ولكن كونوا ربانيين


الحلقة مفرغة

الحمد الله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، فله الحمد بالإسلام، وله الحمد بالإيمان، وله الحمد بالقرآن، وله الحمد حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي، هو أهل التقوى وأهل المغفرة، وأصلي وأسلم صلاة وتسليماً دائمين إلى يوم الدين على نبيه ومصطفاه من خلقه نبينا محمد، النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، حمل الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله حق جهاده، فصلى الله عليه وسلم.

ما ترك خيراً يدل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه وأمرنا به، ولا شراً إلا بينه وحذَّرنا منه، حتى تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، فجزاه الله عنا خير ما جزي نبياً عن أمته، فقد أبلى فينا البلاء الحسن، وسهر ليله، وتعب نهاره، وشاب شعره، وأنهك جسمه، ولقي الأمرين من أجل أن يصلنا الدين نقياً مصفى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86].

أما بعــد:

فأشكر لكم جميعاً يا أهل الأسياح بكل مدنها وقراها، أشكر لكم عظيم حرصكم على حضوري، حيث كان أعداد منكم من الشباب وغيرهم يتوافدون إلى مسجدي يوماً بعد يوم، وأسبوعاً بعد أسبوع، يلحون في الحضور، وكنت أشعر بإحراج شديد لتأخري في تلبية هذه الدعوة، إذ أعلم أنه ما دفعهم لذلك إلا حسن الظن بي، وإن كنت أعلم يقيناً أيضاً أنه حسن ظن في غير مكانه، لكن لا أريد أن تضيع الأوقات في مثل هذا، ولذلك أستغفر الله مما قاله أخي المقدم فقد أسرف فيما ذكر، وأسأل الله أن يعفو عنه وعني وعنكم أجمعين ما زلت به ألسنتنا، إنه على كل شئ قدير.

وهذه الليلة هي ليلة الثلاثاء، السادس من شهر صفر، من سنة 1413 للهجرة، وعنوان هذه الجلسة جزء من آية من كتاب الله عز وجل من سورة آل عمران: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباًأَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون [آل عمران:79-80].

من مصائب الأمة أيها الأحبة: الجهل: وطالما تمرغت الأمة في ظلمات الجهل بعيدة عن هدى ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يقل عن الجهل مصيبة العلم المؤسس على غير هدى ولا كتاب منير، فنحن لابد أن نحارب الجهل، ولكن -أيضاً- لابد أن يكون العلم الذي ندعو إليه مؤسساً على الأصول الشرعية الصحيحة، علماً مقرباً إلى الله عز وجل.

وطالما رأت الأمة شباباً، كما وصفهم أحد الإخوة لي في رسالة بعث بها، يقول: إن بعض الشباب في بلاد إسلامية؛ كان أحدهم إذا استيقظ في آخر الليل يدير مؤشر الراديو قبل أن يفتح الصنبور ليتوضأ لصلاة الفجر، فلا شك أن مراجعة المسيرة، وتصحيح الخطأ، والدعوة إلى التوازن من أهم المقاصد التي يحرص عليها الصالحون والمصلحون.

إننا نعلم أن الجاهل قد يقبل التعليم، فإذا كان جاهلاً جهلاً بسيطاً لا يعرف متى وقعت -مثلاً- معركة بدر، فقلت له: وقعت معركة بدر -مثلاً- سنة اثنين من الهجرة حفظها، لكن لو كان سمع طفولته أن معركة بدر وقعت سنة ست من الهجرة، كان من الصعب تعديل هذا العلم الخاطئ الموجود، لأن الموجود لديه جهل مركب.

إذاً فالجاهل قد يتعلم، لكن الذي يرى نفسه عالماً قد يكون من الصعب أن يقبل من غيره.

هذه الآية الكريمة فيها الحديث عن صنف من العلماء وصفهم الله عز وجل بأنهم (ربانيون) ومعنى الآية: أن الله تعالى نفى أن يكون لبشر من البشر -النبي أو الرسول- أن الله تعالى يمنحه الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقوم هذا النبي ليقول للناس: كونوا عبيداً لي، فالنبي لا يدعو الناس إلى عبادته هو، وإنما يدعوهم إلى الله، فيقول للناس: كونوا ربانيين، لا يأمرهم بغير ذلك، فلا يأمرهم بعبادة نفسه، ولا يأمرهم أيضاً بأن يتخذوا الملائكة والنبيين الآخرين أرباباً من دون الله عز وجل، وكيف يأمرهم بالكفر وهو إنما جاء وبعث بالإسلام؟

ربانيون: منسوبون إلى الرب، وقد ذكر ابن الأنباري هذا عن النحويين، وهو على كل حال نسبة على غير قياس، كما يقال: شعراني.

ربانيون: وصلوا إلى الدرجة العليا والمقام الأعلى في العلم والتربية، إذاً فالربانية لا تطلق على الإنسان المبتدئ في العلم الذي حضر لتوه مجالس الذكر والتعليم، لا، وإن كانت البوادر قد تظهر عليه منذ صغره: في تقواه، وورعه، وتحريه عن الحرام، وحرصه على العمل؛ لكن إنما يوصف بالربانية العالم الراسخ في علمه كالأئمة الأربعة -مثلاً- والمجددين عبر العصور فإنهم يطلق عليهم أنهم ربانيون.

ربانيون: أي حكماء، علماء، حلماء كما ذكره ابن كثير وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه.

ربانيون: أي فقهاء كما ذكره ابن كثير وغيره أيضاً عن الحسن البصري وغير واحد من السلف.

ربانيون: أي أهل عبادة وتقوى؛ كما هو قول الحسن أيضاً.

وهؤلاء توفرت فيهم صفات:

الصفة الأولى: العلم: (تَعَلَمُونَ) هكذا قرأها جمهور القراء (تَعَلَمُونَ).

إذاً هم علماء وهذه من أخص صفاتهم: وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79] إذاً هم أساتذة، وشيوخ، وفقهاء، ومفتون أقبلوا على علم الشريعة، علم الكتاب والسنة فرفعهم الله تعالى به.

منزلة أهل العلم

قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11] وقال سبحانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران:18] فقرن أولي العلم مع ملائكته وأشهدهم على ذلك مع ذاته المقدسة فدل على رفعة قدرهم.

وقال عز وجل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] فبدأ بالعلم قبل القول وقبل العمل (فاعلم) هم علماء والعلم حياة، ولهذا قال الشاعر:

أخو العلم حيٌ خالد بعد موته     وأوصاله تحت التراب رميم

وذو الجهل ميت وهو ماشٍ على الثرى     يظن من الأحياء وهو عديم

وقال آخر:

وفي الجهل قبل الموت موت لأهله     وأجسامهم قبل القبور قبور

وأرواحهم في وحشة من جسومهم     وليس لهم حتى النشور نشور

فهم أموت غير أحياء بجهلهم، ولو كانت أسمائهم على كل لسان، فأنت اليوم -مثلاً- لو سألناك عن أعظم عالم في القرن السابع وأوائل الثامن، لقلت: شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فأصبح يعرفه الكبير والصغير، لكن لو سألناك -مثلاً- من هم تجار ذلك القرن؟ هل تعرفهم؟ لا تعرفهم ومن هم حتى قواد الجيش في هذا القرن؟ قد لا تعرفهم، ومن هم أصحاب السلطة والجاه في هذا القرن بأسمائهم؟ قد لا تعرفهم.

لكن ابن تيمية من الذي لا يعرفه؟! كلما تقدم الزمن زادت شهرته ومكانته؟ حتى إن مكانته اليوم -وأجزم بهذا- عند المسلمين أعظم بكثير من مكانته يوم كان حياً يتحرك بينهم، ففي ذلك الوقت خصومه كثير، ضايقوه، وحاربوه، وأحرقوا كتبه، وكادوا له حتى وقع في غياهب السجون، ومنعت فتاواه زماناً، بل حاولوا أن يضربوه في بعض المناسبات، لكن اليوم أبى الله عز وجل إلا أن يظهر حقه على باطلهم فماتوا وبقي ابن تيمية حياً:

يا رب حي رخام القبر مسكنه     ورب ميت على أقدامه انتصبا

الجهل وخطره على الإنسان

ملايين من الناس اليوم في الوظائف، والأسماء، والتجارات، والأعمال لا يعرفهم أحد، ولا يحزن عليهم إن ماتوا أحد، والغريب أن العلم الشرعي بالذات على رغم هذه المكانة لا يختاره إلا القليل؛ لأن أمام طلبه عقبات وعقبات تنقصم لها الظهور، وتنكسر لها الأعناق، والعجيب -أيضاً- أن العالم يكون موضع عتب من الناس فيما قد ينسبونه إليه من تقصير أو يظنونه فيه من قول أو فعل، فهم يلومونه، يقولون: العالم الفلاني -غفر الله له- عنده أرض في المكان الفلاني، والعالم الفلاني سمع المنكر ولا غيَّره، ومرة من المرات فعل كذا، أغلظ في القول لرجل عنده.

فيعدون عليه أخطاءً فعلها، يظنونها أخطاءً وهي قد لا تكون خطأً، وقد تكون من خطأ البشر، فنقول لهم: نوافقكم على ذلك، هبوا أن ما تقولونه على هذا العالم -الذي هو فعلاً عالم- هبوا أنه صحيح، وأنه أخطأ:

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها     كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

هذا العالم عددتم له أخطاءً خمسة أو عشرة، لكن أنا وأنت وفلان وعلان من يحصي أخطاءنا.

وقف رجل يوماً على المنبر فتكلم، فقام له أحد الحضور وسأله سؤالاً، فقال: لا أدري، قال: تصعد المنبر وأنت لا تدري، قال: إنما علوت بقدر علمي، أنا علوت ثلاث درجات على المنبر أو درجتين بقدر علمي. ولو علوت بقدر جهلي لبلغت عنان السماء.

أقول: يعتبون على العالم في خمسة أخطاء أو عشرة يظنونها أخطاءً وقع فيها هذا العالم، ولكن ينسون هم -وأنا وأنتم- ننسى أننا ملومون على مسألة أكبر، وهي لماذا كان هذا عالماً، ولم نكن نحن علماءً؟ لماذا تركنا نحن التعلم والتعليم؟ نعم بعضنا معذور قد يكون إنساناً لم يعطه الله تعالى الآلة من الذكاء، والفهم، والفطنة، وقد يكون بعضنا لم يتيسر له أسباب تحصيل العلم، وقد يكون بعضنا في بلاد بعيدة ونائية لم يستطع أن يتعلم، دعك من هؤلاء كلهم، لكن كثيرون تمكنوا وعندهم عقل، وذكاء، وفطنة، وحفظ، والأسباب أمامهم ميسورة مبسوطة، ومع ذلك لم يتعلموا.

أحياناً يخطر في ذهني سؤال: العلماء المشاهير، أين زملاؤهم؟ ابن باز -مثلاً- أين زملاؤه الذين كانوا على مقاعد الدراسة أو في مجالس طلب العلم؟ الشيخ ناصر الدين الألباني، أين زملاؤه؟ الشيخ ابن عثيمين، أين زملاؤه؟ الشيخ ابن جبرين أين زملاؤه؟ ومثلهم علماء في البلاد الإسلامية كلها بطولها وعرضها.

هذا العالم كان في يوم من الأيام طالباً في حلقة على الأقل له عشرون زميلاً في الحلقة، أين هم؟ أكثرهم تأخروا عن الركب وبقي هو وحيداً في الساحة لأنه أصر على طلب العلم، وأصر على المواصلة، أما هم فكثير منهم قد يكونون يشغلون وظائف عادية كغيرهم من الناس لا يتميزون بشيء، إلا أن الواحد منهم ربما تمدَّح في المجلس، وقال: أنا من زملاء فلان، حسناً إذا كنت من زملائه لماذا لم تكن مثله؟! ولم تعمل عمله؟! هو تلَّقى من العلم مثلما تلقيت، فلماذا ظهر هو وخفيت أنت؟ ونفع هو ولم تنفع أنت.

ذكر ابن القيم -رحمه الله- عن الشافعي أنه إذا رأى رجلاً سأل عنه، فإن كان صاحب علم وعمل تركه، وإلا عاتبه الشافعي عتاباً مراً، وقال له: لا جزاك الله خيراً، والشافعي رجل مؤدب، ولكنه يحترق قلبه فيغلظ في العتاب، والعتاب يزيل الوحشة بين الأحباب، لا جزاك الله خيراً، لا عن نفسك، ولا عن الإسلام، ضيعت نفسك، وضيعت الإسلام هكذا يقول الشافعي.

كان من الممكن أن تصبح عالماً يشار اليه بالبنان، ويرفع الله به الجهل عن أمة من الناس، ولكن لم يكن هذا بتقصير، والغريب في الأمر أنك لم تكتف بالتقصير؛ بل زدت على ذلك أن توجه سهام اللوم والعتب إلى من قطعوا هذا المشوار الذي عجزت أنت عن قطعه.

إذاً لابد من الدعوة إلى العلم، فالعلم خير كله، حتى الكلاب المعلمة فضلها الله عز وجل: مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4] فالكلب المعلم يتميز في الصيد عن الكلب غير المعلم، فكيف بالإنسان الذي فضله الله تعالى واختاره واصطفاه؟! قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].

إذاً الميزة الأولى للعالم الحق الرباني أو للإنسان الرباني: العلم.

قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11] وقال سبحانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران:18] فقرن أولي العلم مع ملائكته وأشهدهم على ذلك مع ذاته المقدسة فدل على رفعة قدرهم.

وقال عز وجل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] فبدأ بالعلم قبل القول وقبل العمل (فاعلم) هم علماء والعلم حياة، ولهذا قال الشاعر:

أخو العلم حيٌ خالد بعد موته     وأوصاله تحت التراب رميم

وذو الجهل ميت وهو ماشٍ على الثرى     يظن من الأحياء وهو عديم

وقال آخر:

وفي الجهل قبل الموت موت لأهله     وأجسامهم قبل القبور قبور

وأرواحهم في وحشة من جسومهم     وليس لهم حتى النشور نشور

فهم أموت غير أحياء بجهلهم، ولو كانت أسمائهم على كل لسان، فأنت اليوم -مثلاً- لو سألناك عن أعظم عالم في القرن السابع وأوائل الثامن، لقلت: شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فأصبح يعرفه الكبير والصغير، لكن لو سألناك -مثلاً- من هم تجار ذلك القرن؟ هل تعرفهم؟ لا تعرفهم ومن هم حتى قواد الجيش في هذا القرن؟ قد لا تعرفهم، ومن هم أصحاب السلطة والجاه في هذا القرن بأسمائهم؟ قد لا تعرفهم.

لكن ابن تيمية من الذي لا يعرفه؟! كلما تقدم الزمن زادت شهرته ومكانته؟ حتى إن مكانته اليوم -وأجزم بهذا- عند المسلمين أعظم بكثير من مكانته يوم كان حياً يتحرك بينهم، ففي ذلك الوقت خصومه كثير، ضايقوه، وحاربوه، وأحرقوا كتبه، وكادوا له حتى وقع في غياهب السجون، ومنعت فتاواه زماناً، بل حاولوا أن يضربوه في بعض المناسبات، لكن اليوم أبى الله عز وجل إلا أن يظهر حقه على باطلهم فماتوا وبقي ابن تيمية حياً:

يا رب حي رخام القبر مسكنه     ورب ميت على أقدامه انتصبا

ملايين من الناس اليوم في الوظائف، والأسماء، والتجارات، والأعمال لا يعرفهم أحد، ولا يحزن عليهم إن ماتوا أحد، والغريب أن العلم الشرعي بالذات على رغم هذه المكانة لا يختاره إلا القليل؛ لأن أمام طلبه عقبات وعقبات تنقصم لها الظهور، وتنكسر لها الأعناق، والعجيب -أيضاً- أن العالم يكون موضع عتب من الناس فيما قد ينسبونه إليه من تقصير أو يظنونه فيه من قول أو فعل، فهم يلومونه، يقولون: العالم الفلاني -غفر الله له- عنده أرض في المكان الفلاني، والعالم الفلاني سمع المنكر ولا غيَّره، ومرة من المرات فعل كذا، أغلظ في القول لرجل عنده.

فيعدون عليه أخطاءً فعلها، يظنونها أخطاءً وهي قد لا تكون خطأً، وقد تكون من خطأ البشر، فنقول لهم: نوافقكم على ذلك، هبوا أن ما تقولونه على هذا العالم -الذي هو فعلاً عالم- هبوا أنه صحيح، وأنه أخطأ:

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها     كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

هذا العالم عددتم له أخطاءً خمسة أو عشرة، لكن أنا وأنت وفلان وعلان من يحصي أخطاءنا.

وقف رجل يوماً على المنبر فتكلم، فقام له أحد الحضور وسأله سؤالاً، فقال: لا أدري، قال: تصعد المنبر وأنت لا تدري، قال: إنما علوت بقدر علمي، أنا علوت ثلاث درجات على المنبر أو درجتين بقدر علمي. ولو علوت بقدر جهلي لبلغت عنان السماء.

أقول: يعتبون على العالم في خمسة أخطاء أو عشرة يظنونها أخطاءً وقع فيها هذا العالم، ولكن ينسون هم -وأنا وأنتم- ننسى أننا ملومون على مسألة أكبر، وهي لماذا كان هذا عالماً، ولم نكن نحن علماءً؟ لماذا تركنا نحن التعلم والتعليم؟ نعم بعضنا معذور قد يكون إنساناً لم يعطه الله تعالى الآلة من الذكاء، والفهم، والفطنة، وقد يكون بعضنا لم يتيسر له أسباب تحصيل العلم، وقد يكون بعضنا في بلاد بعيدة ونائية لم يستطع أن يتعلم، دعك من هؤلاء كلهم، لكن كثيرون تمكنوا وعندهم عقل، وذكاء، وفطنة، وحفظ، والأسباب أمامهم ميسورة مبسوطة، ومع ذلك لم يتعلموا.

أحياناً يخطر في ذهني سؤال: العلماء المشاهير، أين زملاؤهم؟ ابن باز -مثلاً- أين زملاؤه الذين كانوا على مقاعد الدراسة أو في مجالس طلب العلم؟ الشيخ ناصر الدين الألباني، أين زملاؤه؟ الشيخ ابن عثيمين، أين زملاؤه؟ الشيخ ابن جبرين أين زملاؤه؟ ومثلهم علماء في البلاد الإسلامية كلها بطولها وعرضها.

هذا العالم كان في يوم من الأيام طالباً في حلقة على الأقل له عشرون زميلاً في الحلقة، أين هم؟ أكثرهم تأخروا عن الركب وبقي هو وحيداً في الساحة لأنه أصر على طلب العلم، وأصر على المواصلة، أما هم فكثير منهم قد يكونون يشغلون وظائف عادية كغيرهم من الناس لا يتميزون بشيء، إلا أن الواحد منهم ربما تمدَّح في المجلس، وقال: أنا من زملاء فلان، حسناً إذا كنت من زملائه لماذا لم تكن مثله؟! ولم تعمل عمله؟! هو تلَّقى من العلم مثلما تلقيت، فلماذا ظهر هو وخفيت أنت؟ ونفع هو ولم تنفع أنت.

ذكر ابن القيم -رحمه الله- عن الشافعي أنه إذا رأى رجلاً سأل عنه، فإن كان صاحب علم وعمل تركه، وإلا عاتبه الشافعي عتاباً مراً، وقال له: لا جزاك الله خيراً، والشافعي رجل مؤدب، ولكنه يحترق قلبه فيغلظ في العتاب، والعتاب يزيل الوحشة بين الأحباب، لا جزاك الله خيراً، لا عن نفسك، ولا عن الإسلام، ضيعت نفسك، وضيعت الإسلام هكذا يقول الشافعي.

كان من الممكن أن تصبح عالماً يشار اليه بالبنان، ويرفع الله به الجهل عن أمة من الناس، ولكن لم يكن هذا بتقصير، والغريب في الأمر أنك لم تكتف بالتقصير؛ بل زدت على ذلك أن توجه سهام اللوم والعتب إلى من قطعوا هذا المشوار الذي عجزت أنت عن قطعه.

إذاً لابد من الدعوة إلى العلم، فالعلم خير كله، حتى الكلاب المعلمة فضلها الله عز وجل: مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4] فالكلب المعلم يتميز في الصيد عن الكلب غير المعلم، فكيف بالإنسان الذي فضله الله تعالى واختاره واصطفاه؟! قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].

إذاً الميزة الأولى للعالم الحق الرباني أو للإنسان الرباني: العلم.

الميزة الثانية: هي الاتباع فليس هذا العلم الذي يتعلمه هو قال: فلان، وقال: علان، لا، وإنما هو علم الكتاب؛ ولهذا قال في الآية: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ [آل عمران:79] الكتاب المنـزل من الله تعالى على رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام.

معنى الاتباع

إذاً فالمقصود بالعلم هو: العلم الشرعي المنبثق من الوحي، (من الوحيين الكتاب والسنة) {ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه} يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما بسند صحيح، (القرآن والسنة) فالعلم إما آية محكمة، أو حديث صحيح، أو إجماع قائم قال الشاعر:

العلم قال الله قال رسوله               قال الصحابة ليس بالتمويه

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة          بين الرسول وبين رأي فقيه

وقال غيره:

العلم قال الله قال رسوله          قال الـصحابة هـم أولوا الـعرفان

يقول الإمام ابن رجب -رحمة الله تعالى عليه-: العلم النافع من هذه العلوم كلها -لأن العلوم اليوم كثيرة عند الناس فيحتار الإنسان- ماذا أتعلم؟ وبماذا أبدأ؟ نقول: عليك بعلم الكتاب وعلم السنة، يقول ابن رجب: العلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور.

كلام قصير يغني عن كثير، ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور، لا تأتِ لنا بمعنى لم تسبق إليه، لا تقل في مسألة ليس لك فيها إمام كما قال الإمام أحمد رحمه الله، وحين نقول: الكتاب والسنة فهما يشهد بعضهما البعض، والرسول صلى الله عليه وسلم كان شارحاً ومفسراً للقرآن بقوله وفعله، فأما بقوله؛ فإن السنة تبين القرآن، وتُفصِّل مجمله، وتوضح معانيه.

وأما بقوله: فقد سئلت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقالت للسائل: {ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: كان خلقه القرآن} فأفعاله صلى الله عليه وسلم كانت تفسيراً للقرآن، ولهذا وصفه بعضهم بأنه كان قرآناً يدب على وجه الأرض، وهذه الكلمة وإن كان فيها تسامح ومجاز إلا أنها تعبير دقيق وجيد عن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله عليه الصلاة والسلام.

ترك نصوص الكتاب والسنة والانشغال بالآراء

إن الفقه حقاً هو القرآن والسنة وفهم معانيهما، وأما أقوال الرجال، قال فلان، وقال علان، فلا تعدو أن تكون تفسيراً للقرآن أو تفسيراً للحديث، ولا ينبغي أن يشتغل الإنسان بها إلا بقدر ما تكون بياناً لهذا أو لذاك، ولهذا لما تشاغل الناس بأقوال الرجال ظهر مصطلح أهل الفقه وأهل الحديث وتميزا، والواقع أن الفقه والحديث شيء واحد، ما الفقه إلا علم القرآن والسنة حفظاً، وفهماً، وعلماً، وعملاً.

ولذلك أنكر الأئمة كـابن الجوزي والخطابي وغيرهما التفريق بين أهل الفقه وأهل الحديث، بل الفقه والحديث شيء واحد، ولهذا -أيضاً- لم يعتبر العلماء أن المقلد تقليداً محضاً أنه عالم، الذي يقلد فلاناً وفلاناً هذا ليس بعالم، حتى قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن المقلد لا يعد من العلماء، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: العلم هو المعرفة الحاصلة من الدليل، والدليل: آية أو حديث أو إجماع، فهذا هو العلم، أما كونك سمعت فلاناً يفتي بكذا، وسمعت فلاناً يقول كذا، فهذا لا يعد علماً، وإنما هو تقليد قد يُعذر به الجاهل الذي لا يستطيع إلا التقليد فقط، أما طالب العلم فلا.

إذاً فالمقصود بالعلم هو: العلم الشرعي المنبثق من الوحي، (من الوحيين الكتاب والسنة) {ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه} يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما بسند صحيح، (القرآن والسنة) فالعلم إما آية محكمة، أو حديث صحيح، أو إجماع قائم قال الشاعر:

العلم قال الله قال رسوله               قال الصحابة ليس بالتمويه

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة          بين الرسول وبين رأي فقيه

وقال غيره:

العلم قال الله قال رسوله          قال الـصحابة هـم أولوا الـعرفان

يقول الإمام ابن رجب -رحمة الله تعالى عليه-: العلم النافع من هذه العلوم كلها -لأن العلوم اليوم كثيرة عند الناس فيحتار الإنسان- ماذا أتعلم؟ وبماذا أبدأ؟ نقول: عليك بعلم الكتاب وعلم السنة، يقول ابن رجب: العلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور.

كلام قصير يغني عن كثير، ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور، لا تأتِ لنا بمعنى لم تسبق إليه، لا تقل في مسألة ليس لك فيها إمام كما قال الإمام أحمد رحمه الله، وحين نقول: الكتاب والسنة فهما يشهد بعضهما البعض، والرسول صلى الله عليه وسلم كان شارحاً ومفسراً للقرآن بقوله وفعله، فأما بقوله؛ فإن السنة تبين القرآن، وتُفصِّل مجمله، وتوضح معانيه.

وأما بقوله: فقد سئلت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقالت للسائل: {ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: كان خلقه القرآن} فأفعاله صلى الله عليه وسلم كانت تفسيراً للقرآن، ولهذا وصفه بعضهم بأنه كان قرآناً يدب على وجه الأرض، وهذه الكلمة وإن كان فيها تسامح ومجاز إلا أنها تعبير دقيق وجيد عن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله عليه الصلاة والسلام.

إن الفقه حقاً هو القرآن والسنة وفهم معانيهما، وأما أقوال الرجال، قال فلان، وقال علان، فلا تعدو أن تكون تفسيراً للقرآن أو تفسيراً للحديث، ولا ينبغي أن يشتغل الإنسان بها إلا بقدر ما تكون بياناً لهذا أو لذاك، ولهذا لما تشاغل الناس بأقوال الرجال ظهر مصطلح أهل الفقه وأهل الحديث وتميزا، والواقع أن الفقه والحديث شيء واحد، ما الفقه إلا علم القرآن والسنة حفظاً، وفهماً، وعلماً، وعملاً.

ولذلك أنكر الأئمة كـابن الجوزي والخطابي وغيرهما التفريق بين أهل الفقه وأهل الحديث، بل الفقه والحديث شيء واحد، ولهذا -أيضاً- لم يعتبر العلماء أن المقلد تقليداً محضاً أنه عالم، الذي يقلد فلاناً وفلاناً هذا ليس بعالم، حتى قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن المقلد لا يعد من العلماء، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: العلم هو المعرفة الحاصلة من الدليل، والدليل: آية أو حديث أو إجماع، فهذا هو العلم، أما كونك سمعت فلاناً يفتي بكذا، وسمعت فلاناً يقول كذا، فهذا لا يعد علماً، وإنما هو تقليد قد يُعذر به الجاهل الذي لا يستطيع إلا التقليد فقط، أما طالب العلم فلا.

الصفة الثالثة لهؤلاء الربانيين: الإخلاص والنية، يقول صلى الله عليه وسلم في حديث عمر المتفق عليه: {إنما الأعمال بالنيات} ويقول أيضاً في الحديث الآخر المتفق عليه عن ابن عباس وغيره: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية}؛ فيعبد الله تعالى بالنية الصالحة: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا [هود:15] -بنيته وقصده- مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ [هود:15-16].

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً [الإسراء:18] يقول الزهري وهو من خيار التابعين: [[ما عُبِدَ الله بشيء أفضل من العلم]].

إذاً وأنت تتناول العلم حفظاً، أو دراسةً، أو تأليفاً، أو تعليماً فأنت تعبد الله بهذا، ويقول سفيان الثوري: [[لا أعلم بعد النبوة أفضل من العلم؛ لأن العالم هو وريث النبي، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم]].

جاء أبو هريرة رضي الله عنه إلى أهل السوق وهم يتبايعون ويتشاورون، فقال: [[أنتم ها هنا وميراث النبي صلى الله عليه وسلم يقسم في المسجد، فتركوا بضائعهم، وذهبوا يركضون إلى المسجد فدخلوا فما وجدوا إلا حلقة هنا تعلم التفسير، وحلقة تعلم الحديث، وحلقة هنا وحلقة هناك، فرجعوا، وقالوا: يا أبا هريرة -غفر الله لك- ما رأينا شيئاً، قال: ذهبتم؟ قالوا: نعم، قال: فماذا رأيتم؟ قالوا: رأينا قوماً يعلمون القرآن، وقوماً يعلمون التفسير، وقوماً يعلمون الحديث، قال: وهل ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا؟]].

ويقول ابن وهب وهو من تلاميذ الإمام مالكقال: كنت عند مالك وقد نشر كتبه يقرأ، ويعلم، ويبين، قال: فأذن المؤذن فذهبت أجمع هذه الكتب من أجل أن يذهب بها، فقال الإمام مالك على رسلك -ترفق- ليس الذي تقوم إليه -من التنفل قبل الفريضة- بأفضل من الذي تقوم عنه من العلم إذا صحت النية.

إذاً فالعلم عبادة، ولابد لطالب العلم وهو يتناول العلم من أن يشعر أنه يتعبد الله تعالى ويتقرب إليه بالتعرف على حكمه في المسائل، والتعرف إليه جل وعلا بأسمائه وصفاته وأفعاله، والتعرف إلى أنبيائه بمعرفتهم ومعرفة حقوقهم، وما أشبه ذلك من ألوان العلم وصنوفه.

وهذا الوصف، وصف الإخلاص والنية هو من أخص معاني الربانية: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] أي: إرادة وجه الرب تبارك وتعالى فيما يأخذ الإنسان ويدع، وبها يبارك الله تعالى في العلم، وبها يُثمر العلم وينفع، فأنت تجد أن الذين نفع الله تعالى بعلمهم ليسوا بالضرورة هم أذكى الناس، لا، ولا أكبر الناس عقولاً، ولا أكثر الناس علماً أيضاً، ولكن بارك الله في علمهم، ونفع الله به؛ لأنه كان فيه الإخلاص، فكان يخلط مع علمه شيئاً من الإخلاص، وهناك علم غزير ولكن بلا روح، ولا إيمان، ولا إخلاص، ولذلك لم يبارك الله تعالى فيه فقل المنتفعون به.

الصفة الرابعة: خلق العلم وأدبه: بالسمت والوقار غير المتكلف، والقدوة في ذلك بالرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان أعظم العلماء على الإطلاق، ومع ذلك إذا وجدت هديه، وأدبه، ومعاملته للناس تجد أمراً يعجز عنه الآخرون، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام التي ميزه الله بها، ففي مجال العلم هو البحر لا يدرك ساحله، لكن -أيضاً- تأتي إليه عليه الصلاة والسلام فتجده متواضعاً مع أصحابه، يمازحهم، ويضاحكهم، ويأخذ معهم حتى ربما تكلموا في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم عليه الصلاة والسلام.

إنما كان له من الهيبة والوقار في نفوسهم شيء عظيم، حتى إنه سها يوماً من الأيام في صلاة، كما في الصحيحين وسلم في صلاة الظهر أو العصر من ركعتين فلم يجرؤوا على أن يقولوا له: سهوت يا رسول الله، حتى أبو بكر وعمر أخص أصحابه هابا أن يكلماه، حتى قام رجل اسمه الخرباق، يقال له ذو اليدين فقال: {يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: لا، ما نسيت ولم تقصر، قال: بل نسيت، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم، فاستقبل القبلة وصلى ركعتين وسلم، ثم سجد للسهو ثم سلم عليه الصلاة والسلام}.

من الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها الربانيون مخالطة الناس بالحسنى، والتخلق معهم بالخلق الفاضل، لقوله تعالى: بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ [آل عمران:79] تعلمون من؟ تعلمون الناس، وكيف تعلمونهم وأنتم في أبراجكم العاجية؟! وكيف تعلمونهم وأنتم في مكتباتكم؟! وكيف تعلمونهم وأنتم تغلقون أبوابكم في وجوههم؟! وكيف تعلمونهم وأنتم معتزلون منعزلون عنهم؟ هذا لا يكون.

إذاً لابد من مخالطة الناس، وفي حديث وهو صحيح عند أصحاب السنن عن ابن عمر أو غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم}.

إذاً: لابد من مخالطة الناس، مخالطة فيه الاقتصاد، يعطيهم قدراً من وقته، نحن لا نقول للعالم: دع أعمالك، وعلمك، ومشاغلك، وأمورك، وتفرغ للناس، هذا لا يكون ولا يطالب به أحد! بل هو مما لا يستطاع، لكن لابد أن يخصص للناس أوقاتاً يعطيهم فيها مما أعطاه الله تعالى، ويتفرغ فيها لأمورهم وهمومهم وشئونهم.

ومن عجيب وبديع ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله؛ أنه قسم الناس في المخالطة إلى أربعة أصناف، قال: من الناس من مخالطته كالغذاء، مثل الطعام الذي تحتاج إليه بين وقت وآخر كالغذاء، وهذا هو العالم الرباني الذي تخالطه لا لتضيع عليه وقته ولكن لتستفيد وتمتح من علمه.

الثاني: من مخالطته كالدواء، إنما تتعاطاه عند الحاجة إليه، وهذا هو الإنسان الذي تستفيد منه في أمر معاشك في مشاورة أو أمر أو ما أشبه ذلك، أو تريده في أمر من أمور الدنيا فهذا كالدواء، ومن الناس من مخالطته كالداء مثل المرض، والمرض كما تعلم أنواع: من الأمراض مرض عضال لا يشفى منه الإنسان، ومن الأمراض مرض مثل وجع الضرس، وهذا بمجرد ما تقلع هذا الضرس يزول المرض، وهذا مثل الإنسان الذي مخالطته تؤذيك بسيئ القول، فإذا غادرته زال الألم؛ فالضرس كذلك إذا قلعته زال الألم.

ومن الأمراض، أمراض الحمى التي لا تكاد تفارق الإنسان، ومن ذلك -مثل ما ذكر- مخالطة الإنسان الثقيل الذي لا هو بالذي يتكلم فتستفيد، ولا هو بالذي يسكت فيستفيد هو، فلا يستفيد ولا يفيد.

ومن الناس من مخالطته هي الموت بعينه، وهو الإنسان الذي يضرك في دينك، إما بضلالة، أو ببدعة، فتبين بذلك أن مخالطة الناس أربعة أصناف:

منهم من هو كالغذاء، ومنهم من هو كالدواء، ومنهم من هو كالداء، ومنهم من هو الموت، فعليك أن تختار لنفسك وتعلم أن فضول المخالطة لا خير فيها، يكثر فيها القيل والقال، والغيبة، والمجاملة، والتصنع، وربما كان طول المخالطة سبباً في المباعدة، والمفارقة، واكتشاف العيوب، فيتحول ذلك إلى نوع من العداوة، ولهذا جاء في حديث روي مرفوعاً عند الترمذي وغيره، وروي موقوفاً على علي رضي الله عنه وهو أشبه، أنه قال: {أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما} اقتصد في الحب، والبغض، والمخالطة، والعزل.

إذاً العالم الرباني ليست مهمته التعامل مع الكتب -مثلاً- فقط فهذه وظيفةٌ سهلة، ولكن مهمته قيادة الناس إلى ربهم عز وجل وتوجيههم، ومشاركتهم في آلامهم، ومشاكلهم، وأفراحهم، وأتراحهم، وأن يكون قريباً من نفوسهم وقلوبهم، ولا يجوز أن تخلو الساحة من العلماء العاملين، العالمين، المخلصين؛ لأن خلوها أتاح الفرصة للأشرار، الأشرار الذين رفعوا يوماً من الأيام لواء الدفاع عن المرأة أو ما يسمونه بتحرير المرأة، فأفسدوا نساء المسلمين باسم الدفاع عن المرأة، ولماذا لا يتولى أمر الدفاع عن المرأة العلماء العاملون المخلصون؟ فيدافعون عن المرأة ضد كل ظلم أو ضيم يقع عليها، دفاع بالشرع لا بالهوى، ويكسبون المرأة إلى صف الإسلام والمسلمين.

الأشرار الذين تبنوا قضايا الأطفال والنشء، وأعدوا لهم البرامج والكتب وغير ذلك، فربوهم على غير هدي الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا يتولى أمر الدفاع عن قضايا الطفل العلماء العاملون المخلصون، أو من يلوذ بهم ويسمع كلمتهم؟ حتى يربوا الأطفال على المنهج الصحيح، منهج الكتاب والسنة.

الأشرار: الذين ادعوا أنهم ينادون بتصحيح أوضاع العمال، والدفاع عنهم: يا عمال العالم اتحدوا، ورفعوا هذه الراية فضلوا وأضلوا، ولا شك أن العمال لن يجدوا من يدافع عنهم أصدق لهجة، وأصح منهجاً من حملة الكتاب والسنة لو تصدوا لهذا واهتموا به، ودافعوا عن حقوق العمال بالحق لا بالباطل.

الأشرار: الذين طالبوا بتحسين الأوضاع المعيشية للناس، فتبعهم بذلك الفقراء كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور:39] ولماذا لا يكون العلماء الربانيون هم المدافعون المتولون لشئون الناس من الفقراء والعمال والمظلومين وغيرهم؟ ولماذا يذهب الأشرار بمجتمعات المسلمين، ويبقى العالم منعزلاً في بيته أو في مكتبته لا يدري ما الناس عليه من خير أو شر، ولا يدري الناس أيضاً هذه العلوم التي يتعاطها وأي شيء تكون؟

بل بلغ الأمر أنه في وقت من الأوقات في مجتمعات المسلمين كانت بعض وسائل الإعلام تتناول العالم بالسخرية، فتظهر السخرية به في التلفاز، أو تظهر السخرية به في كاريكاتير ينشر في جريدة، أو تظهر السخرية به في مقرر مدرسي؛ فلا يجد العالم من يغضب له، لماذا؟ لأنه ترك مجال المجتمعات للأشرار، وإلا فالناس في كل بلاد الإسلام عندهم عاطفة دينية، ولو أن أحداً تناول الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لوجدت الغضب، لماذا؟ لأنهم يحبون الرسول عليه الصلاة والسلام، فدل على أن أصل العاطفة الدينية عندهم موجود، ولكنها تحتاج إلى بعث، وإلى إثارة، وإلى تحريك، والذي يستطيع ذلك هو العالم الذي يتكلم فيسمع الناس؛ متى أقام الجسور بينه وبينهم.

إذاً لابد من المخالطة على منهاج النبوة.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 4989 استماع
حديث الهجرة 4948 استماع
الصومال الجريح 4132 استماع
تلك الرسل 4130 استماع
مصير المترفين 4064 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4033 استماع
وقفات مع سورة ق 3961 استماع
مقياس الربح والخسارة 3913 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3850 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3812 استماع