شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 49-53


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أيها الإخوة! بقي عندنا من أحاديث الجلسة الماضية ثلاثة أحاديث تقريباً نبدأ بها الآن.

فالحديث الأول منها: هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل ).

معاني ألفاظ الحديث

ونبدأ بهذا الحديث من أوله نظراً لأنني ما تمكنت في الجلسة الماضية من ذكر شيء كافٍ فيه، فقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً ).

(الغر): جمع، ومفرده أغر، من الغرة، والغرة: هي البياض في جبهة الفرس أو في جبينه.

وقوله: (محجلين): جمع محجل، والتحجيل: هو البياض في قوائم الفرس، في يديه ورجليه.

قال العلماء: التحجيل الممدوح الذي يتمدح به العرب ويصفون به الخيل هو الذي يكون في ثلاث قوائم، وقد استعار النبي صلى الله عليه وسلم البياض والتحجيل الذي يكون في الفرس لما يكون عليه المتوضئ يوم القيامة من البياض والنور في جبهته، وفي يديه وفي رجليه، وأن هذا يكون من أثر الوضوء.

اختصاص أمة محمد بالغرة والتحجيل

هذه الميزة أو الخصيصة هي خاصية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال: ( إن أمتي يأتون يوم القيامة )، وبماذا يعرفهم الرسول صلى الله عليه وسلم إذا وردوا عليه الحوض كما ورد في الأحاديث الصحاح، (لما ذكر أنه بعقر حوضه، وأن الناس يردون عليه. فقالوا: يا رسول الله! كيف تعرف من لم يأت من أمتك؟ قال: إنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء)، فيعرفهم بذلك صلى الله عليه وسلم، لكن هل الخصيصة لهذه الأمة هي الوضوء الذي ترتب عليه الغرة أو التحجيل، أم السيما والعلامة في يوم القيامة؟ أيهما الخاصية لهذه الأمة هل الوضوء أم الغرة والتحجيل؟

ذكر بعض أهل العلم أن الخاصية هي الوضوء، وأخذوا من هذا الحديث أن الوضوء خاصية من خصائص هذه الأمة، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه ورد في أحاديث كثيرة صحيحة ذكر الوضوء للأنبياء السابقين وأتباعهم، كما في حديث زوجة إبراهيم عليه السلام، لما أخذها الجبار بـمصر فمد يده إليها فذهبت تتوضأ وتصلي، والحديث في الصحيحين.

وكما في حديث جريج أنه توضأ وصلى وهو في الصحيحين أيضاً.

ولذلك فإن الصواب: أن الوضوء ليس بخاصية لهذه الأمة، وإنما الخاصية هي الغرة والتحجيل.

أما من استدل بقوله صلى الله عليه وسلم لما توضأ ثلاثاً ثلاثاً: ( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي )، فهذا لا يصلح الاستدلال به؛ لأنه حديث ضعيف انفرد به ابن ماجه في سننه، وضعفه أهل العلم بالحديث، ضعفه ابن تيمية وابن حجر والنووي وغيرهم، وفي إسناده عبد الرحيم العمي وهو متروك، فلا يصلح الاستدلال بهذا الحديث على أن الوضوء سنة لجميع الأنبياء، لكن يستدل بغيره كما سبق.

إذاً: فالخاصية لهذه الأمة هي الغرة والتحجيل وليست أصل الوضوء.

الاختلاف في زيادة: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)

( إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين )، عرفنا معنى الغرة، وعرفنا معني التحجيل، لكن قال في آخر الحديث: ( فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل )، زاد مسلم في رواية: ( فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله )، فدل الحديث بظاهره على مشروعية إطالة الغرة والتحجيل، وهذا يقودنا إلى هذه المسألة المهمة:

أولاً: قوله: (فمن استطاع منكم)، هل هو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أو هو من كلام أبي هريرة ؟

ذكر جمع من العلماء المحققين أن هذا مدرج من كلام أبي هريرة، ممن ذكر هذا: الإمام ابن تيمية رحمه الله، فإنه قال: هذا لا يمكن أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الغرة لا تتصور، فمن المعلوم أن الوجه يجب غسله إلى منابت شعر الرأس المعتادة، فإذا زاد الإنسان في أعلى الجبهة غسلاً ماذا يكون؟ انتقل إلى فرض آخر حقه المسح وليس الغسل وهو الرأس، فالإنسان الذي يزيد من غسل أعلى الجبهة أو الجبين فيغسل بعض الشعر، يكون قد غسل عضواً آخر مع الوجه، ويكون قد غسل عضواً حقه المسح كما هو معروف؛ ولذلك نفى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن يكون هذا من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك ذكر ابن القيم في حادي الأرواح: أن هذا مدرج من كلام أبي هريرة وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح، والمنذري، وغيرهم. قالوا: إنه مدرج من كلام أبي هريرة وليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومما يقوي ما ذهبوا إليه من أنه مدرج: أن الحديث ورد عن عشرة من الصحابة غير أبي هريرة، لم يذكر منهم أحد هذه الجملة إلا أبو هريرة رضي الله عنه.

وكذلك الحديث ورد عن أبي هريرة من طريق جماعة من التابعين لم يذكر منهم أحد هذه العبارة إلا نعيم بن عبد الله المجمر وحده، لم يذكر أحد ممن روى هذا الحديث عن أبي هريرة هذه الزيادة بسند صحيح إلا نعيم بن عبد الله المجمر، ونعيم نفسه قال -كما في رواية الإمام أحمد في المسند - بعد رواية الحديث: لا أدري، قوله: (فمن استطاع منكم) من كلام أبي هريرة أو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لذلك ذهب هؤلاء العلماء إلى أن قوله: (فمن استطاع منكم) هو مدرج، والمدرج قسم من أقسام الحديث كما هو معروف في علم المصطلح، صنف فيه بعض الحفاظ كتباً خاصة، ذكروا فيها الألفاظ المدرجة، ومعنى الإدراج: أن يدرج الراوي الصحابي أو غيره كلاماً من عنده مع المتن المرفوع، إما قبل الحديث أو في أثنائه أو بعده، فأما قبله فكما في الحديث الآخر عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار )، فقد حكم أهل العلم بأن قوله: ( أسبغوا الوضوء ) مدرج من كلام أبي هريرة، بدليل أنه ورد في رواية أخرى أنه قال: ( أسبغوا الوضوء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للأعقاب من النار ).

وأما المدرج في وسط الحديث: فكما في حديث بدء الوحي في الصحيحين.. حديث عائشة لما ذكرت: ( أنه عليه الصلاة والسلام كان يخلو بغار حراء الليالي ذوات العدد يتحنث. قال: وهو التعبد )، فقوله: وهو التعبد، مدرج من كلام الزهري تفسيراً لكلمة وهي قولها: (يتحنث).

وأما المدرج في آخر الحديث فمثل حديث الباب.

حكم إطالة الغرة والتحجيل

( فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل )، حكم كثير من المحققين على هذه الزيادة أنها مدرجة.

ويترتب عليها الكلام في إطالة الغرة ما حكمه؟ هل يشرع للإنسان أن يطيل غرته فيغسل جزءاً من الرأس مثلاً أو جزءاً من صفحتي العنق، كما فسر بعضهم الغرة بأنها: أن يغسل مع الوجه جزءاً من صفحتي العنق، اليمنى واليسرى، ويغسل العضد مع الذراع، ويغسل الساق مع القدم، هل يشرع هذا أم لا يشرع؟

اختلف أهل العلم في ذلك:

فذهب الإمام الشافعي، أو نقول: ذهب الشافعية وأكثر الحنفية إلى أن إطالة الغرة مشروع، على خلاف بينهم في مقدار الإطالة، فبعضهم قال: تطيل إلى نصف العضد ونصف الساق. وبعضهم قال: إلى الركبة والكتف. وبعضهم قال: تغسل مع اليد ولو شيئاً من العضد، ومع القدم ولو شيئاً من الساق.

المهم: أنهم ذهبوا إلى مشروعية إطالة التحجيل، لا أقول: الغرة، يعني: مشروعية إطالة الغرة والتحجيل بغسل شيء من صفحتي العنق، وشيء من العضد، وشيء من الساق، هذا مذهب الشافعية وكثير من الحنفية.

وحجتهم:

أولاً: هذا الحديث.

وثانياً: قالوا: ما زعمتموه من أن هذا من فعل أبي هريرة وقوله فهو مردود، هكذا يقولون، كما قال الإمام النووي وابن حجر وغيرهم، ليس مردوداً من حيث الدراية والفن، فقد يكون هذا اللفظ مدرجاً، لكن قالوا: ثبت أن أبا هريرة رفع هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، واليسرى مثل ذلك، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، واليسرى مثل ذلك، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ )، روى هذا عنه نعيم بن عبد الله المجمر في صحيح مسلم .

ورواه أيضاً عنه أبو حازم قال: ( كان أبو هريرة

رضي الله عنه يتوضأ في المسجد أو يتوضأ في سطح المسجد فغسل يده وعضده وغسل رجله وساقه. فقلت: ما هذا الوضوء يا أبا هريرة

؟ قال: فالتفت إلي وقال: أنتم هاهنا يا بني فروخ! -فروخ: بفتح الفاء وتشديد الراء، وبنو فروخ هم العجم، يعني: أن المتكلم كان من الموالي- لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء
)، ثم ساق الحديث -حديث الباب- قالوا: فكون أبي هريرة فعل هذا ورفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه هكذا توضأ، دليل على أنه يشرع إطالة التحجيل والغرة، وأنه ثابت عن الرسول عليه الصلاة والسلام.

والدليل الثاني عندهم: فعل أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما، فأما فعل أبي هريرة فقد ثبت عنه في الصحيح كما ذكرته آنفاً، وأما فعل ابن عمر أنه كان يغسل العضدين والساقين، فقد رواه عنه أبو عبيد وغيره بإسناد حسن، كما يقول الحافظ ابن حجر ؛ ولذلك قال الشافعية وكثير من الحنفية: بأنه يشرع إطالة الغرة والتحجيل. وذهب الإمام مالك والإمام أحمد في الرواية المنصوصة عنه، والتي اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، ورجح هذا القول ابن بطال الإمام الفقيه المالكي، وعدد من أهل العلم: إلى أنه لا يشرع الزيادة على المحل المفروض، فلا يشرع إطالة الغرة ولا إطالة التحجيل بغسل العضد كله أو الساق كلها أو نصفها؛ لأن هذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو زيادة ليست بمشروعة، وإنما لا بأس أن يغسل الإنسان شيئاً يسيراً من العضد يطمئن به إلى أنه غسل المرفق، وشيئاً يسيراً من الساق يطمئن به إلى أنه غسل الكعبين أو الكعب، أما أن يطيل إلى نصف الساق، أو إلى نصف العضد، أو إلى الكتف، أو إلى الركبة فهذا غير مشروع.

وهذا القول الثاني أقرب وأقوى لما سبق، من أن الزيادة مدرجة من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، وأن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي رفعه إليه أبو هريرة ليس هو غسل العضد والساق، وإنما غسل يده حتى أشرع في العضد، وهذا يدل على أنه غسل جزءاً يسيراً، وغسل رجله حتى أشرع في الساق وهذا التحجيل، أما في الغرة: فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ألبتة، يعني: ما ثبت أنه يغسل شيئاً من رأسه ولا شيئاً من صفحتي العنق بسند صحيح ولا حسن، ولذلك فإنه يقال: إن الراجح أنه لا يشرع إطالة الغرة، ولا التحجيل إلا أن يغسل شيئاً يسيراً من العضد يطمئن به على استيعاب غسل الذراع كلها بما فيها المرفق، وغسل شيء يسير من الساق يطمئن به على غسل القدم كلها بما فيها الكعب، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة .

فوائد الحديث

حديث أبي هريرة رضي عنه الله عنه فيه فوائد أخرى غير ما سبق منها:

فضل الوضوء، وأن المتوضئ يأتي يوم القيامة عليه نور في جبهته من أثر غسل الوجه، ونور في يديه ورجليه من أثر غسلهما، وهكذا كل عبادة يجهد فيها الإنسان ويتعب عليها يجازى عليها بالنور في يوم القيامة؛ ولذلك قال: صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما ذكر الأشياء التي يرفع بها الدرجات ويكفر بها الخطايا، قال: ( إسباغ الوضوء على المكاره )، يعني: في الحالات التي يكرهها الإنسان، كما في شدة البرد حيث يتوضأ بماء بارد، لا يتسنى له ماء فاتر -مثلاً- فيتوضأ ببارد، وقل مثل ذلك في إسباغ الوضوء بماء قد يكون حاراً في شدة الحر بما يلقاه الإنسان من التعب فيجازى على ذلك كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.

وفيه من الفوائد: جواز الوضوء في المسجد لما سبق في الرواية الأخرى عن أبي هريرة : (أنه توضأ في سطح المسجد)، ففيها جواز الوضوء في المسجد؛ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات : ولا يكره الوضوء في المسجد إذا لم يخرج من المتوضئ بصاق ولا مخاط ولا غيره مما يصان عنه المسجد، فإن المسجد يصان عما هو دون ذلك.. يصان عن القذاة تكون في العيش أو في غيره، فإذا توضأ الإنسان في المسجد دون أن يخرج منه مخاط أو بصاق يتأذى به المسجد أو من في المسجد فإن هذا جائز.

ومن فوائد الحديث: أن الغرة والتحجيل من خصائص هذه الأمة وقد سبق هذا.

هذه أهم المباحث في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الجمع بين حديث أبي هريرة في الغرة والتحجيل وبين قول النبي: (فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم)

كيف نجمع بين حديث مشروعية إطالة الغرة والتحجيل وبين: ( فمن زاد فقد أساء وظلم )، كما سبق؟

أولاً: تبين من خلال البحث أنه لا يشرع إطالة الغرة والتحجيل، وإنما ما ورد هو من فعل ابن عمر وأبي هريرة فهو اجتهاد خاص بهم، وإنما المشروع غسل اليدين مع المرفقين، وغسل القدمين مع الكعبين، ويحتاج المتوضئ إلى غسل شيء يسير من الساق أو العضد للاطمئنان على استيعاب المحل المغسول، أما إطالة الغرة إلى نصف العضد، أو إلى الكتف، أو إلى نصف الساق، أو إلى الركبة، فهذا -والله أعلم- الراجح عدم مشروعيته.

ثم إن حديث: (فمن زاد)، على رأي الشراح الذين وقفت على كلامهم هو في عدد الغسلات، ولذلك فإن الرواية الصحيحة: ( فمن زاد فقد أساء وظلم )، أما رواية: ( من نقص )، فقد حكم العلماء بشذوذها، حتى قال مسلم: إن الحفاظ على خلافها، بدليل أن النقص هاهنا فهموا منه النقص في العدد، وليس النقص في المحل المغسول، وإلا فإن النقص في المحل المغسول أيضاً ظلم ولا يجوز، بل لابد من استيعاب المحل المغسول.

ونبدأ بهذا الحديث من أوله نظراً لأنني ما تمكنت في الجلسة الماضية من ذكر شيء كافٍ فيه، فقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً ).

(الغر): جمع، ومفرده أغر، من الغرة، والغرة: هي البياض في جبهة الفرس أو في جبينه.

وقوله: (محجلين): جمع محجل، والتحجيل: هو البياض في قوائم الفرس، في يديه ورجليه.

قال العلماء: التحجيل الممدوح الذي يتمدح به العرب ويصفون به الخيل هو الذي يكون في ثلاث قوائم، وقد استعار النبي صلى الله عليه وسلم البياض والتحجيل الذي يكون في الفرس لما يكون عليه المتوضئ يوم القيامة من البياض والنور في جبهته، وفي يديه وفي رجليه، وأن هذا يكون من أثر الوضوء.

هذه الميزة أو الخصيصة هي خاصية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال: ( إن أمتي يأتون يوم القيامة )، وبماذا يعرفهم الرسول صلى الله عليه وسلم إذا وردوا عليه الحوض كما ورد في الأحاديث الصحاح، (لما ذكر أنه بعقر حوضه، وأن الناس يردون عليه. فقالوا: يا رسول الله! كيف تعرف من لم يأت من أمتك؟ قال: إنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء)، فيعرفهم بذلك صلى الله عليه وسلم، لكن هل الخصيصة لهذه الأمة هي الوضوء الذي ترتب عليه الغرة أو التحجيل، أم السيما والعلامة في يوم القيامة؟ أيهما الخاصية لهذه الأمة هل الوضوء أم الغرة والتحجيل؟

ذكر بعض أهل العلم أن الخاصية هي الوضوء، وأخذوا من هذا الحديث أن الوضوء خاصية من خصائص هذه الأمة، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه ورد في أحاديث كثيرة صحيحة ذكر الوضوء للأنبياء السابقين وأتباعهم، كما في حديث زوجة إبراهيم عليه السلام، لما أخذها الجبار بـمصر فمد يده إليها فذهبت تتوضأ وتصلي، والحديث في الصحيحين.

وكما في حديث جريج أنه توضأ وصلى وهو في الصحيحين أيضاً.

ولذلك فإن الصواب: أن الوضوء ليس بخاصية لهذه الأمة، وإنما الخاصية هي الغرة والتحجيل.

أما من استدل بقوله صلى الله عليه وسلم لما توضأ ثلاثاً ثلاثاً: ( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي )، فهذا لا يصلح الاستدلال به؛ لأنه حديث ضعيف انفرد به ابن ماجه في سننه، وضعفه أهل العلم بالحديث، ضعفه ابن تيمية وابن حجر والنووي وغيرهم، وفي إسناده عبد الرحيم العمي وهو متروك، فلا يصلح الاستدلال بهذا الحديث على أن الوضوء سنة لجميع الأنبياء، لكن يستدل بغيره كما سبق.

إذاً: فالخاصية لهذه الأمة هي الغرة والتحجيل وليست أصل الوضوء.

( إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين )، عرفنا معنى الغرة، وعرفنا معني التحجيل، لكن قال في آخر الحديث: ( فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل )، زاد مسلم في رواية: ( فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله )، فدل الحديث بظاهره على مشروعية إطالة الغرة والتحجيل، وهذا يقودنا إلى هذه المسألة المهمة:

أولاً: قوله: (فمن استطاع منكم)، هل هو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أو هو من كلام أبي هريرة ؟

ذكر جمع من العلماء المحققين أن هذا مدرج من كلام أبي هريرة، ممن ذكر هذا: الإمام ابن تيمية رحمه الله، فإنه قال: هذا لا يمكن أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الغرة لا تتصور، فمن المعلوم أن الوجه يجب غسله إلى منابت شعر الرأس المعتادة، فإذا زاد الإنسان في أعلى الجبهة غسلاً ماذا يكون؟ انتقل إلى فرض آخر حقه المسح وليس الغسل وهو الرأس، فالإنسان الذي يزيد من غسل أعلى الجبهة أو الجبين فيغسل بعض الشعر، يكون قد غسل عضواً آخر مع الوجه، ويكون قد غسل عضواً حقه المسح كما هو معروف؛ ولذلك نفى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن يكون هذا من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك ذكر ابن القيم في حادي الأرواح: أن هذا مدرج من كلام أبي هريرة وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح، والمنذري، وغيرهم. قالوا: إنه مدرج من كلام أبي هريرة وليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومما يقوي ما ذهبوا إليه من أنه مدرج: أن الحديث ورد عن عشرة من الصحابة غير أبي هريرة، لم يذكر منهم أحد هذه الجملة إلا أبو هريرة رضي الله عنه.

وكذلك الحديث ورد عن أبي هريرة من طريق جماعة من التابعين لم يذكر منهم أحد هذه العبارة إلا نعيم بن عبد الله المجمر وحده، لم يذكر أحد ممن روى هذا الحديث عن أبي هريرة هذه الزيادة بسند صحيح إلا نعيم بن عبد الله المجمر، ونعيم نفسه قال -كما في رواية الإمام أحمد في المسند - بعد رواية الحديث: لا أدري، قوله: (فمن استطاع منكم) من كلام أبي هريرة أو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لذلك ذهب هؤلاء العلماء إلى أن قوله: (فمن استطاع منكم) هو مدرج، والمدرج قسم من أقسام الحديث كما هو معروف في علم المصطلح، صنف فيه بعض الحفاظ كتباً خاصة، ذكروا فيها الألفاظ المدرجة، ومعنى الإدراج: أن يدرج الراوي الصحابي أو غيره كلاماً من عنده مع المتن المرفوع، إما قبل الحديث أو في أثنائه أو بعده، فأما قبله فكما في الحديث الآخر عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار )، فقد حكم أهل العلم بأن قوله: ( أسبغوا الوضوء ) مدرج من كلام أبي هريرة، بدليل أنه ورد في رواية أخرى أنه قال: ( أسبغوا الوضوء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للأعقاب من النار ).

وأما المدرج في وسط الحديث: فكما في حديث بدء الوحي في الصحيحين.. حديث عائشة لما ذكرت: ( أنه عليه الصلاة والسلام كان يخلو بغار حراء الليالي ذوات العدد يتحنث. قال: وهو التعبد )، فقوله: وهو التعبد، مدرج من كلام الزهري تفسيراً لكلمة وهي قولها: (يتحنث).

وأما المدرج في آخر الحديث فمثل حديث الباب.

( فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل )، حكم كثير من المحققين على هذه الزيادة أنها مدرجة.

ويترتب عليها الكلام في إطالة الغرة ما حكمه؟ هل يشرع للإنسان أن يطيل غرته فيغسل جزءاً من الرأس مثلاً أو جزءاً من صفحتي العنق، كما فسر بعضهم الغرة بأنها: أن يغسل مع الوجه جزءاً من صفحتي العنق، اليمنى واليسرى، ويغسل العضد مع الذراع، ويغسل الساق مع القدم، هل يشرع هذا أم لا يشرع؟

اختلف أهل العلم في ذلك:

فذهب الإمام الشافعي، أو نقول: ذهب الشافعية وأكثر الحنفية إلى أن إطالة الغرة مشروع، على خلاف بينهم في مقدار الإطالة، فبعضهم قال: تطيل إلى نصف العضد ونصف الساق. وبعضهم قال: إلى الركبة والكتف. وبعضهم قال: تغسل مع اليد ولو شيئاً من العضد، ومع القدم ولو شيئاً من الساق.

المهم: أنهم ذهبوا إلى مشروعية إطالة التحجيل، لا أقول: الغرة، يعني: مشروعية إطالة الغرة والتحجيل بغسل شيء من صفحتي العنق، وشيء من العضد، وشيء من الساق، هذا مذهب الشافعية وكثير من الحنفية.

وحجتهم:

أولاً: هذا الحديث.

وثانياً: قالوا: ما زعمتموه من أن هذا من فعل أبي هريرة وقوله فهو مردود، هكذا يقولون، كما قال الإمام النووي وابن حجر وغيرهم، ليس مردوداً من حيث الدراية والفن، فقد يكون هذا اللفظ مدرجاً، لكن قالوا: ثبت أن أبا هريرة رفع هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، واليسرى مثل ذلك، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، واليسرى مثل ذلك، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ )، روى هذا عنه نعيم بن عبد الله المجمر في صحيح مسلم .

ورواه أيضاً عنه أبو حازم قال: ( كان أبو هريرة

رضي الله عنه يتوضأ في المسجد أو يتوضأ في سطح المسجد فغسل يده وعضده وغسل رجله وساقه. فقلت: ما هذا الوضوء يا أبا هريرة

؟ قال: فالتفت إلي وقال: أنتم هاهنا يا بني فروخ! -فروخ: بفتح الفاء وتشديد الراء، وبنو فروخ هم العجم، يعني: أن المتكلم كان من الموالي- لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء
)، ثم ساق الحديث -حديث الباب- قالوا: فكون أبي هريرة فعل هذا ورفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه هكذا توضأ، دليل على أنه يشرع إطالة التحجيل والغرة، وأنه ثابت عن الرسول عليه الصلاة والسلام.

والدليل الثاني عندهم: فعل أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما، فأما فعل أبي هريرة فقد ثبت عنه في الصحيح كما ذكرته آنفاً، وأما فعل ابن عمر أنه كان يغسل العضدين والساقين، فقد رواه عنه أبو عبيد وغيره بإسناد حسن، كما يقول الحافظ ابن حجر ؛ ولذلك قال الشافعية وكثير من الحنفية: بأنه يشرع إطالة الغرة والتحجيل. وذهب الإمام مالك والإمام أحمد في الرواية المنصوصة عنه، والتي اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، ورجح هذا القول ابن بطال الإمام الفقيه المالكي، وعدد من أهل العلم: إلى أنه لا يشرع الزيادة على المحل المفروض، فلا يشرع إطالة الغرة ولا إطالة التحجيل بغسل العضد كله أو الساق كلها أو نصفها؛ لأن هذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو زيادة ليست بمشروعة، وإنما لا بأس أن يغسل الإنسان شيئاً يسيراً من العضد يطمئن به إلى أنه غسل المرفق، وشيئاً يسيراً من الساق يطمئن به إلى أنه غسل الكعبين أو الكعب، أما أن يطيل إلى نصف الساق، أو إلى نصف العضد، أو إلى الكتف، أو إلى الركبة فهذا غير مشروع.

وهذا القول الثاني أقرب وأقوى لما سبق، من أن الزيادة مدرجة من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، وأن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي رفعه إليه أبو هريرة ليس هو غسل العضد والساق، وإنما غسل يده حتى أشرع في العضد، وهذا يدل على أنه غسل جزءاً يسيراً، وغسل رجله حتى أشرع في الساق وهذا التحجيل، أما في الغرة: فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ألبتة، يعني: ما ثبت أنه يغسل شيئاً من رأسه ولا شيئاً من صفحتي العنق بسند صحيح ولا حسن، ولذلك فإنه يقال: إن الراجح أنه لا يشرع إطالة الغرة، ولا التحجيل إلا أن يغسل شيئاً يسيراً من العضد يطمئن به على استيعاب غسل الذراع كلها بما فيها المرفق، وغسل شيء يسير من الساق يطمئن به على غسل القدم كلها بما فيها الكعب، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة .




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4733 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4383 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4201 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4082 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4036 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4011 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3963 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3910 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3888 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3871 استماع