Warning: Undefined array key "sirA3lam" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73

Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73


خرج زياد بن خراش العجلي -ثائر من الحرورية على معاوية بن أبي سفيان- في ثلاثمائة فارس، فأتى أرض مسكن من السواد، فسير إليه زياد بن أبيه خيلا عليها سعد بن حذيفة أو غيره، فقتلوهم وقد صاروا إلى ماه، ونشبت معارك انتهت بقتل زياد العجلي.

ثم خرج على زياد بن أبيه أيضا رجل من طيء يقال له: معاذ، فأتى نهر عبد الرحمن ابن أم الحكم في ثلاثين رجلا هذه السنة، فبعث إليه زياد من قتله وأصحابه، وقيل: بل حل لواءه واستأمن.

ويقال لهم: أصحاب نهر عبد الرحمن.


أول من بدأ بجلب الأتراك كان المعتصم؛ وذلك لأنهم لم يفسدوا بعد بالترفه، ويمكن تدريبهم عسكريا فيصبحوا من الجند، وكثروا حتى أصبح وجودهم مزعجا فبنيت من أجلهم سامرا، ثم أصبح منهم القادة البارزون كالأفشين وبغا الكبير ووصيف، وأصبح نفوذهم وتنفذهم كبيرا بسبب كثرتهم وبسبب قوة إدارتهم، وبسبب ترك كثير من الأمور إليهم أصلا، فتآمروا مع المنتصر لقتل أبيه المتوكل، ثم كان لهم التنفذ في تعيين المستعين بعد خلع المنتصر، ثم قاموا مع المعتز ضد المستعين، فأصبح الخلفاء كالصورة الظاهرة، أو حتى أحيانا كالألعوبة وهم المتنفذون الحقيقيون، فأصبحت لهم الإقطاعات والأموال، وظل أمرهم على ذلك قرابة المائة سنة.


كانت البداية في أن بعض قواد الأتراك من المشغبين قد جاؤوا إلى المستعين وسألوه العفو والصفح عنهم ففعل، فطلبوا منه أن يرجع معهم إلى سامرا التي خرج منها إلى بغداد؛ بسبب تنكر بعض هؤلاء القادة الأتراك له، فلم يقبل وبقي في بغداد، وكان محمد بن عبدالله بن طاهر قد أهان أحد القادة الأتراك، فزاد غضبهم، فلما رجعوا إلى سامرا أظهروا الشغب وفتحوا السجون وأخرجوا من فيها، ومنهم المعتز بن المتوكل وأخوه المؤيد الذين كان المستعين قد خلعهما من ولاية العهد، فبايعوا المعتز وأخذوا الأموال من بيت المال، وقوي أمره، وبايعه أهل سامرا، والمستعين في بغداد حصن بغداد خوفا من المعتز، ثم إن المعتز عقد لأخيه أبي أحمد بن المتوكل، وهو الموفق، لسبع بقين من المحرم، على حرب المستعين، ومحمد بن عبد الله بن طاهر وجرى القتال بينهم وطالت الحرب بينهما حتى اضطر محمد بن عبدالله بن طاهر إلى أن يقنع المستعين بخلع نفسه ويشترط شروطا، فرضي بذلك فاستسلم وكتب شروطه وبايع للمعتز وبايعت بغداد، وانتقل المستعين إلى واسط بعد أن خلع نفسه، ثم أرسل المعتز إليه من قتله في شوال من نفس العام، فكانت مدة خلافته أربع سنين وثلاثة أشهر وأيام.


هو إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب الحسني من بيت خرج منهم جماعة على الخلفاء بالحجاز والعراق والمغرب، عرف بالسفاك، خرج إسماعيل سنة إحدى وخمسين ومائتين في زمن المستعين بالله بالحجاز وهو شاب له عشرون سنة، وتبعه خلق كثير من المتشيعة والديلم, فعاث في الحرمين وقتل من الحجاج بعرفة وسلب ونهب، ولقي الناس منه عنتا إلى أن هلك هو وأصحابه بالطاعون في السنة التالية من خروجه.


كان سببها أن الأتراك وثبوا بالوزير عيسى بن فرخان شاه، فضربوه، وأخذوا دابته، واجتمعت المغاربة مع محمد بن راشد، ونصر بن سعد، وغلبوا الأتراك على الجوسق، وأخرجوهم منه، وقالوا لهم: كل يوم تقتلون خليفة، وتخلعون آخر, وتقتلون وزيرا وتثبتون آخر، وصار الجوسق وبيت المال في أيدي المغاربة، وأخذوا الدواب التي كان تركها الأتراك، فاجتمع الأتراك وأرسلوا إلى من بالكرخ والدور منهم، فاجتمعوا وتلاقوا هم والمغاربة، وأعان الغوغاء والشاكرية المغاربة، فضعف الأتراك وانقادوا، فأصلح جعفر بن عبد الواحد بينهم، على ألا يحدثوا شيئا، ويكون في كل موضع يكون فيه رجل من الفريقين يكون فيه رجل من الفريق الآخر، فمكثوا مدة مديدة، ثم اجتمع الأتراك وقالوا: نطلب هذين الرأسين- يعنون محمد بن راشد ونصر بن سعيد- فإن ظفرنا بهما فلا ينطق أحد.

فبلغهما خبر اجتماع الأتراك عليهما، فخرجا إلى منزل محمد بن عزون؛ ليكونا عنده حتى يسكن الأتراك، ثم يرجعا إلى جمعهما، فغمز ابن عزون بهما إلى الأتراك، فأخذوهما فقتلوهما فبلغ ذلك المعتز، فأراد قتل ابن عزون، فكلم فيه فنفاه إلى بغداد.


أرسل العلاء بن أحمد- عامل أرمينية- إلى المؤيد بخمسة آلاف دينار ليصلح بها أمره، فبعث عيسى بن فرخانشاه إليها فأخذها, فأغرى المؤيد الأتراك بعيسى وخالفهم المغاربة، فبعث المعتز إلى المؤيد وأبي أحمد، فأخذهما وحبسهما وقيد المؤيد، وأدر العطاء للأتراك والمغاربة.

وقيل: إنه ضربه أربعين مقرعة، وخلعه بسامراء وأخذ خطه بخلع نفسه.


هو المؤيد إبراهيم بن جعفر المتوكل على الله، أحد ولاة العهد الثلاثة بعد الخليفة المتوكل: وهم المنتصر بالله، والمعتز بالله، والمؤيد، تم خلعه من ولاية العهد مرتين؛ الأولى: في عهد أخيه المنتصر؛ حيث قام بخلعه مع المعتز بضغط من قادة الأتراك, والثانية: على يد أخيه المعتز بالله؛ حيث تم إجباره على خلع نفسه من ولاية العهد، ومن ثم تم قتله في ظروف غامضة, وكانت امرأة من نساء الأتراك قد جاءت إلى محمد بن راشد المغربي فأخبرته أن الأتراك يريدون إخراج إبراهيم المؤيد من الحبس، وركب محمد بن راشد إلى المعتز فأعلمه ذلك، فدعا بموسى بن بغا فسأله فأنكر، وقال: يا أمير المؤمنين إنما أرادوا أن يخرجوا أبا أحمد بن المتوكل لأنسهم به، وأما المؤيد فلا، فلما كان يوم الخميس لثمان بقين من رجب دعا المعتز القضاة والفقهاء والشهود والوجوه، فأخرج إليهم إبراهيم المؤيد ميتا لا أثر به ولا جرح، وحمل إلى أمه على حمار، وحمل معه كفن وحنوط، وأمر بدفنه، وحول أبو أحمد إلى الحجرة التي كان فيها المؤيد، فيقال غطي على أنفه فمات، وقيل: أقعد في الثلج ووضع على رأسه، وقيل في سبب موته أشياء أخرى.


هو المستعين بالله أبو العباس أحمد بن المعتصم بالله محمد بن الرشيد العباسي، ولد سنة إحدى وعشرين ومئتين, وأمه أم ولد، اسمها مخارق, وكان ربعة، خفيف العارضين، وكان مليحا أبيض، بوجهه أثر جدري، وكان يلثغ في السين نحو الثاء، بايع له الأتراك بالخلافة بعد المنتصر، فتسلطوا عليه وقهروه، فلم يكن له من الأمر شيء، فانتقل من سامرا إلى بغداد مغضبا, جرت عدة وقائع بينه وبين أخيه المعتز، فلما اشتد البلاء على الناس في بغداد  تخلى ابن طاهر عن المستعين، وكاتب المعتز، ثم سعى في الصلح على خلع المستعين، فخلع نفسه على شروط مؤكدة في أول سنة 252ه، ثم أنفذوه إلى واسط، فاعتقل تسعة أشهر، ثم أحضر إلى سامرا، فقتلوه بقادسية سامرا, وكان مسرفا في تبذير الخزائن والذخائر.


اجتمع الشاكرية وأصحاب الفروض إلى دار محمد بن عبدالله بن طاهر أمير العراق يطلبون أرزاقهم، فكتب إلى أمير المؤمنين بذلك، فكتب الخليفة في الجواب: إن كنت تريد الجند لنفسك فأعطهم أرزاقهم، وإن كنت تريدهم لنا فلا حاجة لنا فيهم؛ فشغبوا عليه، وأخرج لهم ألفي دينار، ففرقت فيهم فسكتوا، ثم اجتمعوا مرة أخرى بالسلاح والأعلام والطبول، وجمع محمد أصحابه في داره, واجتمع إلى أولئك (المشغبين) خلق كثير، وكان رئيسهم أبو القاسم عبدون بن الموفق، وكان من نواب عبيدالله بن يحيى بن خاقان، فحثهم على طلب أرزاقهم، فحصل بينهم وبين أصحاب محمد قتال، وظهروا على أصحابه، ولما رأى ابن طاهر أن الجند قد ظهروا على أصحابه أمر بالحوانيت التي على باب الجسر أن تحرق، فاحترق للتجار متاع كثير، فحالت النار بين الفريقين، ورجع الجند إلى معسكرهم, ثم إن ابن طاهر أتاه في بعض الأيام رجلان من الجند، فدلاه على عورة القوم، فأمر لهما بمئتي دينار، وأمر الشاه بن ميكال وغيره من القواد في جماعة بالمسير إليهم، فسار إلى تلك الناحية، وكان أبو القاسم، وابن الخليل- وهما المقدمان على الجند- قد خافا مضي ذينك الرجلين، وقد تفرق الناس عنهما، فسار كل واحد منهما إلى ناحية، وأما ابن الخليل فإنه لقي الشاه بن ميكال ومن معه، فصاح بهم، وصاح أصحاب محمد، وصار في وسطهم، فقتل، وأما أبو القاسم فإنه اختفى فدل عليه، فأخذ وحمل إلى ابن طاهر، وتفرق الجند من باب حرب، ورجعوا منازلهم، وقيد أبو القاسم وضرب ضربا مبرحا فمات منه.


قرر المعتز قتل المستعين، فكتب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر أن يسلمه إلى سيما الخادم، وكتب محمد في ذلك إلى الموكلين به بواسط فقتلوه، ثم جاؤوا برأسه والمعتز يلعب الشطرنج، فقيل: هذا رأس المخلوع، فقال: ضعوه هنالك، ثم فرغ من لعبه ودعا به فنظر إليه، ثم أمر بدفنه.


في هذه السنة عاشر المحرم أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يظهروا النياحة، ويلبسوا قبابا عملوها بالمسوح، وأن يخرج النساء منشرات الشعور، مسودات الوجوه، قد شققن ثيابهن، يدرن في البلد بالنوائح، ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي، رضي الله عنهما، ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسنة قدرة على المنع منه لكثرة الشيعة، ولأن السلطان معهم, وفي ثامن عشر ذي الحجة، كان معز الدولة قد أمر بإظهار الزينة في البلد، وأشعلت النيران بمجلس الشرطة، وأظهر الفرح، وفتحت الأسواق بالليل، كما يفعل ليالي الأعياد، فعل ذلك فرحا بعيد الغدير، يعني غدير خم، وضربت الدبادب والبوقات.


دخل أهل طرسوس بلاد الروم غازين، ودخلها أيضا نجا غلام سيف الدولة بن حمدان من درب آخر، ولم يكن سيف الدولة معهم لمرضه؛ فإنه كان قد لحقه قبل ذلك بسنتين فالج، فأقام على رأس درب من تلك الدروب، فأوغل أهل طرسوس في غزوتهم حتى وصلوا إلى قونية وعادوا.


لما رجع سيف الدولة إلى حلب من غزو الروم، كان لحقه في الطريق غشية أرجف عليه الناس بالموت، فوثب هبة الله ابن أخيه ناصر الدولة بن حمدان بابن دنجا النصراني فقتله، وكان خصيصا بسيف الدولة، وإنما قتله لأنه كان يتعرض لغلام له، فغار لذلك، ثم أفاق سيف الدولة، فلما علم هبة الله أن عمه لم يمت هرب إلى حران، فلما دخلها أظهر لأهلها أن عمه مات، وطلب منهم اليمين على أن يكونوا سلما لمن سالمه، وحربا لمن حاربه، فحلفوا له، واستثنوا عمه في اليمين، فأرسل سيف الدولة غلامه نجا إلى حران في طلب هبة الله، فلما قاربها هرب هبة الله إلى أبيه بالموصل، فنزل نجا على حران في السابع والعشرين من شوال، فخرج أهلها إليه من الغد، فقبض عليهم وصادرهم على ألف ألف درهم، ووكل بهم حتى أدوها في خمسة أيام، بعد الضرب الوجيع بحضرة عيالهم وأهليهم، فأخرجوا أمتعتهم فباعوا كل ما يساوي دينارا بدرهم؛ لأن أهل البلد كلهم كانوا يبيعون ليس فيهم من يشتري؛ لأنهم مصادرون، فاشترى ذلك أصحاب نجا بما أرادوا، وافتقر أهل البلد، وسار نجا إلى ميافارقين، وترك حران شاغرة بغير وال، فتسلط العيارون على أهلها.


بعد أن فرغ طغرلبك من أخيه إبراهيم وغير ذلك من المشاغل أسرع بالعود إلى بغداد وليس له هم إلا إعادة الخليفة لداره، وكان قد راسل البساسيري على أن يعيدوا الخليفة ويقنع هو بعدم العودة إلى بغداد فلم يرض البساسيري، فتمكنت عساكر طغرلبك من قتله في ذي الحجة سنة451هـ.

أرسل طغرلبك من الطريق الإمام أبا بكر أحمد بن محمد بن أيوب المعروف بابن فورك، إلى قريش بن بدران يشكره على فعله بالخليفة، وحفظه على صيانته ابنة أخيه امرأة الخليفة،  ويعرفه أنه قد أرسل أبا بكر بن فورك للقيام بخدمة الخليفة، وإحضاره، وإحضار أرسلان خاتون ابنة أخيه امرأة الخليفة، ولما سمع قريش بقصد طغرلبك العراق أرسل إلى مهارش بن مجلي الندوي يحرضه على عدم تسليم الخليفة حتى يستطيعوا أن يشرطوا ما يريدون؛ لكنه أبى عليهم ذلك، وسار مهارش ومعه الخليفة حادي عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة إلى العراق، وجعلا طريقهما على بلد بدر بن مهلهل ليأمنا من يقصدهما، ووصل ابن فورك إلى حلة بدر بن مهلهل، وطلب منه أن يوصله إلى مهارش، فجاء إنسان سوادي إلى بدر وأخبره أنه رأى الخليفة ومهارشا بتل عكبرا، فسر بذلك بدر ورحل ومعه ابن فورك، وخدماه، وحمل له بدر شيئا كثيرا، وأوصل إليه ابن فورك رسالة طغرلبك وهدايا كثيرة أرسلها معه، ولما سمع طغرلبك بوصول الخليفة إلى بلد بدر أرسل وزيره الكندري، والأمراء، والحجاب، وأصحبهم الخيام العظيمة، والسرادقات، والتحف من الخيل بالمراكب الذهب وغير ذلك، فوصلوا إلى الخليفة وخدموه ورحلوا، ووصل الخليفة إلى النهروان في الرابع والعشرين من ذي القعدة، وخرج السلطان إلى خدمته، واعتذر من تأخره بعصيان إبراهيم، وأنه قتله عقوبة لما جرى منه من الوهن على الدولة العباسية، وبوفاة أخيه داود بخراسان، وأنه اضطر إلى التريث حتى يرتب أولاده بعده في المملكة، ثم إن الخليفة لم يدخل بغداد إلا في هذه السنة في صفر في السابع عشر منها.


حصر عز الدولة محمود بن شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس الكلابي مدينة حلب، وضيق عليها، واجتمع مع جمع كثير من العرب، فأقام عليها، فلم يتمكن من فتحها، فرحل عنها، ثم عاودها فحصرها، فملك المدينة عنوة، بعد أن حصرها، وامتنعت القلعة عليه.

-كانت حلب أولا بيد ثمال بن صالح بن مرداس؛ لكن أهل حلب لما خرج ثمال إلى مصر سلموها إلى مكين الدولة الحسن بن علي بن ملهم والي المستنصر الفاطمي-.

أرسل من بحلب إلى المستنصر، صاحب مصر ودمشق، يستنجدونه، فأمر ناصر الدولة أبا محمد الحسين بن الحسن بن حمدان، الأمير بدمشق، أن يسير بمن عنده من العساكر إلى حلب يستردها من محمود، فسار إلى حلب، فلما سمع محمود بقربه منه خرج من حلب، ودخلها عسكر ناصر الدولة فنهبوها، ثم إن الحرب وقعت بين محمود وناصر الدولة بظاهر حلب، واشتد القتال بينهم، فانهزم ناصر الدولة وعاد مقهورا إلى مصر، وملك محمود حلب، واستقام أمره بها، وهذه الوقعة تعرف بوقعة الفنيدق، وهي مشهورة، وكان ذلك في شعبان.


عظم شأن ابن ردمير الفرنجي بالأندلس، واستطال على المسلمين، فخرج في عساكر كثيرة من الفرنج، وجاس في بلاد الإسلام، وخاضها، حتى وصل قرب قرطبة، وأكثر النهب والسبي والقتل، فاجتمع المسلمون في جيش عظيم زائد الحد في الكثرة، وقصدوه، فلم يكن له بهم طاقة، فتحصن منهم في حصن منيع له اسمه أرنيسول، فحصروه، وكبسهم ليلا، فانهزم المسلمون، وكثر القتل فيهم، وعاد إلى بلاده.


في هذه السنة عظم أمر الإسماعيلية بالشام، وقويت شوكتهم، وملكوا بانياس في ذي القعدة منها، وسبب ذلك أن بهرام بن أخت الأسداباذي، داعي الباطنية بحلب والشام، لما قتل خاله ببغداد هرب إلى الشام، وصار داعي الإسماعيلية فيه، وكان يتردد في البلاد، ويدعو أوباش الناس وطغامهم إلى مذهبه، فاستجاب له منهم من لا عقل له، فكثر جمعه، إلا أنه يخفي شخصه فلا يعرف، وأقام بحلب مدة، ونفر إلى إيلغازي صاحبها، وأراد إيلغازي أن يعتضد به لاتقاء الناس شره وشر أصحابه؛ لأنهم كانوا يقتلون كل من خالفهم، وقصد من يتمسك بهم، وأشار إيلغازي على طغتكين، صاحب دمشق، بأن يجعله عنده لهذا السبب، فقبل رأيه، وأخذه إليه، فأظهر حينئذ شخصه -بهرام داعية الباطنية الإسماعيلية- وأعلن دعوته، فكثر أتباعه من كل من يريد الشر والفساد، ووافقه الوزير طاهر بن سعد المزدقاني، وإن لم يكن على عقيدته؛ قصدا للاعتضاد به على ما يريد، فعظم شره واستفحل أمره، وصار أتباعه أضعاف ما كانوا، فلولا أن عامة دمشق يغلب عليهم مذهب أهل السنة، وأنهم يشددون عليه فيما ذهب إليه، لملك البلد، ثم إن بهرام رأى من أهل دمشق فظاظة وغلظة عليه، فخاف عاديتهم، قال الذهبي: "كان طغتكين سيفا مسلولا على الفرنج، ولكن له خرمة كان قد استفحل البلاء بداعي الإسماعيلية بهرام بالشام، وكان يطوف المدائن والقلاع متخفيا، ويغوي الأغتام والشطار، وينقاد له الجهال، إلى أن ظهر بدمشق بتقرير قرره صاحب ماردين إيلغازي مع طغتكين، فأخذ يكرمه، ويبالغ اتقاء لشره، فتبعه الغوغاء والسفهاء والفلاحون، وكثروا، ووافقه الوزير طاهر المزدقاني، وبث إليه سره، ثم التمس من الملك طغتكين قلعة يحتمي بها، فأعطاه بانياس سنة 520، فعظم الخطب، وتوجع أهل الخير، وتستروا من سبهم، وكانوا قد قتلوا عدة من الكبار، فتصدى لهم تاج الملوك بوري بن طغتكين، فقتل الوزير كمال الدين طاهر بن سعد المزدقاني، ونصب رأسه، وركب جنده، فوضعوا السيف بدمشق في الملاحدة الإسماعيلية، فكبسوا منهم في الحال نحوا من ستة آلاف نفس في الطرقات، وكانوا قد تظاهروا، وتفاقم أمرهم، وراح في هذه الكائنة الصالح بالطالح.

وأما بهرام فتمرد وعتا وقتل شابا من أهل وادي التيم اسمه برق، فقام عشيرته، وتحالفوا على أخذ الثأر، فحاربهم بهرام، فكبسوه وذبحوه، وسلمت الملاحدة بانياس للفرنج، وذلوا.

وقيل: إن المزدقاني كان قد كاتب الفرنج ليسلم إليهم دمشق، ويعطوه صور، وأن يهجموا البلد يوم جمعة، ووكل الملاحدة تغلق أبواب الجامع على الناس، فقتله لهذا تاج الملوك، وقد التقى الفرنج وهزمهم، وكانت وقعة مشهودة.

وفي سنة 520 أقبلت جموع الفرنج لأخذ دمشق، ونزلوا بشقحب، فجمع طغتكين التركمانيين وشطار دمشق، والتقاهم في آخر العام، وحمي القتال، ثم فر طغتكين وفرسانه عجزا، فعطفت الرجالة على خيام العدو، وقتلوا في الفرنج، وحازوا الأموال والغنائم، فوقعت الهزيمة على الفرنج، ونزل النصر".


لما توفي أبو حمير سبأ بن أحمد بن المظفر بن علي الصليحي سنة 495، وهو آخر الملوك الصليحيين الباطنية، أرسل المأمون البطائحي الرافضي وزير الفاطميين بمصر علي بن إبراهيم بن نجيب الدولة، فوصل إلى جبال اليمن سنة 513، وقام بأمر الدعوة والمملكة التي كانت بيد سبأ، وبقي ابن نجيب الدولة حتى أرسل الآمر الفاطمي وقبض عليه بعد سنة 520، فانتقل الملك والدعوة باليمن إلى آل الزريع بن العباس بن المكرم.

وآل الزريع هم أهل عدن، وهم شيعة إسماعيلية من همذان بن جشم، وهؤلاء بنو المكرم يعرفون بآل الذيب، وكانت عدن لزريع بن العباس بن المكرم، ولعمه مسعود بن المكرم، فقتلا على زبيد مع الملك المفضل، فولي بعدهما ولداهما، وهما أبو السعود بن زريع، وأبو الغارات ابن مسعود، وبقيا حتى ماتا، وولي بعدهما محمد بن أبي الغارات، ثم ولي بعده ابنه علي بن محمد بن أبي الغارات مقام علي بالدملوة، فمات بالسل، وملك بعده أخوه المعظم محمد بن سبأ، ثم ملك بعده ابنه عمران بن محمد بن سبأ، وكانت وفاة محمد بن سبأ سنه 548، ووفاة عمران بن محمد بن سبأ في شعبان سنة 560، وخلف عمران ولدين طفلين هما محمد وأبو السعود ابنا عمران.

سنة 557 ظهر ابن مهدي واستولى على زبيد وأعمالها، ثم قويت شوكة ولده مهدي، وأغار على الجند وبواديها، وقتل من قتل في تلك النواحي، ثم أخذ جبال اليمن وقتل فيها قتلا ذريعا، وفي سنة 562 استولى على مخلاف الجند، وزالت على يد المهدي دولة آل زريع من المخلاف، ثم زال بقية ملك آل زريع في اليمن على يد الأيوبيين.


أمر الوزير المختص أبو نصر أحمد بن الفضل، وزير السلطان سنجر، بغزو الباطنية، وقتلهم أين كانوا، وحيثما ظفر بهم، ونهب أموالهم، وسبي حريمهم، وجهز جيشا إلى طريثيت، وهي لهم، وجيشا إلى بيهق من أعمال نيسابور، وكان في هذه الأعمال قرية مخصوصة بهم اسمها طرز، ومقدمهم بها إنسان اسمه الحسن بن سمين، وسير إلى كل طرف من أعمالهم جمعا من الجند، ووصاهم أن يقتلوا من لقوه منهم، فقصد كل طائفة إلى الجهة التي سيرت إليها؛ فأما القرية التي بأعمال بيهق فقصدها العسكر، فقتلوا كل من بها، وهرب مقدمهم، وصعد منارة المسجد وألقى نفسه منها فهلك، وكذلك العسكر المنفذ إلى طريثيت قتلوا من أهلها فأكثروا، وغنموا من أموالهم وعادوا.


تراسل السلطان محمود والخليفة بشأن السلطان سنجر، وأن يكونا عليه، فلما علم بذلك سنجر كتب إلى ابن أخيه محمود ينهاه ويستميله إليه، ويحذره من الخليفة، وأنه لا تؤمن غائلته، وأنه متى فرغ مني دار إليك فأخذك، فأصغى إلى قول عمه ورجع عن عزمه، وأقبل ليدخل بغداد عامه ذلك، فكتب إليه الخليفة ينهاه عن ذلك لقلة الأقوات بها، فلم يقبل منه، وأقبل إليه، فلما أزف قدومه خرج الخليفة من داره وتجهز إلى الجانب الغربي فشق عليه ذلك وعلى الناس، ودخل عيد الأضحى فخطب الخليفة الناس بنفسه خطبة عظيمة بليغة فصيحة جدا، وكبر وراءه خطباء الجوامع، وكان يوما مشهودا، ولما نزل الخليفة عن المنبر ذبح البدنة بيده، ودخل السرادق وتباكى الناس ودعوا للخليفة بالتوفيق والنصر، ثم دخل السلطان محمود إلى بغداد يوم الثلاثاء الثامن عشر من ذي الحجة، فنزلوا في بيوت الناس وحصل للناس منهم أذى كثير في حريمهم، ثم إن السلطان راسل الخليفة في الصلح فأبى ذلك الخليفة، وركب في جيشه وقاتل الأتراك ومعه شرذمة قليلة من المقاتلة، ولكن العامة كلهم معه، وقتل من الأتراك خلقا، ثم جاء عماد الدين زنكي في جيش كثيف من واسط في سفن إلى السلطان نجدة، فلما استشعر الخليفة ذلك دعا إلى الصلح، فوقع الصلح بين السلطان والخليفة، وأخذ السلطان محمود يستبشر بذلك جدا، ويعتذر إلى الخليفة المسترشد بالله مما وقع، ثم خرج في أول السنة الآتية إلى همذان لمرض حصل له.


لما وصل السلطان إلى بغداد في العشرين من ذي الحجة، ونزل بباب الشماسية، ودخل بعض عسكره إلى بغداد، ونزلوا في دور الناس، شكا الناس ذلك إلى السلطان، فأمر بإخراجهم، وبقي فيها من له دار، وبقي السلطان يراسل الخليفة بالعود، ويطلب الصلح، وهو يمتنع، وكان يجري بين العسكرين مناوشة، والعامة من الجانب الغربي يسبون السلطان أفحش سب.

ثم إن جماعة من عسكر السلطان دخلوا دار الخلافة، ونهبوا التاج، وحجر الخليفة، أول المحرم، وضج أهل بغداد من ذلك، فاجتمعوا ونادوا الغزاة، فأقبلوا من كل ناحية، ولما رآهم الخليفة خرج من السرادق والشمسة على رأسه، والوزير بين يديه، وأمر بضرب الكوسات والبوقات، ونادى بأعلى صوته: يا آل هاشم! وأمر بتقديم السفن، ونصب الجسر وعبر الناس دفعة واحدة، وكان له في الدار ألف رجل مختفين في السراديب، فظهروا، وعسكر السلطان مشتغلون بالنهب، فأسر منهم جماعة من الأمراء، ثم عبر الخليفة إلى الجانب الشرقي، ومعه ثلاثون ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد، وأمر بحفر الخنادق، فحفرت بالليل، وحفظوا بغداد من عسكر السلطان، ووقع الغلاء عند العسكر، واشتد الأمر عليهم، وكان القتال كل يوم عليهم عند أبواب البلد وعلى شاطئ دجلة، وعزم عسكر الخليفة على أن يكبسوا عسكر السلطان، فغدر بهم الأمير أبو الهيجاء الكردي، صاحب إربل، وخرج كأنه يريد القتال، فالتحق هو وعسكره بالسلطان.

وقدم عماد الدين زنكي بقوات ضخمة نجدة للسلطان فأجاب المسترشد بالله للصلح.


اجتمعت الفرنج وملوكها وقمامصتها وجنودها وساروا إلى نواحي دمشق فنزلوا بمرج الصفر عند قرية يقال لها سقحبا بالقرب من دمشق، فعظم الأمر على المسلمين واشتد خوفهم، وكاتب طغتكين أتابك دمشق أمراء التركمان من ديار بكر وغيرها وجمعهم، وكان هو قد سار عن دمشق إلى جهة الفرنج، واستخلف بها ابنه تاج الملوك بوري فكان بها، كلما جاءت طائفة أحسن ضيافتهم وسيرهم إلى أبيه، فلما اجتمعوا سار بهم طغتكين إلى الفرنج فالتقوا أواخر ذي الحجة واقتتلوا، واشتد القتال، فسقط طغتكين على فرسه، فظن أصحابه أنه قتل، فانهزموا وركب طغتكين فرسه ولحقهم وتبعهم الفرنج وبقي التركمان لم يقدروا أن يلحقوا بالمسلمين في الهزيمة، فتخلفوا، فلما رأوا فرسان الفرنج قد تبعوا المنهزمين وأن معسكرهم وراجلهم ليس له منع ولا حام، حملوا على الرجالة فقتلوهم، ولم يسلم منهم إلا الشريد، ونهبوا معسكر الفرنج وخيامهم وأموالهم وجميع ما معهم، وفي جملته كنيسة وفيها من الذهب والجواهر ما لا يحصى كثرة، فنهبوا ذلك جميعه وعادوا إلى دمشق سالمين لم يعدم منهم أحد.

ولما رجع الفرنج من أثر المنهزمين ورأوا رجالتهم قتلى وأموالهم منهوبة تموا منهزمين لا يلوي الأخ على أخيه، وكان هذا من الغريب أن طائفتين تنهزمان كل واحدة منهما من صاحبتها.


هو أبو سعيد آقسنقر البرسقي الغازي، الملقب قسيم الدولة سيف الدين، وكان مملوكا تركيا صاحب الموصل والرحبة وتلك النواحي، ملكها بعد مودود بن التونتكين، وكان مودود بالموصل وببلاد الشام من جهة السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي، فقتل مودود سنة 507، وآقسنقر يومئذ شحنة بغداد، كان ولاه إياها السلطان محمد في سنة 498، فلما قتل مودود أرسل السلطان محمد البرسقي واليا على الموصل وأمره بالاستعداد لقتال الفرنج بالشام، فوصل إلى الموصل وملكها وغزا، ودفع الفرنج عن حلب وقد ضايقوها بالحصار، فلما استنجد به أهلها، فأجابهم ونادى الغزاة، ولما أشرف على حلب تقهقرت الفرنج، ورتب أمور البلد، وأمدهم بالغلات، ورتب بها ابنه فيها، ثم عاد إلى الموصل وأقام بها إلى أن قتل.

وهو من كبراء الدولة السلجوقية، وله شهرة كبيرة بينهم.

كان عادلا حميد الأخلاق، شديد التدين، محبا للخير وأهله، مكرما للفقهاء والصالحين، لينا حسن المعاشرة، ويرى العدل ويفعله، وكان من خير الولاة؛ يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويصلي من الليل متهجدا، عالي الهمة، كان من خيار الولاة, وكان شجاعا محل ثقة الخلفاء والملوك وتقديرهم.

قتلته الباطنية بجامع الموصل يوم الجمعة التاسع من ذي القعدة سنة 520، قتله الباطنية في مقصورة الجامع بالموصل، وقيل: إنهم جلسوا له في الجامع بزي الصوفية، فلما انفتل من صلاته قاموا إليه وأثخنوه جراحا؛ وذلك لأنه كان تصدى لاستئصال شأفتهم وتتبعهم وقتل منهم عصبة كبيرة، وتولى ولده عز الدين مسعود موضعه، ثم توفي يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة 521، وملك بعده عماد الدين زنكي بن آقسنقر, وكان من مماليك السلطان طغرلبك أبي طالب محمد، وكان من أمراء السلاجقة المشار إليهم فيها، المعدودين من أعيانهم.


عز الدين مسعود بن آقسنقر البرسقي السلجوقي توفي في هذه السنة, واتفق أن موته كان بالرحبة، وسبب مسيره إليها أنه لما استقامت أموره في ولايته، وراسل عز الدين السلطان محمودا، وطلب منه ولاية ما كان أبوه يتولاه من الموصل وغيرها، أجابه السلطان إلى ما طلب، فرتب الأمور وقررها، فكثر جنده، وكان شجاعا شهما، عالي الهمة محبا للجهاد, فطمع في التغلب على بلاد الشام، فجمع عساكره، وسار إلى الشام يريد قصد دمشق، فابتدأ بالرحبة، فوصل إليها ونازلها، وقام يحاصرها، فأخذه مرض حاد وهو محاصر لها، فتسلم القلعة، ومات بعد ساعة، وبقي مطروحا على بساط، وتفرق جيشه، ونهب بعضهم بعضا، فأراد غلمانه أن يقيموا ولده، فأشار الوزير أنوشروان بالأتابك زنكي لحاجة الناس إلى من يقوم بإزاء الفرنج.


لما توفي عز الدين مسعود بن آقسنقر البرسقي صاحب الموصل، أشار الوزير أنوشروان على السلطان محمود أن يولي الأتابك عماد الدين زنكي الموصل وما حولها؛ لحاجة الناس إلى من يقوم بإزاء الفرنج, وخاصة أن الفرنج قد استولوا على أكثر الشام، فاستحسن ذلك السلطان ومال إلى توليته؛ لما يعلمه من كفايته لما يليه، فأحضره وولاه البلاد كلها، وكتب منشورة بها، وسار عماد الدين فبدأ بالبوازيج ليملكها ويتقوى بها ويجعلها ظهره؛ لأنه خاف من جاولي سقاوو أنه ربما صده عن البلاد، ثم تملك الموصل ثم ترك نائبا له فيها هو نصر الدين جقر, وسار هو إلى حلب مفتتحا في طريقه جزيرة ابن عمر وبها مماليك البرسقي، فامتنعوا عليه، فحصرهم وراسلهم، وبذل لهم البذول الكثيرة إن سلموا، فلم يجيبوه إلى ذلك، فجد في قتالهم حتى استلمها، ثم سار إلى نصيبين وفيها حسام الدين تمرتاش، فلما ملك نصيبين سار عنها إلى سنجار، فامتنع من بها عليه، ثم صالحوه وسلموا البلد إليه، ثم سار إلى حران، وهي للمسلمين، وكانت الرها، وسروج، والبيرة، وتلك النواحي جميعها للفرنج، وأهل حران معهم في ضر عظيم، وضيق شديد؛ لخلو البلد من حام يذب عنها، وسلطان يمنعها، فلما قارب حران خرج أهل البلد وأطاعوه وسلموا إليه، فلما ملكها أرسل إلى جوسلين الفرنجي، صاحب الرها وتلك البلاد، وراسله وهادنه مدة يسيرة، وكان غرضه أن يتفرغ لإصلاح البلد، وتجنيد الأجناد، وكان أهم الأمور إليه أن يعبر الفرات إلى الشام، ويملك مدينة حلب وغيرها من البلاد الشامية، فاستقر الصلح بينهم، وأمن الناس، ثم ملك حلب في أول السنة التالية من محرم.


بظهور عماد الدين زنكي بن أقسنقر بدأ عهد الدولة الزنكية في الموصل وحلب؛ فقد تولى عماد الدين زنكي أمر ولاية الموصل وأعمالها سنة 521 بعد أن ظهرت كفاءته في حكم البصرة وواسط، وتولى شحنكية العراق، وفي محرم سنة 522 تمت له السيطرة على حلب, وأخذ عماد الدين يخوض المعارك تلو المعارك ويحقق الانتصارات على الصليبيين، وقد علق ابن الأثير بعد أن تحدث عن انتصار عماد الدين على الفرنج في معركة كبيرة، وملكه حصن الأثارب، وحصاره حارم سنة 524، فقال: "وضعفت قوى الكافرين، وعلموا أن البلاد قد جاءها ما لم يكن لهم في حساب، وصار قصاراهم حفظ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طمعوا في ملك الجميع".

واستمرت جهود زنكي في توحيد قوى المسلمين في غزو الصليبيين، فملك حماة وحمص وبعلبك، وسرجي، ودارا، والمعرة، وكفر طاب، وقلعة الصور في ديار بكر، وقلاع الأكراد الحميدية، وقلعة بعرين، وشهرزور، والحديثة، وقلعة أشب وغيرها من الأكراد الهكارية.

وفي سنة 534 حاول زنكي الاستيلاء على دمشق مرتين دون جدوى؛ فقد كانت دمشق المفتاح الحقيقي لاسترداد فلسطين من جهة الشام، غير أن حاكم دمشق معين الدين أنر راسل الصليبيين للتحالف ضد زنكي ووعدهم أن يحاصر بانياس ويسلمها لهم ووافقوا، ولكن زنكي ذهب إليهم قبل قدومهم لدمشق، فلما سمعوا ذلك لم يخرجوا.

ومع ذلك فإن معين الدين حاصر بانياس بمساعدة جماعة من الفرنج، ثم استولى عليها وسلمها للفرنج.


كان السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه قد أرسل إلى عماد الدين بواسط يأمره أن يحضر هو بنفسه ومعه المقاتلة في السفن، وعلى الدواب في البر، فجمع كل سفينة في البصرة إلى بغداد، وشحنها بالرجال المقاتلة، وأكثر من السلاح، وأصعد، فلما قارب بغداد أمر كل من معه في السفن وفي البر بلبس السلاح، وإظهار ما عندهم من الجلد والنهضة، فسارت السفن في الماء، والعسكر في البر على شاطئ دجلة قد انتشروا وملؤوا الأرض برا وبحرا، فرأى الناس منظرا عجيبا، كبر في أعينهم، وملأ صدورهم، وركب السلطان والعسكر إلى لقائهم، فنظروا إلى ما لم يروا مثله، وعظم عماد الدين في أعينهم، وعزم السلطان على قتال بغداد حينئذ، والجد في ذلك في البر والماء.

فلما رأى الخليفة المسترشد بالله الأمر على هذه الصورة، وخروج الأمير أبي الهيجاء من عنده، أجاب إلى الصلح، وترددت الرسل بينهما، فاصطلحا، واعتذر السلطان مما جرى، وكان حليما يسمع سبه بأذنه فلا يعاقب عليه، وعفا عن أهل بغداد جميعهم، وكان أعداء الخليفة يشيرون على السلطان بإحراق بغداد، فلم يفعل، وقال: لا تساوي الدنيا فعل مثل هذا.

وأقام ببغداد إلى رابع شهر ربيع الآخر سنة 521، وحمل الخليفة من المال إليه كما استقرت القاعدة عليه، وأهدى له سلاحا وخيلا وغير ذلك، فمرض السلطان ببغداد، فأشار عليه الأطباء بمفارقتها، فرحل إلى همذان، فلما وصلها عوفي.


هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي البلنسي النحوي، أحد أئمة اللغة والأدب في القرنين الخامس والسادس الهجريين.

ولد ببطليوس سنة 444, ونشأ بها، ثم سكن مدينة بلنسية، وكان الناس يجتمعون إليه ويقرؤون عليه ويقتبسون منه، واشتهر بالتبحر في الأدب واللغة، وكان مقدما في معرفتهما وإتقانهما، وانتصب لإقراء علوم النحو، واجتمع إليه الناس، وله يد في العلوم القديمة، وكان حسن التعليم، جيد التفهيم، ثقة ضابطا.

ألف كتبا نافعة ممتعة, ومن أشهر كتبه: المثلث في اللغة، والاقتضاب في شرح أدب الكتاب.

وكانت وفاته في 15 رجب من هذه السنة.


هو وزير الديار المصرية العبيدي، الملك أبو عبد الله المأمون بن البطائحي الرافضي، ويقال: إن أباه كان من جواسيس الأفضل بالعراق، وإنه مات ولم يخلف شيئا، فتزوجت أمه وتركته فقيرا، ثم صار من أجناد المشارقة, وهو ممن خدم المستنصر، وإنه الذي لقبه بالمأمون.

وترقى به الحال إلى الملك، وهو الذي أعان الآمر بالله على الفتك بالوزير أمير الجيوش الأفضل السني، وولي منصبه، وكان المأمون شهما مقداما، جوادا بالأموال، سفاكا للدماء، عضلة من العضل، ثم إنه زين لأحد إخوة الآمر قتل الآمر، ودخل معهما أمراء، فعرف بذلك الآمر، فقبض على وزيره المأمون في ليلة السبت لأربع خلون من شهر رمضان سنة519، وقبض على إخوته الخمسة مع ثلاثين رجلا من أهله وخواصه، ولما اعتقل المأمون وجد له سبعون سرجا من ذهب مرصع ومائتا صندوق مملوءة كسوة بدنه.

ووجد لأخيه المؤتمن أربعون سرجا بحلي ذهب وثلاثمائة صندوق فيها كسوة بدنه، ومائتا سلة ما بين بلور محكم وصيني لا يقدر على مثلها، ومائة برنية (فخار كبير) مملوءة كافور قنصوري؛ ومائة وعاء مملوء عودا، ومن ملابس النساء ما لا يحد.

حمل جميع ذلك إلى القصر، وصلب المأمون مع إخوة الآمر سنة 522.

وقيل: إن سبب القبض عليه أنه بعث إلى الأمير جعفر بن المستعلى، أخي الآمر، يعزيه بقتل أخيه الآمر ووعده أنه يعتمد مكانه في الحكم، فلما تعذر ذلك بينهما بلغ الشيخ الأجل، أبا الحسن علي بن أبي أسامة، كاتب الدست، وكان خصيصا بالآمر قريبا منه، وكان المأمون يؤذيه كثيرا.

فبلغ الآمر الحال، وبلغه أيضا أن بلغ نجيب الدولة أبا الحسن إلى اليمن وأمره أن يضرب السكة ويكتب عليها: الإمام المختار محمد بن نزار.

ويقال: إنه سم مبضعا ودفعه لفصاد الآمر، فأعلم الفصاد الآمر بالمبضع.

وكان مولد المأمون سنة 478، وقيل سنة تسع.

وكان من ذوي الآراء والمعرفة التامة بتدبير الدول، كريما واسع الصدر، سفاكا للدماء، شديد التحرز، كثير التطلع إلى أحوال الناس من الجند والعامة؛ فكثر الواشون والسعاة بالناس في أيامه.

وكان المأمون شديد المهابة في النفوس وعنده فطنة تامة وتحرز وبحث عن أخبار الناس وأحوالهم، حتى إنه لا يتحدث أحد من سكان القاهرة ومصر بحديث في ليل أو نهار إلا ويبيت خبره عند المأمون، ولا سيما أخبار الولاة وعمالهم.

ومشت في أيامه أحوال البلاد وعمرت، وساس الرعايا والأجناد وأحسن سياسته، إلا أنه اتهم بأنه هو أقام أولئك الذين قتلوا الأفضل وأعدهم له وأمرهم بقتله؛ ليجعل له بذلك يدا عند الآمر، ولأنه كان يخاف أن يموت الأفضل فيلقى من الآمر ما يكرهه؛ لأنه كان أكبر الناس منزلة عند الأفضل ومتحكما في جميع أموره.

وكان مع ذلك محببا إلى الناس؛ لكثرة ما يقضيه من حوائجهم ويتقرب به من الإحسان إليهم، ويأخذ نفسه بالتدبير الجيد والسيرة الحسنة.


صاحب دمشق الملك أبو منصور أتابك طغتكين -أتابك يعني الأمير الوالد- وهو من مماليك السلطان تتش بن ألب أرسلان، زوجه بأم ولده دقاق، فلما قتل السلطان تملك بعده ابنه دقاق، وصار طغتكين مقدم عسكره، ثم تملك بعد دقاق.

كان عاقلا خيرا شهما شجاعا، مهيبا مجاهدا، مؤثرا للعدل، يلقب ظهير الدين, كثير الغزوات والجهاد للفرنج، حسن السيرة في رعيته، ولما توفي ملك بعده ابنه تاج الملوك بوري، وهو أكبر أولاده، بوصية من والده بالملك، وأقر وزير أبيه أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني على وزارته.

قال الذهبي: "لولا أن الله أقام طغتكين للإسلام بإزاء الفرنج، وإلا كانوا غلبوا على دمشق؛ فقد هزمهم غير مرة، فقد كان سيفا مسلولا على الفرنج.

لكن له خرمة؛ كان قد استفحل البلاء بداعي الإسماعيلية بهرام بالشام، وكان يطوف المدائن والقلاع متخفيا، ويغوي الأغتام والشطار، وينقاد له الجهال، إلى أن ظهر بدمشق بتقرير قرره صاحب ماردين إيلغازي مع طغتكين، فأخذ يكرمه طغتكين، ويبالغ اتقاء لشره، فتبعه الغوغاء والسفهاء والفلاحون، وكثروا، ووافقه الوزير طاهر المزدقاني، وبث إليه سره، ثم التمس من الملك طغتكين قلعة يحتمي بها، فأعطاه بانياس سنة 520، فعظم الخطب، وتوجع أهل الخير، وتستروا من سبهم، وكانوا قد قتلوا عدة من الكبار", وقال ابن الجوزي: "كان طغتكين شهما عادلا، حزن عليه أهل دمشق، فلم تبق محلة ولا سوق إلا والمأتم قائم فيه عليه؛ لعدله وحسن سيرته.

حكم على الشام خمسا وثلاثين سنة، وسار ابنه بسيرته مديدة، ثم تغير وظلم".

وقال فيه أبو يعلى بن القلانسي: "مرض ونحل، ومات في صفر سنة 522، فأبكى العيون، وأنكأ القلوب، وفت في الأعضاد، وفتت الأكباد، وزاد في الأسف، فرحمه الله، وبرد مضجعه".