لما عزمت قريش أن تقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمع بنو عبد المطلب أمرهم على أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ويحموه فيه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر، وهو بمنى: «نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة؛ حيث تقاسموا على الكفر» يعني ذلك المحصب، وذلك أن قريشا وكنانة، تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب، أو بني المطلب: أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلوا الشعب جميعا مسلمهم وكافرهم، وأجمع المشركون أمرهم على أن لا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يبايعوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا رسول الله للقتل، وكتبوا في ذلك صحيفة، فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد والجوع، فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من قريش على ما حدث وأجمعوا على نقض الصحيفة، وقد أعلمهم الرسول بأنه لم يبق فيها سوى كلمات الشرك والظلم، وهكذا انتهت المقاطعة.


بعد مرور عامين أو ثلاثة أعوام من الحصار الظالم في شعب أبي طالب نقضت الصحيفة وفك الحصار؛ وذلك أن قريشا كانوا بين راض بهذا الميثاق وكاره له، فسعى في نقض الصحيفة من كان كارها لها, وكان القائم بذلك هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي, وكان يصل بني هاشم في الشعب مستخفيا بالليل بالطعام, فإنه ذهب إلى زهير بن أبي أمية المخزومي -وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب- وقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام، وتشرب الشراب، وأخوالك بحيث تعلم؟ فقال: ويحك، فما أصنع وأنا رجل واحد؟ أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها.

قال: قد وجدت رجلا.

قال: فمن هو؟ قال: أنا.

قال له زهير: ابغنا رجلا ثالثا.

فذهب إلى المطعم بن عدي، فذكره أرحام بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف، ولامه على موافقته لقريش على هذا الظلم، فقال المطعم: ويحك، ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد.

قال: قد وجدت ثانيا.

قال: من هو؟ قال: أنا.

قال: ابغنا ثالثا.

قال: قد فعلت.

قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية.

قال: ابغنا رابعا.

فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحوا مما قال للمطعم، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم.

قال: من هو؟ قال زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا معك.

قال: ابغنا خامسا.

فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه, وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم.

ثم سمى له القوم، فاجتمعوا عند الحجون، وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة، وقال زهير: أنا أبدأكم فأكون أول من يتكلم.

فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير عليه حلة، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام, ونلبس الثياب, وبنو هاشم هلكى، لا يباع ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

قال أبو جهل, وكان في ناحية المسجد: كذبت، والله لا تشق.

فقال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حيث كتبت.

قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقر به.

قال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها.

وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك.

فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، وتشوور فيه بغير هذا المكان.

وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، إنما جاءهم لأن الله كان قد أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على أمر الصحيفة، وأنه أرسل عليها الأرضة، فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر الله عز وجل، فأخبر بذلك عمه، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا، فإن كان كاذبا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا.

قالوا: قد أنصفت.

وبعد أن دار الكلام بين القوم وبين أبي جهل، قام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا (باسمك اللهم)، وما كان فيها من اسم الله فإنها لم تأكله.

ثم نقض الصحيفة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب، وقد رأى المشركون آية عظيمة من آيات نبوته، ولكنهم  كما أخبر الله عنهم: (وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ) أعرضوا عن هذه الآية وازدادوا كفرا إلى كفرهم.


تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة الصديقة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين, وبنى بها بالمدينة في شوال في السنة الأولى من الهجرة وهي بنت تسع سنين, وكانت أحظى أزواجه عنده وأحبهم إليه, ولم يتزوج بكرا غيرها.


كان أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين من قريش من بني مخزوم، وكانت هجرته إليها بعد بيعة العقبة الأولى، وقبل بيعة العقبة الثانية، حين آذته قريش بعد مرجعه من الحبشة، فعزم على الرجوع إليها، ثم بلغه أن بالمدينة لهم إخوانا، فعزم في الهجرة إليها.

قالت أم سلمة: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه، وجعل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج يقود بي بعيره، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة.

قالت: ففرق بيني وبين ابني وبين زوجي.

قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس في الأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريبا منها، حتى مر بي رجل من بني عمي أحد بني المغيرة، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تحرجون من هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟ قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت.

قالت: فرد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني، قالت: فارتحلت بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة.

قالت: وما معي أحد من خلق الله، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار، فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية؟ قلت: أريد زوجي بالمدينة.

قال: أوما معك أحد؟ قلت: ما معي أحد إلا الله وابني هذا.

فقال: والله ما لك من مترك.

فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده في الشجر، ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها.

فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله، ثم استأخر عني وقال: اركبي.

فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية.

وكان أبو سلمة بها نازلا، فادخليها على بركة الله.

ثم انصرف راجعا إلى مكة.

فكانت تقول أم سلمة: ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة.

أسلم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري بعد الحديبية.


كتب الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بيعة العقبة الأولى أن يبعث لهم من يصلي بهم ويقريهم القرآن، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم مصعب بن عمير, فكان في ضيافة أسعد بن زرارة, وأخذ يدعو إلى الإسلام، وانتشر الإسلام في أهل يثرب حتى لم يبق بيت في يثرب إلا وفيه مسلم أو مسلمة، وكان ممن أسلم على يده سيدا الأوس سعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير.


لما تمت بيعة العقبة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرسالا، كان من السابقين للهجرة بعد العقبة الثانية مصعب بن عمير, ثم عامر بن ربيعة حليف بن بني عدي بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن غانم، ثم عبد الله بن جحش بأهله وأخيه عبد بن جحش أبي أحمد، وكان ضريرا، وكان منزلهما ومنزل أبي سلمة بقباء في بني عمرو بن عوف، فلما هاجر جميع بني جحش بنسائهم فعدا أبو سفيان على دارهم فتملكها، فذكر ذلك عبد الله بن جحش لما بلغه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا في الجنة خيرا منها؟ قال: بلى.

قال: فذلك لك".

فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كلمه أبو أحمد في دارهم، فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس لأبي أحمد: يا أبا أحمد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن ترجعوا في شيء أصيب منكم في الله، فأمسك عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان بنو غنم بن دودان أهل إسلام قد خرجوا كلهم إلى المدينة، ثم خرج عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة في عشرين راكبا فقدموا المدينة، وكان هشام بن العاص بن وائل قد أسلم، وواعد عمر بن الخطاب أن يهاجر معه، وقال: تجدني أو أجدك عند أضاءة بني غفار، ففطن لهشام قومه فحبسوه عن الهجرة.

ثم إن أبا جهل والحرث بن هشام خرجا حتى قدما المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فكلما عياش بن أبي ربيعة وكان أخاهما لأمهما وابن عمهما، وأخبراه أن أمه قد نذرت أن لا تغسل رأسها ولا تستظل حتى تراه، فرقت نفسه وصدقهما وخرج راجعا معهما، فكتفاه في الطريق وبلغا به مكة، نهارا موثقا، ثم قالا: يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا.

فحبساه بها إلى أن خلصه الله تعالى بعد ذلك بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له في قنوت الصلاة: "اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة".

ولما أراد صهيب بن سنان الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، لا والله لا يكون ذلك.

فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم، فقال: فإني قد جعلت لكم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ربح صهيب، ربح صهيب".

ثم تتابع المهاجرون بالهجرة إلى المدينة إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم.


كانت سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد، وهو ابن عمته صلى الله عليه وسلم برة بنت عبد المطلب، وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة.

وقطن: هو جبل، وقيل: ماء من مياه بني أسد.

وسببها: أن رجلا من طيئ اسمه الوليد بن زهير بن طريف قدم المدينة زائرا ابنة أخيه زينب، وكانت تحت طليب بن عمير بن وهب، فأخبر أن طليحة وسلمة ابني خويلد تركهما قد سارا في قومهما ومن أطاعهما لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاهم قيس بن الحارث فعصوه؛ فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أبا سلمة رضي الله تعالى عنه وقال: "اخرج في هذه السرية فقد استعملتك عليها".

وعقد له لواء وقال: "سر حتى ترد أرض بني أسد بن خزيمة، فأغر عليهم قبل أن يتلاقى عليك جموعهم".

وأوصاه بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا.

فخرج معه في تلك السرية خمسون ومئة رجل، ومعه الرجل الطائي دليلا، فأسرع السير وعدل بهم عن سيف الطريق، وسار بهم ليلا ونهارا، فسبقوا الأخبار وانتهوا إلى ذي قطن -ماء من مياه بني أسد وهو الذي كان عليه جمعهم-، فأغاروا على سرح لهم، وأسروا ثلاثة من الرعاة وأفلت سائرهم، فجاؤوا جمعهم فأخبروهم الخبر وحذروهم جمع أبي سلمة، وكثروه عندهم، فتفرق الجمع في كل وجه، وورد أبو سلمة الماء، فوجد الجمع قد تفرق.

فعسكر وفرق أصحابه في طلب النعم والشاء؛ فجعلهم ثلاث فرق: فرقة أقامت معه، وفرقتان أغارتا في ناحيتين شتى، وأوعز إليهما ألا يمعنوا في الطلب، وألا يبيتوا إلا عنده إن سلموا، وأمرهم ألا يفترقوا، واستعمل على كل فرقة عاملا منهم فآبوا إليه جميعا سالمين قد أصابوا إبلا وشاء، ولم يلقوا أحدا، فانحدر أبو سلمة بذلك كله راجعا إلى المدينة ورجع معه الطائي.

فلما ساروا ليلة قسم أبو سلمة الغنائم، وأخرج صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا وأخرج الخمس وأعطى الطائي الدليل رضاه من المغنم، ثم قسم ما بقي بين أصحابه فأصاب كل إنسان سبعة أبعرة، وقدم بذلك إلى المدينة ولم يلق كيدا.


خرج عبد الله بن أنيس رضي الله عنه من المدينة يوم الإثنين لخمس خلون من المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي ثم اللحياني -وكان ينزل عرنة وما والاها في أناس من قومه وغيرهم- يريد أن يجمع الجموع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضوى إليه بشر كثير من أفناء الناس.

قال عبد الله بن أنيس رضي الله تعالى عنه: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنه بلغني أن سفيان بن خالد بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني وهو بنخلة أو بعرنة فأته فاقتله".

فقلت: يا رسول الله، صفه لي حتى أعرفه.

فقال: "آية ما بينك وبينه أنك إذا رأيته هبته وفرقت منه، ووجدت له قشعريرة، وذكرت الشيطان".

قال عبد الله: كنت لا أهاب الرجال، فقلت: يا رسول الله، ما فرقت من شيء قط.

فقال: "بلى؛ آية ما بينك وبينه ذلك: أن تجد له قشعريرة إذا رأيته".

قال: واستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول.

فقال: "قل ما بدا لك".

وقال: "انتسب لخزاعة".

فأخذت سيفي ولم أزد عليه وخرجت أعتزي لخزاعة حتى إذا كنت ببطن عرنة لقيته يمشي ووراءه الأحابيش.

فلما رأيته هبته وعرفته بالنعت الذي نعت لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقلت: صدق الله ورسوله، وقد دخل وقت العصر حين رأيته، فصليت وأنا أمشي أومي برأسي إيماء.

فلما دنوت منه قال: "من الرجل؟".

فقلت: "رجل من خزاعة سمعت بجمعك لمحمد فجئتك لأكون معك عليه".

قال: "أجل؛ إني لفي الجمع له".

فمشيت معه وحدثته فاستحلى حديثي وأنشدته وقلت: "عجبا لما أحدث محمد من هذا الدين المحدث، فارق الآباء وسفه أحلامهم".

قال: "لم ألق أحدا يشبهني ولا يحسن قتاله".

وهو يتوكأ على عصا يهد الأرض، حتى انتهى إلى خبائه وتفرق عنه أصحابه إلى منازل قريبة منه، وهم يطيفون به.

فقال: هلم يا أخا خزاعة.

فدنوت منه.

فقال: اجلس.

فجلست معه حتى إذا هدأ الناس ونام اغتررته.

وفي أكثر الروايات أنه قال: فمشيت معه حتى إذا أمكنني حملت عليه السيف فقتلته وأخذت رأسه.

ثم أقبلت فصعدت جبلا، فدخلت غارا وأقبل الطلب من الخيل والرجال تمعج في كل وجه وأنا مكتمن في الغار، وأقبل رجل معه إداوته ونعله في يده وكنت خائفا، فوضع إداوته ونعله وجلس يبول قريبا من فم الغار، ثم قال لأصحابه: ليس في الغار أحد، فانصرفوا راجعين، وخرجت إلى الإداوة فشربت ما فيها وأخذت النعلين فلبستهما.

فكنت أسير الليل وأكمن النهار حتى جئت المدينة، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فلما رآني قال: "أفلح الوجه".

فقلت: وأفلح وجهك يا رسول الله".

فوضعت الرأس بين يديه وأخبرته خبري، فدفع إلي عصا وقال: "تخصر بها في الجنة؛ فإن المتخصرين في الجنة قليل".

فكانت العصا عند عبد الله بن أنيس حتى إذا حضرته الوفاة أوصى أهله أن يدرجوا العصا في أكفانه.

ففعلوا ذلك.

قال ابن عقبة: "فيزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بقتل عبد الله بن أنيس سفيان بن خالد قبل قدوم عبد الله بن أنيس رضي الله تعالى عنه".


أغار عيينة بن حصن -في بني عبد الله بن غطفان- على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم التي بالغابة، فاستاقها وقتل راعيها، وهو رجل من غفار، وأخذوا امرأته، فكان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي رضي الله عنه، يقول سلمة: خرجت قبل أن يؤذن بالأولى، وكانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ترعى بذي قرد، قال: فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف فقال: أخذت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقلت: من أخذها؟ قال: غطفان.

قال: فصرخت ثلاث صرخات، يا صباحاه.

قال: فأسمعت ما بين لابتي المدينة، ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم بذي قرد، وقد أخذوا يسقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي، وكنت راميا، وأقول: أنا ابن الأكوع.
.
.

واليوم يوم الرضع، فأرتجز حتى استنقذت اللقاح منهم، واستلبت منهم ثلاثين بردة، قال: وجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس، فقلت: يا نبي الله، إني قد حميت القوم الماء وهم عطاش، فابعث إليهم الساعة.

فقال: «يا ابن الأكوع ملكت فأسجح».

ثم قال: «إنهم الآن ليقرون في غطفان».

وذهب الصريخ بالمدينة إلى بني عمرو بن عوف، فجاءت الأمداد ولم تزل الخيل تأتي، والرجال على أقدامهم وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد.

وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ماء يقال له: ذو قرد.

فنحر لقحة مما استرجع، وأقام هناك يوما وليلة، ثم رجع إلى المدينة.

وقتل في هذه الغزوة الأخرم، وهو محرز بن نضلة رضي الله عنه، قتله عبد الرحمن بن عيينة، وتحول على فرسه، فحمل عليه أبو قتادة فقتله، واسترجع الفرس، وكانت لمحمود بن مسلمة، وأقبلت المرأة المأسورة على ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نذرت: إن الله أنجاها عليها لتنحرنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما جزتها، لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا في معصية.

وأخذ ناقته.

وقد روى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع في هذه القصة قال: فرجعنا إلى المدينة، فلم نلبث إلا ثلاث ليال، حتى خرجنا إلى خيبر.


بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة رضي الله عنه في ثلاثين راكبا إلى القرطاء -بينها وبين المدينة سبع ليال-، وهم بطن من بني بكر، واسمه: عبيد بن كلاب.

فخرج محمد بن مسلمة رضي الله عنه وأصحابه فسار الليل واستتر النهار، فلما أغار عليهم هرب سائرهم بعد أن قتل نفرا منهم، واستاق المسلمون نعما وشاء، وقدموا المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعهم ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، كان قد خرج متنكرا لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم بأمر مسيلمة الكذاب، فأخذه المسلمون، فلما جاؤوا به ربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما عندك يا ثمامة؟" فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه.

ثم مر به مرة أخرى، فقال له مثل ذلك، فرد عليه كما رد عليه أولا، ثم مر مرة ثالثة فقال بعدما دار بينهما الكلام السابق: "أطلقوا ثمامة"، فأطلقوه، فذهب إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم جاءه فأسلم، وقال: "والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، ووالله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إلي من دينك، فقد أصبح دينك أحب الأديان إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر؛ فلما قدم على قريش قالوا: صبأت يا ثمامة، قال: لا والله، ولكني أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وكانت يمامة ريف مكة؛ فانصرف إلى بلاده، ومنع الحمل إلى مكة، حتى جهدت قريش، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلي إليهم حمل الطعام؛ ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.


اختلف أهل السير في وقتها على قولين، فقيل: في السنة السابعة.

وهو قول ابن إسحاق وغيره، وقيل: في السنة السادسة.

وهو قول مالك وغيره.

قال ابن القيم: والجمهور على أنها في السابعة.

وقال ابن حجر: وهذه الأقوال متقاربة، والراجح منها ما ذكره ابن إسحاق، ويمكن الجمع بينهما بأن من أطلق سنة ست بناء على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو ربيع الأول.

عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر، قال: فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس، فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم وركب أبو طلحة، وأنا رديف أبي طلحة، فأجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر، وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم، وانحسر الإزار عن فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم، فإني لأرى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل القرية قال: «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».

قالها ثلاث مرات، قال: وقد خرج القوم إلى أعمالهم، فقالوا: محمد، والله -قال عبد العزيز: وقال بعض أصحابنا: محمد، والخميس- قال: وأصبناها عنوة، وجمع السبي، فجاءه دحية فقال: يا رسول الله، أعطني جارية من السبي.

فقال: «اذهب فخذ جارية».

فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أعطيت دحية صفية بنت حيي سيد قريظة والنضير! ما تصلح إلا لك، قال: «ادعوه بها».

قال: فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «خذ جارية من السبي غيرها».

قال: وأعتقها وتزوجها.
.
.
" عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى خيبر، فجاءها ليلا، وكان إذا جاء قوما بليل لا يغير عليهم حتى يصبح، فلما أصبح خرجت يهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد والخميس.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين».

وقد جعل الله تعالى فتح خيبر على يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود: أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها".

فأبقاهم النبي صلى الله عليه وسلم في أرضهم ولهم النصف.


في أثناء غزوة خيبر حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية، وأخبر أنها رجس، وأمر بالقدور فألقيت وهي تفور بلحومها، وأمر بغسل القدور بعد، وأحل حينئذ لحوم الخيل وأطعمهم إياها, كما نهى صلى الله عليه وسلم عن متعة النساء.


عن أبي موسى رضي الله عنه قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه، أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رهم -إما قال: في بضع، وإما قال: في ثلاثة وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلا من قومي- فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، ووافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده، فقال جعفر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هاهنا، وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا.

فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا، فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فأسهم لنا -أو قال: فأعطانا منها- وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا، إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم.


لما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد فتحها أهدت له زينب بنت الحارث -امرأة سلام بن مشكم- شاة مصلية، وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السم، ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع، فلاك منها مضغة فلم يسغها، ولفظها، ثم قال: (إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم).

ثم دعا بها فاعترفت، فقال: (ما حملك على ذلك؟).

قالت: قلت إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيا فسيخبر، فتجاوز عنها.

وكان معه بشر بن البراء بن معرور، أخذ منها أكلة فأساغها، فمات منها, واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأة وقتلها، وأجمعوا بأنه تجاوز عنها أولا، فلما مات بشر قتلها قصاصا.


بعد رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية كتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام, ولما أراد أن يكاتبهم قيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلا وعليه خاتم، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من فضة، نقشه: محمد رسول الله، وكان هذا النقش ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: « فكأني بوبيص -أو ببصيص- الخاتم في إصبع النبي صلى الله عليه وسلم -أو في كفه-».

واختار من أصحابه رسلا لهم معرفة وخبرة، وأرسلهم إلى الملوك فبعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم، فقرأ الكتاب ولم يسلم, وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك الفرس، فلما قرئ الكتاب عليه مزقه، ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مزق الله ملكه).

وقد كان كما قال, وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة، فلما أعطاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه ووضعه على عينه، ونزل عن سريره على الأرض، وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الإسكندرية, فأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فجعله في حق من عاج، وختم عليه، ثم كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا, ولم يسلم, وأهداه جاريتين هما مارية، وشيرين وسيرين، وبغلة تسمى دلدل.

وبعث عمرو بن العاص السهمي إلى جيفر وعياد عباد ابني الجلندي الأزديين ملكي عمان، فأجابا إلى الإسلام جميعا، وصدقا النبي صلى الله عليه وسلم, وبعث سليط بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي إلى هوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة, فرد عليه ردا دون رد، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك).

وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين فلما أتاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم, وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام, فلما بلغه الكتاب رمى به وقال: من ينزع ملكي مني؟ أنا سائر إليه, ولم يسلم.

واستأذن قيصر في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فثناه عن عزمه، فأجاز الحارث شجاع بن وهب بالكسوة والنفقة، ورده بالحسنى, وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن وقد أسلم هو وأخواه جميعا.


قدم خالد العراق لمساندة المثنى بأمر من أبي بكر ومعه عشرة آلاف مقاتل، ومع المثنى وأصحابه ثمانية آلاف، وجعل على مقدمته المثنى وبعده عدي بن حاتم، وجاء خالد بعدهما، وواعدهما الحفير ليصادموا عدوهم، وكان ذلك الفرج أعظم فروج فارس وأشدها شوكة، وكان صاحبه هرمز، وهو سيئ المجاورة للعرب، فكلهم عليه حنق، وكانوا يضربونه مثلا فيقولون: أكفر من هرمز, فلما سمع  أنهم تواعدوا الحفير، سبقهم إليه ونزل به، وجعل على مقدمته قباذ وأنوشجان، وكانا من أولاد أردشير الأكبر، واقترنوا في السلاسل، لذلك سميت بذلك، فسمع بهم خالد، فمال بالناس إلى كاظمة، فسبقه هرمز إليها، وقدم خالد فنزل على غير ماء فقال له أصحابه في ذلك: ما تفعل؟ فقال لهم: لعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين.

فحطوا أثقالهم، وتقدم خالد إلى الفرس فلاقاهم، وأرسل الله سحابة فأغدرت وراء صف المسلمين، فقويت قلوبهم، وخرج هرمز ودعا خالدا إلى البراز، وأوطأ أصحابه على الغدر بخالد، فبرز إليه خالد ومشى نحوه راجلا، ونزل هرمز أيضا وتضاربا، فاحتضنه خالد، وحمل أصحاب هرمز، فما شغله ذلك عن قتله، وحمل القعقاع بن عمرو فأزاحهم، وانهزم أهل فارس وركبهم المسلمون، وسميت الوقعة ذات السلاسل، ونجا قباذ وأنوشجان، وأخذ خالد سلب هرمز، وكانت قلنسوته بمائة ألف.

كان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مائة ألف، فكان هرمز ممن تم شرفه، وبعث خالد بالفتح والأخماس إلى أبي بكر.


عهد أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى زيد بن ثابت بجمع نصوص القرآن وخاصة بعد موت عدد كبير من حفظة القرآن في اليمامة، وكان هذا الأمر غير مقبول لدى الصحابة رضي الله عنهم في البداية، ولكن الله شرح صدورهم له كما شرح صدر أبي بكر له، فكلف أبو بكر زيد بن ثابت بمهمة الكتابة، فقال لزيد: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك, قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فتتبع القرآن فاجمعه.

فقلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: هو -والله- خير.

فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر, فكنت أتتبع القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال.

وكان الأمر شديدا على زيد لكنه قام بها خير قيام، فكان هذا الأمر أول جمع للقرآن، وبقي المصحف عند أبي بكر في خلافته.


هي ماريا القبطية، أهداها المقوقس القبطي للنبي صلى الله عليه وسلم، تسرى بها النبي صلى الله عليه وسلم، وولدت له إبراهيم، فقال: (أعتقها ولدها)، فلا تعد من زوجاته صلى الله عليه وسلم، وبالتالي ليست من أمهات المؤمنين، أنفق عليها أبو بكر وعمر إلى أن توفيت في خلافته وصلى عليها بنفسه.


كما أصاب الشام طاعون عمواس فقد أصيبت الحجاز بقحط شديد جدا وجفاف عام، وسمي ذلك اليوم بعام الرمادة، حتى طلب عمر الغوث من مصر ومن الشام، فأرسل له عاملاه عليها المؤونة التي خففت عن الناس.


لم يبايع الحسين بن علي رضي الله عنه ليزيد، وبقي في مكة هو وابن الزبير؛ ولكن أهل الكوفة راسلوا الحسين ليقدم عليهم ليبايعوه وينصروه فتكون له الخلافة، وكان على الكوفة عبيد الله بن زياد، فبعث الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل ليعلم له صدق أهل الكوفة، فقبض عليه ابن زياد وقتله، وتوالت الكتب من أهل الكوفة للحسين ليحضر إليهم حتى عزم على ذلك، فناصحه الكثير من الرجال والنساء منهم: ابن عمر، وأخوه محمد بن الحنفية، وابن عباس، وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن الزبير.
.
.
.

ألا يفعل، وأنهم سيخذلونه كما خذلوا أباه وأخاه من قبل؛ لكن قدر الله سابق فأبى إلا الذهاب إليهم، فخرج من مكة في ذي الحجة، ولما علم ابن زياد بمخرجه جهز له من يقابله، فلما قدم الحسين وقد كان وصله خبر موت مسلم وأخيه من الرضاع فقال للناس من أحب أن ينصرف فلينصرف، ليس عليه منا ذمام.

فتفرقوا يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من مكة، وقابلهم الحر بن يزيد من قبل ابن زياد ليحضر الحسين ومن معه إلى ابن زياد؛ ولكن الحسين أبى عليه ذلك، فلم يقتله الحر وظل يسايره حتى لا يدخل الكوفة، حتى كانوا قريبا من نينوى جاء كتاب ابن زياد إلى الحر أن ينزل الحسين بالعراء بغير ماء، ثم جاء جيش عمر بن سعد بن أبي وقاص كذلك للحسين، إما أن يبايع، وإما أن يرى ابن زياد فيه رأيه، وعرض الحسين عليهم إما أن يتركوه فيرجع من حيث أتى، أو يذهب إلى الشام فيضع يده في يد يزيد بن معاوية، وإما أن يسير إلى أي ثغر من ثغور المسلمين فيكون واحدا منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم.

فلم يقبلوا منه شيئا من ذلك، وأرسل ابن زياد طائفة أخرى معها كتاب إلى عمر بن سعد أن ائت بهم أو قاتلهم، ثم لما كان اليوم العاشر من محرم التقى الصفان، وذكرهم الحسين مرة أخرى بكتبهم له بالقدوم فأنكروا ذلك، ووعظهم فأبوا فاقتتلوا قتالا شديدا، ومال الحر إلى الحسين وقاتل معه، وكان آخر من بقي من أصحاب الحسين سويد بن أبي المطاع الخثعمي، وكان أول من قتل من آل بني أبي طالب يومئذ علي الأكبر ابن الحسين، ومكث الحسين طويلا من النهار كلما انتهى إليه رجل من الناس رجع عنه وكره أن يتولى قتله وعظم إثمه عليه.

وكان أصحاب الحسين يدافعون عنه، ولما قتل أصحابه لم يجرؤ أحد على قتله، وكان جيش عمر بن سعد يتدافعون، ويخشى كل فرد أن يبوء بقتله، وتمنوا أن يستسلم؛ لكن شمر بن ذي الجوشن صاح في الجند: ويحكم، ماذا تنتظرون بالرجل! اقتلوه، ثكلتكم أمهاتكم.

وأمرهم بقتله, فحملوا عليه من كل جانب، وضربه زرعة بن شريك التميمي, ثم طعنه سنان بن أنس النخعي واحتز رأسه.

ويقال: إن الذي قتله عروة بن بطار التغلبي وزيد بن رقاد الجنبي.

ويقال: إن المتولي الإجهاز عليه شمر بن ذي الجوشن الضبي، وحمل رأسه إلى ابن زياد خولي بن يزيد الأصبحي.

ودفن الحسين رضي الله عنه وأصحابه أهل الغاضرية من بني أسد بعد قتلهم بيوم.

قال شيخ الإسلام في قتله رضي الله عنه: قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما يوم عاشوراء، قتلته الطائفة الظالمة الباغية، وأكرم الله الحسين بالشهادة، كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته، أكرم بها حمزة وجعفرا، وأباه عليا، وغيرهم، وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته، وأعلى درجته، والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء، قتلوه مظلوما شهيدا شهادة أكرمه الله بها، وألحقه بأهل بيته الطيبين الطاهرين، وأهان بها من ظلمه واعتدى عليه، وأوجب ذلك شرا بين الناس، فصارت طائفة جاهلة ظالمة: إما ملحدة منافقة، وإما ضالة غاوية، تظهر موالاته وموالاة أهل بيته، تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود، وشق الجيوب، والتعزي بعزاء الجاهلية.

ومن كرامة الله للمؤمنين أن مصيبة الحسين وغيره إذا ذكرت بعد طول العهد يسترجع فيها، كما أمر الله ورسوله؛ ليعطى من الأجر مثل أجر المصاب يوم أصيب بها.

وإذا كان الله تعالى قد أمر بالصبر والاحتساب عند حدثان العهد بالمصيبة فكيف مع طول الزمان, فكان ما زينه الشيطان لأهل الضلال والغي من اتخاذ يوم عاشوراء مأتما، وما يصنعون فيه من الندب والنياحة، وإنشاد قصائد الحزن، ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير -والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن- والتعصب، وإثارة الشحناء والحرب، وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام؛ والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين، وكثرة الكذب والفتن في الدنيا، ولم يعرف طوائف الإسلام أكثر كذبا وفتنا ومعاونة للكفار على أهل الإسلام من هذه الطائفة الضالة الغاوية، فإنهم شر من الخوارج المارقين.