّاظر في المدارك الشَّرعيَّة يجد أنَّ الابتلاء لم يَخرج في المفهوم الشَّرعي عن المعنى اللغويّ من الاختبار والامتِحان، فمن ذلك قولُ الله - تعالى -: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ [البقرة: 124].
 
قال ابن جرير (1 - 571): وإذ اختبر، وقال القرطبي (2 - 93): الامتحان والاختبار.
 
ومن ذلك قوله - سبحانه -: ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ﴾ [الأعراف: 249]، وقال - سبحانه -: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى ﴾ [النساء: 6]؛ قال السعدي (1 - 164): الابتلاء: هو الاختبار والامتِحان.
 
وقال - جلَّ ذِكرُه -: ﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف: 168]، قال ابن جرير (6 - 104): "واختبرْناهم بالرَّخاء في العيش والخفْض في الدّنيا والدَّعة والسَّعة في الرّزق، وهي (الحسنات) الَّتي ذكرَها - جلَّ ثناؤُه - ويعني بـ (السيّئات) الشّدَّة في العيش والشَّظف فيه، والمصائب والرَّزايا في الأموال، (لعلَّهم يرجعون) يقول: ليرْجِعوا إلى طاعة ربّهم، وينيبوا إليْها، ويتوبوا من معاصيه".
 
ولكن ليس من صريح الابتِلاء - أي: الاختِبار - قولُه تعالى: ﴿ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [الأعراف: 163]؛ لأنَّه هنا بمعنى العقوبة، وقد يستشْعر منه ذلك المعنى أيضًا، ولو حُمِل على الاختِبار والامتحان؛ لأنَّه - تعالى - اختبرَهم بما يعلم أنَّهم لن يستقيموا فيه على أمر الله تعالى، فهو في حقيقتِه عقوبة وإن كان ظاهرُه الاختِبار والامتحان، وعلَّل الله - تعالى - ذلك بفسقهم وخروجهم عن الطاعة.
 
وأمَّا من السنَّة، فقد روى البخاري (ح 1352) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخلت امرأةٌ معها ابنتان لها تسأل، فلم تجِدْ عندي شيئًا غير تمرة، فأعطيتُها إيَّاها، فقسمتْها بين ابنتيْها ولم تأكُل منها، ثمَّ قامتْ فخرجت، فدخل النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- علينا فأخبرتُه، فقال: ((مَن ابتُلي من هذه البناتِ بشيء كُنَّ له سترًا من النَّار)).
 
وروى أيضًا (ح5329) أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمعت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ الله قال: إذا ابتليْتُ عبدي بحبيبتَيْه فصبر، عوَّضته منهما الجنَّة)).
 
حقيقة الابتِلاء وتوْصيفه:
الله - تبارك وتعالى - يعلم كلَّ شيء، ومُحيط بكلّ شيء، ولا يَغيب عنه شيء، ولا يَخرج عن علْمِه شيء، وهذا من المسلَّمات والمعلومات من الدّين بالضَّرورة، والله - تعالى - لا يظلِم أحدًا؛ فالاختِبار حينئذٍ من باب إقامة الحجَّة، وعدم مؤاخذة العباد بِما في علم الله تعالى، ولكن ليخرج علْمه إلى المشاهدة، وتشْهد عليهم أنفسهم وأيديهم وأرجلُهم وألسنتُهم، ويشهد عليهم الخلقُ من الثَّقلَين والملائكة، وتشهد عليهم صحائف الأعمال؛ إقامةً للحجَّة، ودفعًا للمجادلة والمخاصمة بين يدَي الله - تعالى.
 
فالابتِلاء كائن ليتحقَّق ما في علم الله - تعالى - في المشاهدة، ولتوفَّى كلّ نفس ما عملتْ، وتُجازى بِما كسبتْ من ردّ فعل تجاه الابتلاء والاختِبار، الَّذي وُضِع للمرْء في مُختلف أمور حياتِه.
 
قِسما الابتلاء:
عندما أطلقتُ نظري وفكري - الكليلَين - في النّصوص، وتدبَّرت أمر الاختِبار والابتِلاء والامتِحان، هداني التدبّر إلى أنَّ الابتلاء قد ينقسم إلى قسمَين باعتبار الغاية الإلهيَّة من الاختبار، فينقسم إلى:
1- ابتِلاء كوني قدَري:
وهذا النَّوع من الابتِلاء يظهر فيه حقيقة آثار الأسْماء الرَّبَّانيَّة، والصّفات الإلهيَّة، فإذا ما ابْتلى الله - تعالى - العبد بالذّنوب، فقد قدَّرها عليه وقدَّر وقوعَها، وأرادها إرادة كونيَّة قدريَّة؛ ليتحقَّق من رجوع العبْد وإنابته واستِغْفاره الآثارُ الَّتي تشتمل عليها الأسماء الرَّبَّانيَّة من الغفَّار والسّتّير والتَّوَّاب والعفُوّ.
 
وكذلك من هذا النَّوع ابتِلاء الله - تعالى - مَن علِم أنَّه لا يرتدع ولا ينْزجِر بالمعاصي والذّنوب والآثام والمعاصي، وغير ذلك من المرادات الكونيَّة والمكروهات الشَّرعيَّة؛ لأجل غاية وحكمة، وهي ما في قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 96 - 97].
 
وقوله - تعالى -: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود: 119].
 
وقوله - تعالى -: ﴿ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا ﴾ [مريم: 75]
 
2- ابتلاء شرعي:
وهذا النَّوع يكون المراد منه والغاية المترتبة عليه إخراج أعْمال العباد إلى حيّز المشاهدة؛ من باب إقامة الحجَّة، وقطعِ طريق المنازعة والمخاصمة والمجادلة.
 
ومدار هذا النَّوع على موافقة الأمر الشَّرعي فعلاً وتركًا، وامتِثال الأمر الشَّرعي والعمل على ما يُريده الله - تعالى - ويحبّه.
 
ما يكون به الابتلاء:
نصَّ الله - تعالى - في كتابه العزيز أنَّ الابتلاء يكون بالخير والشَّرّ؛ قال الله - تعالى -: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35].
 
وقال - جلَّ ذِكْره -: ﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف: 168]، فالله - تعالى - يبتلي العبد بما يحبّه وترضاه نفسُه بحكم الطَّبع والجبلَّة، ويختبره بما تأْباه النَّفس وتتألَّم منه بحكم الطَّبع والجبلَّة.
 
ولكن لُيعلم أنَّ الخير والشَّرَّ هنا ليس مقصودًا به أفعال الله تعالى، ولكنْ مقصود به المفْعولات من وجهة نظر واعتِبار البشر، فهم الذين يقسمون المفعولات وما يقع لهم إلى خيرٍ وشرّ بحسب أصل الجبلَّة وما تألفه النَّفس بطبعها.
 
أمَّا النَّفس المؤمنة، فهي التي ترى أفعال الله - تعالى - على حقيقتِها، وهي أنَّ أفعال الله - سبحانَه - كلّها خير، والدَّليل على أنَّ أفعال الله - تعالى - كلّها خير، وأنَّ هذه الخيريَّة لا تراها إلاَّ النَّفس المؤْمنة فتتقلَّب معها على الوجْه الَّذي يتوافق مع المراد الإلهي، ما رواه مسلم (ح64) من حديث صُهَيب - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((عجبًا لأمر المؤمِن إنَّ أمرَه كلّه خير، وليس ذاك لأحدٍ إلاَّ للمؤمن؛ إن أصابتْه سرَّاء شكَرَ، فكان خيرًا له، وإن أصابتْه ضرَّاء صبر، فكان خيرًا له)).
 
فالنَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- جعل أمر المؤمن كلّه خيرًا، فكلّ ما يقع له ويعْرِض له في حياتِه، في أمر دنياه ودينه، كلّه له خير، ولا يكون ذلك إلاَّ لنفسٍ مؤمنة تُدرك تلك الخيريَّة، فتأتي مع كلّ حال بما يتوافق معه ويستلزمه من الأقْوال والأعمال.
 
وعدَّد الله - تعالى - صور الابتلاء المختلفة مما يتعلَّق بالإنسان من أمور مادّيَّة ومعنويَّة، داخليَّة وخارجيَّة، فرديَّة وجماعيَّة، فقال - جلَّ ذِكْرُه -: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].
 
وظاهر هذه الآية أن هذه الأمور من الأشياء الَّتي لا تحبّها النَّفس ولا تألفها، وتسبّب لها ألمًا، ويكون الابتلاء بها اختبارًا للعبوديَّة عند هذه الأحوال.
 
ولكن إذا ما تدبَّر المرْء هذه الآية جيّدًا، وانفكَّ عما يُملى عليه من توْجيهات وتفسيرات تجْعل فهْمه منحصرًا في حيّز ضيّق، ومع التَّقيّد بالضَّوابط الصَّحيحة للتَّفسير والفهْم للقُرآن - يجِد أنَّ هذه الآية تصلح لجانبَي الابتِلاء؛ أي: الابتِلاء بالسَّرَّاء والضَّرَّاء، وهذا يظهر من خِلال ما يلي:
الابتِلاء قد يكون بالإحساسات القلبيَّة الدَّاخليَّة من الخوف والفزَع والهلع والقلَق والاضطراب بسبب العدوِّ والعواقب، كما أنَّه يكون بسبب خشْية عدم تقبّل الأعمال، أو بالخشْية المفروضة على العبد تجاه الرَّبّ المالك القاهر الخالق الرَّازق المدبّر لأمر السَّموات والأرض، وهذا مقام من مقامات العبوديَّة، ورُتْبة من رتَب القيام بالغاية من الخلْق.
 
والابتلاء قد يكون بالجوع والضَّعف والمرَض والعطش، والحاجات الجسمانية، والأزمات الاقتصاديَّة ونحو ذلك، كما أنَّه يكون بالصَّوم المفروض والمنْذور وصوم الكفَّارات والتطوّع.
 
والابتِلاء قد يكون بفقْد المال والتّجارة بالخسارة أو السَّرقة أو الغصْب أو غير ذلك، كما أن الابتِلاء يكون بالزَّكاة والصَّدقة والمواساة والنَّفقة على الأهل والأقارب، والعطايا والهديَّة ومختلف صور البذْل في سبيل الله - تعالى.
 
والابتلاء بالأنفُس يكون بنقصها بالموت والقتل وتسلّط الأعداء، كما أنَّه بالاستشهاد في سبيل الله - تعالى - والاستشهاد في الهدْم والغرق ونحو ذلك.
 
والابتلاء في الثَّمرات بألاَّ تُعطي الحقول زرْعَها بإذن الله تعالى؛ لآفة ونحو ذلك، كما أنَّه يكون بالواجبات والمستحبَّات من أنواع البذْل المتعلّق بالثّمار كالزَّكاة والصَّدقة.
 
الحكم البالغة والغايات الربانية من الابتلاء:
النَّاظر في القُرآن الكريم يجد أنَّ الله - تعالى - قد قدَّر الابتِلاء والاختبار للكثير من الحِكَم والغايات، الَّتي إذا ما اطَّلعتْ عليها النّفوس السويَّة، والقلوب المؤمنة، والعقول السليمة أذْعنت بالاستِسْلام لله - تعالى - ورفعتْ راية العبوديَّة والخضوع في عزَّة ورفعة وسموّ، بكوْن المرء عبدًا لله - تعالى - متَّبعًا لشرْعِه من كتاب وسنَّة.
 
وليُعلم أنَّ الغايات والحِكَم الَّتي يدور عليها الابتِلاء الشَّرعي ترْجِع إلى قاعدة واحدة، وهي: أيوافق المرء مراد الله - تعالى - منه عند الابتِلاء أم لا؟
 
ومن هذه الحِكَم الإلهيَّة والغايات الرَّبَّانيَّة ما يلي:
1- قال تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 7]، فالغاية من الخلْق، وتَهيِئة الكون، وكثرة النِّعم: الاختِبارُ لمن يعمل العمَل الصَّالح فيُجازى عليه، ومن يعمل العمل الفاسد فيُؤاخَذ به.
 
2- قال تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2 - 3]، فالآية دليلٌ على إظْهار عادة الله - تعالى - في ابتِلاء الأقوام، كما أنَّها دليلٌ في أصْل الابتِلاء والاختِبار ليظهر في المشاهدة المطيع من العاصي.
 
3- ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31]، فالغاية معرفة الصَّادق من الكاذِب، والمؤمن من المنافق والكافر عِلْمَ مشاهدة؛ لتترتَّب عليه المحاسبة والمؤاخذة.
 
4- قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]، فالابتِلاء سبيل لاستنْزال النَّصر وهزيمة الأعداء، وإظهار الخشوع والخضوع والتضرّع في سبيل النَّصر ورفْع راية التَّوحيد، بالإضافة إلى اتّباع السنَن الرَّبَّانيَّة في التَّصفية قبل التَّحلية، والتهيئة قبل التَّمكين.
 
5- قال الله - تعالى -: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 140 - 141]، فالله - تعالى - جعل الابتلاء سببًا من أسباب رفْع الدَّرجات كما في شأْن الشُّهداء والمؤمنين، وخفْضها كما في حال الكافِرين.
 
7- ظهور آثار الأسماء والصّفات الرَّبَّانيَّة من خلال الأقدار الكونيَّة، وهذا يُفيده ما روى مسلم (ح2749) من حديث أبِي هُريْرة مرفوعًا: ((والَّذي نفسي بيده، لو لَم تُذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم))، فالحديث يفيد أنَّ الله - تعالى - قد يُقدر الذَّنب كونًا مع كراهته له شرعًا؛ ليغفِر لعباده ويمنّ عليْهم بآثار اسمِه الغفور ووصْف المغفرة والستر والعفو.
 
الواجب على المسلم عند الابتلاء:
1- العمل بمقتضى الإيمان؛ من الاستِسْلام لقضاء الله وقدَره، بصدْر منشرِح مذْعن لأمر الله تعالى، وإن كان يتألَّم بالطَّبع والجبلَّة.
 
2- الصَّبر في الضَّرَّاء، والشّكْر في السَّرَّاء:
فإذا ما كان الابتِلاء بالضَّرَّاء، فالصَّبر بحبس النَّفس عن الاعتِراض والتسخُّط، وعدم الإتيان بالمخالفات القلبيَّة والقوليَّة والفعليَّة من مظاهر الاعتِراض على قدر الله تعالى، ثمَّ التضرّع واللّجوء إلى الله - تعالى - مصداقًا لمفهوم قولِه - سبحانه -: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 42 - 43].
 
فالله - تعالى - أنكر على هؤلاء أنَّهم لمَّا جاءهم الابتِلاء بشيءٍ من الشّدَّة لم يتضرَّعوا ولم يفزعوا إلى الله تعالى، ولم يلتزموا العبوديَّة وإظهار مراسم الطَّاعة والانقِياد والاستِعانة والتوكُّل، فعلِمْنا أنَّ هذا ليس دأبَ المؤمنين، وليس بمحبوب لله ربّ العالمين.
 
وإذا ما كان بالخير والرَّخاء فالشُّكر، كما في قول الله - تعالى -: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، ومن ذلك قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185].
 
ويؤيّد ذلك من السنَّة ما روى مسلم (ح64) من حديث صُهيب - رضِي الله عنْه - مرفوعًا: ((عجبًا لأمْر المؤمن إنَّ أمرَه كلّه خير، وليس ذاك لأحدٍ إلاَّ للمؤمن؛ إن أصابتْه سرَّاء شكَرَ، فكان خيرًا له، وإن أصابتْه ضرَّاء صبر، فكان خيرًا له)).
 
3- إظهار لوازم الصَّبر من كفّ النَّفس وحبس القلب والجوارح عن مظاهر التسخُّط، والفزع إلى الاستِعانة بالصَّلاة والدّعاء والتَّضرّع والابتِهال إلى الله - تعالى.
 
4- العمل بالشُّكر قلبًا ولسانًا، وإظْهار الشُّكر في صورة أفعال يَعود خيرُها على الفرد والمجتمع.
 
5- عدم التسرُّع في الحكم على ما به الابتِلاء أنَّه من الخير أو الشَّرّ؛ لأنَّ مقاييس الخير والشَّرّ عند الله - تعالى - وأحوال التَّكريم الرَّبَّانية كثيرًا ما تَختلِف عن الظّنون البشريَّة، كما في قوله - تعالى -: ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا ﴾ [الفجر: 15 - 17].
 
فالرَّخاء والبأس والشدَّة ليستْ هي العلاماتِ الحقيقيَّةَ على تكريم الله - تعالى - للعبْد، وليستْ هي الدَّلائلَ على رضا الله - تعالى - عن العبْد أو سخطه عليْه.
 
6- الوقوف مع النَّفس والأخْذ في المحاسبة؛ لأنَّ الله - تعالى - قد أخبر في كتابه أنَّ ما ابتُلي به الإنسان فإنَّه من نفسه وبسبب صنيعه، كما في قوله - تعالى -: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، وقوله - سبحانه -: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 165].
 
7- الاسترشاد بقصَص السَّالفين من الأنبِياء والصّدّيقين والصَّالحين، وكيف كان دأبهم مع الابتِلاء، وكيف كانوا عند مُراد الله - تعالى - إذا ما فُتِنوا واختبروا، وكيف أنَّهم جعلوا الابتِلاء بأنواعه مرقاةً في الدَّرجات، ورفعةً في سُلَّم العبوديَّة وتحصيل رضوان الله - تعالى - مصداقًا لقوله - تعالى -: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111].
 
والحمد لله ربّ العالَمين

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢