الروض المربع - كتاب الصلاة [55]


الحلقة مفرغة

طول الفصل بعد السلام

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله: [ فإن طال الفصل عرفاً بطلت لتعذر البناء إذاً، أو تكلم في هذه الحالة لغير مصلحتها، كقوله: يا غلام! اسقني بطلت صلاته لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين ) رواه مسلم ، وقال أبو داود فكان لا يصلح، لا يحل ككلامه في صلبها أي: في صلب الصلاة فتبطل به للحديث المذكور، سواء كان إماماً أو غيره، سواء كان الكلام عمداً أو سهواً أو جهلاً طائعاً أو مكروهاً؛ أو وجب لتحذير ضرير ونحوه، وسواء كان لمصلحتها أو لا، والصلاة فرضاً أو نفلاً، وإن تكلم من سلم ناسياً لمصلحتها فإن كثر بطلت وإن كان يسيراً لم تبطل ].

طول الفصل بين الركعات عرفاً

قول المؤلف رحمه الله: (فإن طال الفصل عرفاً بطلت) إشارة إلى أنه لو سلم قبل إتمام صلاته ولم يتذكر إلا بعد زمن طويل فإن المؤلف يقول: (بطلت لتعذر البناء إذاً)؛ لأن من شرط الصلاة الموالاة بين كل ركعة بأخرى، فإذا فصلت بعض الركعات عن الأخرى فإنه لا يصح البناء، كما لو فرق بين الركعات بيوم، وهذا أمر لا إشكال فيه، بل هو أمر مجمع عليه إن طال الفصل عرفاً، وإن كانوا يختلفون في العرف، فبعضهم حدده بالخروج من المسجد، كما أشار الخرقي -رحمه الله- فيمن ترك سجود السهو فسلم ولم يسجد للسهو، فأشار إلى أنه إن لم يخرج من المسجد جاز له أن يسجد سجود السهو، وإلا فقد سقط في حقه سجود السهو، ولعلنا نشير إن شاء الله إلى هذه المسألة، ونذكر القول الراجح فيها، لكن بحثنا هنا هو في مسألة طول الفصل.

ويستدل على جواز البناء إذا لم يطل الفصل بما في صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ثلاث ركعات ثم سلم ثم دخل بيته، فأخبره الصحابة بأنه لم يكمل صلاته، فخرج يجر إزاره عليه الصلاة والسلام ثم قام فصلى )، يعني: أكمل بهم الصلاة، وهذا يدل على أنه لا بأس بالبناء إذا لم يطل الفصل، وإطالة الفصل بالعرف سواء دخل بيته أو لم يدخل بيته، أتى بمنافٍ للصلاة غير الحدث أو لم يأت، تكلم لمصلحة الصلاة أو لم يتكلم لمصلحة الصلاة، بل لأمور أخرى، كما سنذكره وهو خلاف ما ذكره المؤلف رحمه الله، لكن المؤلف هنا أشار إلى أنه إذا لم يطل الفصل عرفاً فإن له أن يبني.

التكلم في غير مصلحة الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: (أو تكلم في هذه الحالة لغير مصلحتها).

يعني: أن الإنسان إذا سلم ولم يكمل صلاته، فهل يجوز له أن يبني على صلاته لو رجع؟

قال المؤلف: يجوز لكن بشروط:

أولاً: ألا يطول الفصل؛ لأنه إذا طال الفصل لم يصح البناء.

ثانياً: إذا تكلم في هذه الحال لغير مصلحة الصلاة، مثاله: لو أن شخصاً صلى إحدى صلاتي العشي، فسلم من ركعتين، فتحدث بعد ذلك لغير مصلحة الصلاة كقول المؤلف: (يا غلام! اسقني) أو: كيف حالك يا فلان؟ كيف حال مزرعتك؟ كيف حال سيارتك؟ كيف حال الأسهم؟ كل هذا كلام لغير مصلحة الصلاة، فإذا تكلم في غير مصلحة الصلاة، ولو كان مأموماً فإنه لا يجوز له أن يبني ويتم صلاته؛ لأن هذا مثله مثل لو تكلم متعمداً والإمام يصلي.

وقد ذكرنا سابقاً أن الإنسان إذا تكلم عامداً في الصلاة بطلت صلاته، ونقلنا في ذلك الإجماع، فقالوا: إن هذه الحالة الإجماعية مثلها مثلما لو تكلم الإنسان لغير مصلحة الصلاة، إذا سلم ولما ينه صلاته، هكذا قالوا رحمهم الله، وقد أشرنا إلى أن الرواية الثانية عند الإمام أحمد رحمه الله واختارها أبو العباس بن تيمية أنه لا بأس للإنسان أن يبني على صلاته ولو تكلم لغير مصلحة الصلاة جاهلاً أو ساهياً، أما العامد فلا يصح.

ومما يدل على ذلك حديث ذي اليدين حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال له ذو اليدين : ( يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: لم أنس، ولم تقصر، قال: بلى قد نسيت، فقال: أحق ما يقول ذو اليدين ؟ قالوا: نعم، قال: فأتم صلاته ) بأبي هو وأمي.

الشاهد في الحديث: ( فخرج سرعان الناس يقولون: قصرت الصلاة، قصرت الصلاة )، فهذا الكلام إخبار للناس، فكأنه خطاب للآدميين لغير مصلحة الصلاة، ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر هؤلاء بأن يعيدوا الصلاة، ولا يحق لهم أن يبنوا كما بنى النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، ومن المعلوم أن من الصحابة من تحدث كعادة الناس أن يتحدثوا بعد السلام، فيسأل أحدهم عن شئون صاحبه وخاصته، ولو كان ثمة وجوب في هذا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فهذان دليلان يدلان على أنه لا بأس بأن يبني المرء على صلاته الأولى، ولو تكلم لغير مصلحة الصلاة، ولو طال الكلام، وقد ذكرنا أنه ربما يطول الفصل ويقل الكلام، أو يطول الكلام ويقل الفصل.

فقلنا: إن طال الفصل وقل الكلام فالعبرة بإطالة الفصل.

وأما إن قصر الفصل وطال الكلام فإن الحنابلة يبطلونها إذا كان كثيراً ولو لمصلحتها، أو قليلاً لغير مصلحتها، والراجح أنه إذا كان جاهلاً أو ناسياً فلا حرج عليه في ذلك، وأن له أن يبني.

قال المؤلف رحمه الله: (بطلت صلاته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين ) ) قلنا: الجواب على هذا: إن هذا في حق العامد العالم بالحال، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبطل صلاة معاوية بن عبد الحكم حينما تكلم غير عالم ولا عامد، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (ككلامه في صلبها).

يعني: فكما أنه لو تكلم في صلب الصلاة لغير مصلحتها تبطل كذلك، والكلام الذي لمصلحة الصلاة مثل أن يفتح على الإمام.

قال المؤلف رحمه الله: (أي: في صلب الصلاة، فتبطل به للحديث المذكور).

هذا غريب، فإن معاوية بن عبد الحكم تكلم في غير مصلحة الصلاة: فإنه عندما عطس رجل من القوم، قال له: ( يرحمك الله، قال: فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، يقول معاوية : فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت )، فتكلم مرتين، مرة خاطب فيها الآدمي بقوله: يرحمك الله، ومرة قال: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ ومع ذلك لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة، والله أعلم.

تحديد من تبطل صلاتهم بالحديث في غير مصلحة الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: (وسواء كان إماماً).

يعني: كان المتحدث لغير مصلحة الصلاة إماماً (أو غيره) يعني: منفرداً أو مأموماً.

(وسواء كان الكلام عمداً أو سهواً، أو جهلاً) هذا المذهب فيمن تحدث لغير مصلحة الصلاة، والرواية الأخرى عند الإمام أحمد واختارها أبو العباس بن تيمية : أنه لا بأس أن يبني على صلاته؛ لحديث معاوية بن عبد الحكم حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالإعادة؛ فإنه تكلم في غير مصلحة الصلاة، فكما أن من تكلم لغير مصلحة الصلاة جاهلاً أو ناسياً تصح صلاته فكذلك إذا تكلم بعد السلام، ولما يكمل صلاته لغير مصلحتها، فله أن يكمل صلاته، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (طائعاً أم مكرهاً).

المكره يعني: المتكلم بكلام لا إرادي، مثل: لو أن شخصاً يصلي فضربه شخص بقوة فتكلم، أو بكى أو قال: والله لأفعلن وهو لا يدري، فكل هذا فعله مكرهاً ولم يعلم بنفسه، أو خرج من غير إرادته، فمثل هذا الكلام تبطل به الصلاة على المذهب، وعلى الرواية الثانية: وهو الراجح أن صلاته صحيحة.

قال المؤلف رحمه الله: (أو وجب لتحذير ضرير ونحوه).

يعني: أو تكلم لما يجب أن يتكلم به، كما لو كان يصلي فرأى ضريراً يمشي فخشي أن يسقط في البركة مثلاً، فإنه يجب عليه أن يتكلم، ويقول له: قف! أمامك بركة أو مسبح، قالوا: ومع أننا نوجب على المصلي أن ينبه الضرير ونحوه، فإننا أيضاً نوجب عليه أن يقطع صلاته، وهنا تحدث لمصلحتها، أم لغير مصلحتها؟ لغير مصلحتها.

وهل يجب عليه أن يتحدث أم لا؟ يجب عليه أن يتحدث، فالذي يظهر أن العلماء -رحمهم الله- ذكروا هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: أنها تبطل صلاته وهو مذهب الحنابلة.

القول الثاني: أن صلاته صحيحة؛ لأن حديثه هنا واجب، وما كان واجباً عليه لم تبطل به صلاته، مثله مثل مخاطبة الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: ( أحق ما يقول ذو اليدين ؟ قالوا: نعم يا رسول الله لم تصل إلا ركعتين )، فجواب الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم، أليس الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، فكان إجابة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم واجبة، قالوا: فإذا كانت إجابة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم واجبة وأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يبنوا على صلاتهم، فكذلك في كل من وجب عليه أن يتحدث فإن له أن يستأنفها، ولا شك أن مخاطبة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم واجبة ولمصلحة الصلاة.

أما لو خاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يصلون فيجب عليهم أن يردوا عليه؛ لأن إجابة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم واجبة، وهي أعظم من سكوتهم في الصلاة؛ لأن سكوتهم في الصلاة واجب، ووجوب مخاطبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم ولكن لم يأت دليل يبين أن صلاتهم صحيحة، ولهذا جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما تحدث مع أبي وهو يصلي لم يجبه، قال: ( ما منعك أن تجيبني وقد خاطبتك؟ قال: يا رسول الله! إني كنت في صلاة، قال: أو ما علمت أن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24] ) ثم سأله: عن أعظم آية في القرآن؟

فالرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يجيبه، وهذا يدل على أنه إذا تعارض واجبان قدم أعظمهما.

وعلى هذا فالراجح أنه إن كان حديثه لغير مصلحة الصلاة عامداً بأمر واجب لا تبطل صلاته، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (وسواء كان لمصلحتها أو لا، والصلاة فرضاً أو نفلاً).

إن تكلم لمصلحة الصلاة بكلام كثير فإن الحنابلة يقولون: تبطل صلاته. سواء كانت فرضاً أم نفلاً، فجوزوا الكلام لمصلحة الصلاة إذا كان يسيراً، وأبطلوا الصلاة إذا كان الكلام لغير مصلحتها يسيراً أم كثيراً.

صلاة من سلم ناسياً وتكلم لمصلحة الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: (وإن تكلم من سلم ناسياً لمصلحتها، فإن كثر بطلت وإن كان يسيراً لم تبطل).

هنا صرح صاحب الزاد أن الحديث لمصلحة الصلاة إن كان كثيراً يبطلها، وإن كان قليلاً لا يبطلها، واستدل بحديث ذي اليدين : ( أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: لم أنس ولم تقصر، قال: بلى قد نسيت، قال: أحق ما يقول ذو اليدين ؟ قالوا: نعم، فأكمل صلاته ).

قالوا: فكانت مخاطبة الصحابة قليلة، فإن كثر بطلت الصلاة، فالحنابلة استدلوا بحديث ذي اليدين وهي واقعة عين، فقالوا: إنهم لم يتحدثوا إلا قليلاً، قلنا لهم: صحيح أنهم لم يتحدثوا إلا قليلاً لكن أنى لكم أنهم لو تحدثوا كثيراً لبطلت الصلاة؟ فليس ثمة دليل واضح على بطلان صلاة من تكلم لمصلحة الصلاة، ولو كثر، هذا الأمر الأول.

الأمر الثاني الذي يدل على أنه لا تبطل الصلاة بالكلام الكثير: حديث عمران بن حصين عند مسلم حينما دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته ولم يكمل الصلاة، فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم في الغالب حينما يدخل بيته يتحدث مع أهله، وتحدثه مع أهله لغير مصلحة الصلاة، ومن الغالب أن من الصحابة من تحدث وأكثر الكلام في ذلك، ولو كان ثمة فرق بين القليل والكثير لمصلحتها أو القليل لغير مصلحتها لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فدل ذلك -أي: حديث ذي اليدين ، وحديث عمران- على أن الإنسان إن تحدث لمصلحة الصلاة ولو كثيراً، أو تحدث لغير مصلحة الصلاة ولو كثيراً إذا لم يطل الفصل في الجميع أن الصلاة صحيحة، هذا القول الثاني في المسألة، وهو الراجح والله تبارك وتعالى أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: [ قال الموفق : هذا أولى، وصححه في الشرح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم و أبا بكر و عمر و ذا اليدين تكلموا وبنوا على صلاتهم، وقدم في التنقيح وتبعه في المنتهى تبطل مطلقاً ].

صاحب الزاد يرى إن كان العمل يسيراً لمصلحة الصلاة فإن الصلاة لا تبطل، وقال الموفق : (هذا أولى، وصححه في الشرح)، أي: في الشرح الكبير، وهو شرح المقنع ابن قدامة، ثم قال: (وقدم في التنقيح وتبعه في المنتهى تبطل مطلقاً).

يعني: على القاعدة أن العبرة بما في المنتهى، فإن المذهب خلاف ما اختاره صاحب الزاد، فإنه إن تكلم لغير مصلحة الصلاة، أو لمصلحة الصلاة تبطل، ولهذا قال: (وتبعه في المنتهى تبطل مطلقاً)، وقوله مطلقاً يعني: سواء تكلم لمصلحتها ولغير مصلحتها، يسيراً أو كثيراً، ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمة الله تعالى عليه- كما في الدرر السنية: وغالب ما في الإقناع والمنتهى مخالف للراجح في مذهب الإمام أحمد ، وهذه العبارة أشكلت على كثير من طلاب العلم؛ لأن المعروف عند الحنابلة أن غالب ما في المنتهى هو المذهب عند الحنابلة، فنقول: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقصد من ذلك -والله أعلم- مخالف للراجح في الدليل لنصوص الإمام أحمد ، فإن الإمام أحمد له نصوص تؤيد القول الراجح بدليله، وإن كان صاحب المنتهى والإقناع لم يأخذا بها لنصوص أخرى والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله: [ فإن طال الفصل عرفاً بطلت لتعذر البناء إذاً، أو تكلم في هذه الحالة لغير مصلحتها، كقوله: يا غلام! اسقني بطلت صلاته لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين ) رواه مسلم ، وقال أبو داود فكان لا يصلح، لا يحل ككلامه في صلبها أي: في صلب الصلاة فتبطل به للحديث المذكور، سواء كان إماماً أو غيره، سواء كان الكلام عمداً أو سهواً أو جهلاً طائعاً أو مكروهاً؛ أو وجب لتحذير ضرير ونحوه، وسواء كان لمصلحتها أو لا، والصلاة فرضاً أو نفلاً، وإن تكلم من سلم ناسياً لمصلحتها فإن كثر بطلت وإن كان يسيراً لم تبطل ].

قول المؤلف رحمه الله: (فإن طال الفصل عرفاً بطلت) إشارة إلى أنه لو سلم قبل إتمام صلاته ولم يتذكر إلا بعد زمن طويل فإن المؤلف يقول: (بطلت لتعذر البناء إذاً)؛ لأن من شرط الصلاة الموالاة بين كل ركعة بأخرى، فإذا فصلت بعض الركعات عن الأخرى فإنه لا يصح البناء، كما لو فرق بين الركعات بيوم، وهذا أمر لا إشكال فيه، بل هو أمر مجمع عليه إن طال الفصل عرفاً، وإن كانوا يختلفون في العرف، فبعضهم حدده بالخروج من المسجد، كما أشار الخرقي -رحمه الله- فيمن ترك سجود السهو فسلم ولم يسجد للسهو، فأشار إلى أنه إن لم يخرج من المسجد جاز له أن يسجد سجود السهو، وإلا فقد سقط في حقه سجود السهو، ولعلنا نشير إن شاء الله إلى هذه المسألة، ونذكر القول الراجح فيها، لكن بحثنا هنا هو في مسألة طول الفصل.

ويستدل على جواز البناء إذا لم يطل الفصل بما في صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ثلاث ركعات ثم سلم ثم دخل بيته، فأخبره الصحابة بأنه لم يكمل صلاته، فخرج يجر إزاره عليه الصلاة والسلام ثم قام فصلى )، يعني: أكمل بهم الصلاة، وهذا يدل على أنه لا بأس بالبناء إذا لم يطل الفصل، وإطالة الفصل بالعرف سواء دخل بيته أو لم يدخل بيته، أتى بمنافٍ للصلاة غير الحدث أو لم يأت، تكلم لمصلحة الصلاة أو لم يتكلم لمصلحة الصلاة، بل لأمور أخرى، كما سنذكره وهو خلاف ما ذكره المؤلف رحمه الله، لكن المؤلف هنا أشار إلى أنه إذا لم يطل الفصل عرفاً فإن له أن يبني.

قال المؤلف رحمه الله: (أو تكلم في هذه الحالة لغير مصلحتها).

يعني: أن الإنسان إذا سلم ولم يكمل صلاته، فهل يجوز له أن يبني على صلاته لو رجع؟

قال المؤلف: يجوز لكن بشروط:

أولاً: ألا يطول الفصل؛ لأنه إذا طال الفصل لم يصح البناء.

ثانياً: إذا تكلم في هذه الحال لغير مصلحة الصلاة، مثاله: لو أن شخصاً صلى إحدى صلاتي العشي، فسلم من ركعتين، فتحدث بعد ذلك لغير مصلحة الصلاة كقول المؤلف: (يا غلام! اسقني) أو: كيف حالك يا فلان؟ كيف حال مزرعتك؟ كيف حال سيارتك؟ كيف حال الأسهم؟ كل هذا كلام لغير مصلحة الصلاة، فإذا تكلم في غير مصلحة الصلاة، ولو كان مأموماً فإنه لا يجوز له أن يبني ويتم صلاته؛ لأن هذا مثله مثل لو تكلم متعمداً والإمام يصلي.

وقد ذكرنا سابقاً أن الإنسان إذا تكلم عامداً في الصلاة بطلت صلاته، ونقلنا في ذلك الإجماع، فقالوا: إن هذه الحالة الإجماعية مثلها مثلما لو تكلم الإنسان لغير مصلحة الصلاة، إذا سلم ولما ينه صلاته، هكذا قالوا رحمهم الله، وقد أشرنا إلى أن الرواية الثانية عند الإمام أحمد رحمه الله واختارها أبو العباس بن تيمية أنه لا بأس للإنسان أن يبني على صلاته ولو تكلم لغير مصلحة الصلاة جاهلاً أو ساهياً، أما العامد فلا يصح.

ومما يدل على ذلك حديث ذي اليدين حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال له ذو اليدين : ( يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: لم أنس، ولم تقصر، قال: بلى قد نسيت، فقال: أحق ما يقول ذو اليدين ؟ قالوا: نعم، قال: فأتم صلاته ) بأبي هو وأمي.

الشاهد في الحديث: ( فخرج سرعان الناس يقولون: قصرت الصلاة، قصرت الصلاة )، فهذا الكلام إخبار للناس، فكأنه خطاب للآدميين لغير مصلحة الصلاة، ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر هؤلاء بأن يعيدوا الصلاة، ولا يحق لهم أن يبنوا كما بنى النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، ومن المعلوم أن من الصحابة من تحدث كعادة الناس أن يتحدثوا بعد السلام، فيسأل أحدهم عن شئون صاحبه وخاصته، ولو كان ثمة وجوب في هذا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فهذان دليلان يدلان على أنه لا بأس بأن يبني المرء على صلاته الأولى، ولو تكلم لغير مصلحة الصلاة، ولو طال الكلام، وقد ذكرنا أنه ربما يطول الفصل ويقل الكلام، أو يطول الكلام ويقل الفصل.

فقلنا: إن طال الفصل وقل الكلام فالعبرة بإطالة الفصل.

وأما إن قصر الفصل وطال الكلام فإن الحنابلة يبطلونها إذا كان كثيراً ولو لمصلحتها، أو قليلاً لغير مصلحتها، والراجح أنه إذا كان جاهلاً أو ناسياً فلا حرج عليه في ذلك، وأن له أن يبني.

قال المؤلف رحمه الله: (بطلت صلاته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين ) ) قلنا: الجواب على هذا: إن هذا في حق العامد العالم بالحال، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبطل صلاة معاوية بن عبد الحكم حينما تكلم غير عالم ولا عامد، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (ككلامه في صلبها).

يعني: فكما أنه لو تكلم في صلب الصلاة لغير مصلحتها تبطل كذلك، والكلام الذي لمصلحة الصلاة مثل أن يفتح على الإمام.

قال المؤلف رحمه الله: (أي: في صلب الصلاة، فتبطل به للحديث المذكور).

هذا غريب، فإن معاوية بن عبد الحكم تكلم في غير مصلحة الصلاة: فإنه عندما عطس رجل من القوم، قال له: ( يرحمك الله، قال: فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، يقول معاوية : فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت )، فتكلم مرتين، مرة خاطب فيها الآدمي بقوله: يرحمك الله، ومرة قال: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ ومع ذلك لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة، والله أعلم.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
الروض المربع - كتاب الجنائز [8] 2623 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [78] 2580 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [42] 2537 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [45] 2537 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [34] 2513 استماع
الروض المربع - كتاب البيع [22] 2443 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [44] 2378 استماع
الروض المربع - كتاب البيع [20] 2365 استماع
الروض المربع - كتاب الطهارة [8] 2347 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [98] 2345 استماع