الحيل النفسية


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فشكراً للمركز الصيفي بجامعة أم القرى بـالطائف على تنظيمه لهذه المحاضرة وحرصه عليها -وجزى الله تعالى- القائمين على هذا المركز خير الجزاء، على جهدهم ومشاركتهم وتبنيهم لهذه المحاضرة في مركزهم.

وهذه ليلة الجمعة التاسع من شهر صفر، من عام (1413هـ) والعنوان كما علمتم: "الحيل النفسية" وأود أن أقول للإخوة في البداية إن هذا الموضوع: استكمال لموضوع كنت قد بدأته من قبل، وخرج بعنوان: (الأمة الغائبة).

ولعل هذا الموضوع هو تشخيص لبعض أسباب غياب الأمة، وهو أيضاً مثل سابقه، فهو عبارة عن مطالبة بالمشاركة، أي لون من ألوان المشاركة في الدعوة إلى الله عز وجل، إذ نحن لا نشترط حين نطالبك أنت بشخصك وعينك، أيها القاعد بين أيدينا! لا نشترط لمشاركتك في العلم والدعوة والإصلاح والأمر بالمعروف شكلاً معيناً، ولا مقداراً معيناً، ولا حجماً معيناً، لكن نطلب منك مطلق المشاركة بقدر ما تستطيع، لأننا نعلم:

أولاً: أنك تقدر فإن الله تعالى خلقك إنساناً، وكلمة إنسان بذاتها قبل الدخول في أي لفظ شرعي يقول أهل اللغة: هي مشتقة من النوس، ناس ينوس إذا تحرك، إذن أنت متحرك بطبيعتك، وفعال بطبيعتك، فأنت تستطيع أن تصنع الكثير، فنحن نطالبك أولاً بهذا.

ثانياً: لا نشترط قدراً معيناً، لأننا نعلم أن الناس ليسوا نسخة واحدة طبق الأصل بعضهم من بعض، كلا! فالذي في كبينة القيادة هو شخص واحد، أو اثنان، والبقية هم أفراد.

لقد حرصت أيها الإخوة في هذه المحاضرة على الوضوح والمباشرة وعدم التعقيد العلمي، لأن المخاطب بهذه الكلمات ليسوا هم النخبة أو علية القوم من المثقفين والخاصة والدعاة، كلا! بل نريد أن نخاطب بهذه الكلمات كل إنسان مسلم، بغض النظر عن مستواه العلمي والثقافي،وعن عمره وعن أي شيء آخر، ولذلك فلا غرابة أن أحرص على توضيح العبارات وبسطها والبعد عن أي لون من ألوان الترتيب العلمي، الذي قد يصعب ويشق على الناس فهمه.

ومن قبل كان ابن قتيبة رحمه الله يقول في بعض كتبه: " ينبغي أن يكون الخطيب متخير اللفظ، قليل اللحظ، لا يحرص على تدقيق العبارة ولا على تخصيص المعاني " أي: أنه يذكر معان مجملة عامة يسهل على كل إنسان فهمها، وليس فيها من الغموض والدقة أي مقدار، ومن بعده كان الإمام الشاطبي يقول: " إن السلف رحمهم الله تعالى كان الواحد منهم لا يهتم بالألفاظ، بل يلقي الكلام على عواهنه وكيفما اتفق، متى ما علم أن هذا الكلام يؤدي المعنى المقصود، ويصل إلى ذهن السامع ويبلغ المعنى الشرعي ".

إذاً: لندرك أننا في هذه الجلسة لا يعنينا تزويق الألفاظ ولا تصفيف العبارات، ولا الترتيب العلمي والموضوعي، بقدر ما أمامنا من الحيل النفسية التي نتستر بها أحياناً، وينبغي أن نكتشفها ونفضح أنفسنا أمامها، ونضع أنفسنا أمام الحقيقة وجهاً لوجه، ولا نبقي عذراً لمعتذر ينبغي أن يقوم بعمل في سبيل الله عز وجل.

إذاً: فلا تنتظر مني استكمالاً للموضوع ولاتطويلاً فيه، ولا تنظيراً؛ بل ولا حسن ترتيب، وحسبي أن تفهم الكلام الذي أقوله، وتوقن بأنه حق وأنه ينبغي أن نعالجه.

وبادئ ذي بدء نلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن العجز واستعاذ منه، فقال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم وهو حديث طويل: {احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز} فهذا نهي: (ولا تعجز)، فاحتفظ بكلمة العجز، حتى نفكر بعد قليل ما هو العجز.

ثم تنتقل فتجد أن من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي ثبت عن جماعة من الصحابة مثل أنس بن مالك أو غيره أنه كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من العجز: {أعوذ بك من العجز} والحديث جاء عن أنس وزيد بن أرقم وهو في الصحيح وغيره، وتجد في القرآن الكريم كلمة العجز موجودة في مواضع منها: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31] فهنا يبرز أمامك العجز.

فالعجز إذن مرض سببه الغفلة، وعدم الاهتداء، حتى إن هذا الإنسان لم يكن عاجزاً عن أن يحفر الأرض ليدفن أخاه الذي قتله، ولكنه غفل عن هذا المعنى ولم يتفطن له حتى رأى الغراب يبحث في الأرض، فاستيقظ وتنبه، ولام نفسه أن يكون الغراب معلماً له، ويسبقه إلى هذه القضية، فيحفر في الأرض فقال: يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ [المائدة:31].

ولذلك قد نكتشف أن العجز هو صفة ملازمة للمعتدين أحياناً، لأن هذا الإنسان كان معتدياً، فالاعتداء غلّف قلبه، وغطى على فطرته حتى لم يتفطن إلى مسألة أن يحفر الأرض ليدفن أخاه.

فالزيادة، أو النقص، أو التفريط كل هذه الأشياء تكون سبباً في ابتلاء الإنسان بالعجز والقعود عن العمل، ولذلك وصف الله المنافقين الذين تخلفوا أنه أراد سبحانه أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وبما كسبت أيديهم، وكذلك بعض المؤمنين الذين هربوا وتولوا من المعركة، قال الله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155]فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ [المائدة:49].

فالإنسان يتعلم حتى من الحيوان، وأنت تعرف قصة الإنسان الذي أراد أن يتعلم النحو، حتى تروى هذه القصة عن سيبويه أو غيره، ففشل مرة أو مرتين وثلاثاً، فبعد ذلك رأى نملة تصعد وكلما صعدت تسقط ثم تكرر المحاولة، فتلقن من ذلك درساً أنه يجب أن يحاول ويكرر المحاولة فيستفيد حتى من الحيوان، أو الطير، أو غيره.

وهذا العجز الوارد في الشرع هو ما يمكن أن نعبر عنه -أحياناً- بالعوائق النفسية أو الحيل النفسية، وهو داء في القلب أو في النفس، لكن قد لا يصل إلى حد الضرورة كما قد يفهم البعض أن صاحبه مريض مرضاً نفسياً، أو مجنون لا، لكن عنده نوع من الخلل، وأنت تلاحظ الفرق بين إنسان سوي النفس، سليم القلب، ملتزم بالكتاب والسنة، كثير الإقبال عليهما، شديد التوكل على الله، فتجد أن موازينه وحساباته مضبوطة، وآخر: أعماله النفسية كلها غير طبيعية، بل هي مصابة بالخلل بسبب نوع من عدم الاعتدال عنده، فتجد مثلاً قضية الإدراك غير منضبطة، لا يدرك الأمور إدراكاً صحيحاً ولا يتصورها تصوراً صحيحاً، ولا يتذكرها، ولا يتخيلها بشكل صحيح، فهو يدركها على غير صورتها؛ ولذلك يخطئ الحسابات -كما سيأتي أمثله لذلك بعد قليل- وبالتالي تجد أن هذا الإنسان لا يعمل.

وأحياناً تجد إنساناً قاعدة لا يعمل، ولو قلت له لماذا لقال: عسى الله أن يهديني! فأنا قادر ومستطيع، فلا يخدع نفسه أو يضحك عليها، لكن آخر تجد أنك إذا حادثته لماذا لا تقدم شيئاً؟ بدأ يفلسف هذا العجز، ويظهره بصورة العقل أحياناً، أو بصورة الفهم، أو الحكمة، أو حتى بصورة الشرع، كما سوف يبدو لك، فما هي هذه الأعذار التي نتستر وراءها -أحياناً- حتى نترك العمل؟

وقبل أن أذكرها أود أن أقول لك شيئاً؛ حتى تدرك هل أنت تعيش نوعاً من الحيل النفسية أو لا؟ تصور -وأنت قاعد بين يدي الآن- هل تشعر أن الكلام هذا موجه لك مباشرة أو تشعر أنه يعني أناساً آخرين غيرك؟

فإن كنت تتصور أن الكلام موجه لك أنت بالذات دون غيرك، فهذا دليل على نوع من الوضوح والصراحة مع نفسك، لكن إن كنت تشعر أن المخاطبين أناس موجودون في كوكب آخر، فيجب أن تتنبه إلى أن هذه هي بداية الحيل النفسية، أنك تجعل الكلام يزل عن يمينك وشمالك ولا يصيبك.

وأول هذه الحيل هو: التواضع الوهمي الكاذب، فيرى الإنسان أنه ليس أهلاً لشيء، لا لعمل، ولا لوظيفة، ولا لشهادة، ولا لإمامة،ولا لخطابة، ولا لدعوة، ولا لتصدر، لا لإدارة ولا لشيء، يقول: أنا أعرف نفسي، لا تظن أني متواضع، لا، هذه الحقيقة ولو تعرف ما في نفسي من العيوب لعذرتني، وأدركت أنني لا أقول إلا الحقيقة، فدعني وما أنا فيه، وعبثاً تحاول إخراج بعض هؤلاء الناس من تواضعهم الوهمي الذي أصبح يحول بينهم وبين أي عمل.

تحديد المشكلة

وليست المشكلة في وجود الشعور نفسه، كون الإنسان يتكلم عن نفسه بازدراء، أو باحتقار، أو يهضم نفسه، أو يوبخها- هذا لا شيء فيه بل هو أمر فطري، بل المؤمن الصادق هو كذلك، لا يصاب بعجب، ولا غرور، وكما قال ابن مسعود

}. إذن لا نعيب عليك أن توبخ نفسك، ولا أن تزدريها، ولا أن تحتقرها، فهذا لا شيء فيه، ولكن المشكلة أن يتحول هذا الشعور عندك إلى منهج يحكم كل تصرفاتك وأعمالك، فإذا قلنا لك: يا فلان تول أمر المسجد وصلِّ بالناس! أو درّس، أو اشغل هذه الوظيفة المهمة، أو ألف كتاباً، أو ألق محاضرة، أو درساً، أو مر بالمعروف وانه عن المنكر هززت رأسك، وقلت الله المستعان! "لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني" فتحول هذا الشعور إلى عائق وحائل يمنع الإنسان من العمل، وأنت تجد أن كلام السلف يدل على أن المشكلة ليست في وجود هذا الشعور والكلام، لكن المشكلة أن يتحول إلى ذريعة لترك العمل الصالح، مثلاً أبو الوفاء بن عقيل

، صاحب كتاب الفنون في ثمانمائة مجلد، وهو من أذكياء العالم، له كلام عجيب في توبيخ نفسه، نقله ابن الجوزي

في كتابه صيد الخاطر وقال ابن الجوزي

بعدما وبخ نفسه وذمها وعاتبها قال: وقد رأيت الإمام أبو الوفاء بن عقيل

ناح على نفسه نحو ما نحت فأعجبتني نياحته فنقلتها هاهنا، ماذا قال أبو الوفاء بن عقيل

؟ قال كلاماً طويلاً مقصده أن أبا الوفاء بن عقيل

يخاطب نفسه ويقول: يا نفس ماذا استفدت من عمرك الطويل؟ استفدت أن يقال لك: إنك إنسان مناظر قوي الحجة لا غير، وعما قليل تترك ذلك بالموت، بل وحتى في حياتك لو برز للناس شخص أو شاب أقوى منك عبارة، لربما موهوا له بالقول، وركضوا وراءه وتركوك، فماذا انتفعت من قول الناس لك يا مناظر؟ وأنت تعلم ما في نفسك وما في قلبك، ثم قال: " والله ما أعلم في نفسي حسنة أستطيع أن أسأل الله بها، فأقول: اللهم إني أسألك كذا بكذا، وعما قليل أموت، فيقول الناس: مات الرجل الصالح العالم الورع التقي، ووالله لو علموا حقيقتي ما دفنوني " وكلام من هذا القبيل طويل. ثم قال: " والله لأنادين على نفسي وأفضحها لعل الله تعالى أن يرحمني بذلك " ولعل الكثير منكم يحفظ نونيه القحطاني: والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام علي من يلقاني ولأعرضوا عني وملوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة بهوان إلى آخر قصيدته. لكن السؤال: أن أبا الوفاء بن عقيل

وابن الجوزي

والقحطاني

ومن قبلهم؛ حتى الصحابة رضي الله عنهم، لهم كلام كثير في ازدراء النفس، فهل هذا الشعور بالنفس جعلهم لا يعملون ولا يجاهدون، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر؟ لا! أبو بكر

هو الخليفة، وأمور المسلمين كلها في عنقه، ومع ذلك وكثيراً ما يوبخ نفسه، فإذا مدحوه قال: [[اللهم اغفر لي مالا يعلمون واجعلني خيراً مما يظنون]] وكثيراً ما كان أبو بكر

رضي الله عنه يقبل على نفسه يوبخها ويذمها. ومثله عمر

الخليفة وتعرف ماذا فعل عمر

؟ رجل إيجابي من الدرجة الأولى، ومع ذلك كان يقول: [[بخٍ بخٍ يـابن الخطاب

! بالأمس ترعى غنم الخطاب

واليوم أمير المؤمنين! والله لتتقين الله أو ليعذبنك]]. إذاً فرق بين شعورك بالازدراء والاحتقار لنفسك الذي هو خير وضمانة عن العجب والاغترار، وعن حبوط العمل وعن الكبر وعن الغطرسة وعن رد الحق، فرق بين هذا وبين هذا الاحتقار للنفس الذي هو مدخل من مداخل الشيطان يجعلك لا تقوم بأي عمل صالح، ولا تمارس أي دور. وكلام أبي الوفاء بن عقيل

وابن الجوزي

والقحطاني

، ومن قبلهم أبو بكر

وعمر

وعثمان

وعلي

لم يمنع آخرين من أن يتكلموا مما وهبهم الله من الخير والنعم، لأن النعمة يجب أن تشكر، وأول مراحل الشكر للنعمة هو أن تعرف النعمة، قال الله عز وجل: ((يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا))[النحل:83] فأول مراحل شكر النعمة المعرفة، فإذا كان الله قد أعطاك مواهب فلا بد أن تعرف هذه المواهب، حتى تشكرها، ولو جحدتها لكنت منكراً لنعمة الله عليك. فهذا يوسف عليه السلام نبي الله: ((قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ))[يوسف:55] فما منعه أن يطالب بأن يكون على خزائن الأرض لأنه يعلم أن الله تعالى قد اختصه بهذه المزايا، بن عباس يقول: [[أنا من الراسخين في العلم في قوله تعالى: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ))[آل عمران:7] وفي قوله تعالى: ((مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ)) [الكهف:22] قال: أنا من القليل الذي يعلمه]] فلم يمنعه تواضعه أن يقول هذا.

الرغبة في العمل الديني مطلب شرعي

عثمان بن أبي العاص كما في الصحيح يقول: {يا رسول الله اجعلني إمام قومي!! قال: أنت إمامهم واقتدِ بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً} فـعثمان بن أبي العاص لم يمنعه تواضعه وهضم نفسه من أن يطلب عملا دينياً، والإمامة ليست عملاً دنيوياً وإلا والنبي صلى الله عليه وسلم قال:{إنا لا نولي هذا الأمر من طلبه} لكنه ديني، ولهذا وصف الله تعالى المتقين كلهم بأنهم عباد الرحمن وبأنهم يقولون: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].

فلم يطلبوا أن يكونوا من المتقين فقط، بل طلبوا أن يكونوا أئمة للمتقين، فليسوا أئمة للمؤمنين أو للمسلمين فقط؛ بل للمتقين.

ولا شك أنه من الغبن أن يقول العبد في سجوده: واجعلنا للمتقين إماماً، ثم يطلب منه أن يتولى أمر ثلاثة في دعوة، أو إصلاح، أو قيادة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، ثم ينفض ثوبه ويتنصل ويقول: لا أستطيع! لا أستطيع! لأن مقتضى الشرع أن الدعاء يتطلب العمل الصالح، فإذا قلت: واجعلنا للمتقين إماماً فينبغي أن تسعى إلى تحقيق الإمامة في الدين، قال الله عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] قال سفيان: [[بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين]] ولما قال ربيعة بن مالك الأسلمي رضي الله عنه كما في صحيح مسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله ادع الله أن أكون رفيقك في الجنة، قال: أعني بكثرة السجود} فإذا دعوت بشيء فعزز دعاءك بفعل الأسباب.

وكما قال عمر رضي الله عنه: [[اخلط مع دعاء العجوز شيئاً من القطران]] كانوا يقولون: إذا أصاب إبل الصدقة الجرب، يقولون نذهب إلى عجوز هناك لتدعو فيشفيها الله تعالى، فقال عمر: لا، بأس! هذا جيد، اذهبوا إلى العجوز تدعو، وهاتوا القطران -وهو نوع من العلاج- فاطلوا به هذا الجرب فيزول بإذن الله تعالى، فالسبب لا بد من فعله، والدعاء سبب، وفعل العمل الصالح من السجود أو السعي إلى الإمامة في الدين بالصبر والتقوى واليقين هو أيضاً مطلوب.

الاعتذار بالمعصية

وأحياناً تجد أن المعصية أو النقص أو التقصير تتسبب للإنسان في ترك العمل الصالح، وكأنه يظن أنه لا يعمل للخير إلا الكاملون أما الناقصون فلا يعملون، مع أنك لو نظرت إلى النص الشرعي لوجدت غير هذا، يا فلان لماذا لا تدعوإلى الله؟ قال: الله المستعان! روائح ذنوبي فاحت، وأنا أستحي أن أقف أمام الناس، وأستحي من الله تعالى، وأخجل أن أعظ الناس، وأنا أحتاج إلى من يعظني.

يا أخي! عندك الآن مال فهل تزكيه؟ فيقول: نعم أزكيه؛ لأنه بلغ النصاب، فنقول: المال إذا بلغ النصاب وجب عليك تزكيته، ألم تعلم أن العلم عليه زكاة أيضاً؟ مع أن العلم ليس له نصاب.

فالرسول صلى الله عليه وسلم بين النصاب في الأموال الزكوية ولكن بالنسبة للعلم فإنه قال: {بلغوا عني ولو آية} كما في الصحيح، آية واحدة فقط، أو حديثاً.

وقال صلى الله عليه وسلم:{نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فبلغه} فنصاب العلم آية واحدة أو حديث واحد! وهل من المسلمين كلهم من لا يحفظ آية أو حديثاً، فينبغي أن تتفطن أن كل قدر من العلم ولو قل عندك، عليه زكاة وأن تقصيرك أنت بفعل المعصية ليس موجباً بل ولا مبيحاً لترك النهي عنها وتقصيرك بترك الطاعة ليس موجباً بل ولا مبيحاً بترك الأمر بها، بمعنى يجب أن تأمر بالمعروف ولو كنت تاركاً له، ويجب أن تنهى عن المنكر ولو كنت واقعاً فيه:

ولو لم يعظ في الناس من هو مذنبٌ     فمن يعظ العاصين بعد محمد

ولا شك في هذا؛ بل يكاد أن يكون إجماعاً لأهل العلم، إذ كونك تركت المعروف بنفسك هذا خطأ فلا تعالجه بخطأ آخر وهو أنك -أيضاً- لا تأمر به، وكونك فعلت المنكر فهذا خطأ، لكن تعالج هذا الخطأ بخطأ آخر وهو أنك لا تنهى عن المنكر.

أضرب لك مثالاً: أنت -وحاشاك- مبتلى بشرب الدخان؛ لأنك نشأت في بيئة لم تعودك على ترك هذا، فأخذته بالتقليد والعادة، وأصبح صعباً عليك بسبب الإدمان تركه، فتزوجت ورزقت بأولاد، فوجدت ابن عشر سنوات من أبنائك يدخن، فهل تقول حينئذٍ: لا أنهاه لأني مدخن؟ قطعاً لا، بل ستقول: سأمنعه، وستتخذ من كونك مدخناً حجة لك، وستقول: يا ولدي أنا جربت قبلك، وابتليت بهذا الداء الذي أتمنى أن أخرج من مالي وأتركه، ولكن عجزت، فأنت الآن ما دمت في بداية الطريق، ابتعد عن هذا الشيء.

فتستفيد من الخطأ الذي وقعت فيه في نهي الناس، مع أنك مطالب بترك المعصية، ومطالب بفعل الطاعة، لكن ليس من شروط الأمر بالمعروف أن تكون فاعلاً له، ولا من شروط النهي عن المنكر أن تكون تاركاً له.

أما قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة:44] فهذا نعم، ولا شك أنه يوبخ؛ لأن الآمر للناس عالم وكان المفروض أن يكون أول الممتثلين، كما قال شعيب عليه السلام: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88] ولكن كونك قصرت في هذا لا يبيح لك أن تقصر في الثاني.

ومثل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث أسامة في صحيح البخاري: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه}.

فنقول: هل هذا دخل النار؛ لأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ كلا! الأمر بالمعروف والنهي عن المكر بالنية الصالحة عمل صالح يدخل الجنة ويباعد عن النار، وإنما دخل النار؛ لأنه يفعل المنكر ويترك المعروف؛ أو لأنه كان يأمر وينهى على سبيل النفاق والخداع والتغرير، لا على سبيل الصدق والإخلاص والعمل الصالح.

والإنسان الإيجابي الفعال له منطق آخر، تجده يلقي درساً عن قيام الليل ويرغب الناس فيه، فإذا قالت له زوجته -التي تعرف أنه لا يقوم الليل- أو قال له زميله - الذي يعرف أنه لا يقوم الليل- يا فلان تحث الناس على قيام الليل وأنت منجعف على فراشك تتقلب! ألا تخاف الله؟! ألا تستحي؟! حاولَ أن يقوم، وبذل جهده، لكنه يقول في نفسه: ربما قام أحد هؤلاء الناس الذين سمعوا موعظتي فدعا الله تعالى، فكنت أنا شريكاً له في الأجر؛ لأنه قام بسبب موعظتي، وربما أشركني في دعوة صالحة، والدال على الخير كفاعله.

وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: {من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه}.

وفي حديث جرير بن عبد الله البجلي: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها} فيأخذ الأمر من هذا المنطلق.

مثال معاصر

أضرب لكم مثالاً يسيراً، وإنما اخترته لكثرة تكرره، فقد رأيت الكثيرين من الشباب وهم أئمة مساجد، وأساتذة مدرسين في حلقات، ومشرفين على نشاطات خيرية، تجد الواحد منهم يتبرم من عمله، ويتضايق، ويهم بالترك حتى كأنه عصفور في قفص، وقد التقيت بالكثيرين منهم، فأسأله لماذا، يقول: عندي عيوب، عندي أخطاء، أنا لا أستحق هذا العمل! وبعد ما أحدثه واكتشف ما في نفسه، أكتشف -مثلاً- أن هذا الإنسان مبتلى بما يسمى بالعادة السرية، صحيح هذا خطأ، وينبغي أن تبذل جهدك في الخلاص منه، ولو لم يكن من سيئاته إلا ما أوجده في قلبك من الضيق والتبرم والحسرة والشقاء والخجل لكفى.

ولكن هذا الذنب -حتى مع القول بتحريمه، وهو قول كثير من أهل العلم وإن لم يقولوا: بأنه من كبائر الذنوب، بل هو من صغائرها- هل يوجب ترك الإمامة والدعوة وترك الخطابة، والتعليم والتوجيه؟!بل ربما يغفر لك بسبب إنسان علمته، أو دعوته أو وجهته، أو ركعة ركعتها، أو صلاة صليتها بالمسلمين، وهذا ضرره قاصر على نفسك لا يتعدى إلى غيرك.

فأعمال الخير التي تقوم بها أنت نفعها متعدٍ إلى الأمة كلها، فلا يخدعنك الشيطان، ويجرك من الأعمال الصالحة بهذه الحجة الواهية، ثم بعد ذلك لا أنت تركت المعصية أو الذنب الذي أنت واقع فيه، ولا أنت قمت بهذه الأعمال الصالحة التي تقاوم الإثم والسيئة.

والله عز وجل يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: {وأتبع السيئة الحسنة تمحها}.

إذن لا بد من النـزول إلى الميدان، ولا بد من المشاركة في الأعمال، ولا بد من التوكل على الله عز وجل، ولا بد من العلم الصحيح الذي يضيء للإنسان الطريق الصحيح، ويبين له ما يأخذ وما يدع، ولا بد من أن يهتم الإنسان بأمر نفسه ودعوته، فيهتم بموضوع القدوة، ويهتم -أيضاً- بموضوع الدعوة، فإذا أراد أن يقوم بالأعمال الصالحة، فإنه يحرص على إتقانها وأدائها.

وليست المشكلة في وجود الشعور نفسه، كون الإنسان يتكلم عن نفسه بازدراء، أو باحتقار، أو يهضم نفسه، أو يوبخها- هذا لا شيء فيه بل هو أمر فطري، بل المؤمن الصادق هو كذلك، لا يصاب بعجب، ولا غرور، وكما قال ابن مسعود

}. إذن لا نعيب عليك أن توبخ نفسك، ولا أن تزدريها، ولا أن تحتقرها، فهذا لا شيء فيه، ولكن المشكلة أن يتحول هذا الشعور عندك إلى منهج يحكم كل تصرفاتك وأعمالك، فإذا قلنا لك: يا فلان تول أمر المسجد وصلِّ بالناس! أو درّس، أو اشغل هذه الوظيفة المهمة، أو ألف كتاباً، أو ألق محاضرة، أو درساً، أو مر بالمعروف وانه عن المنكر هززت رأسك، وقلت الله المستعان! "لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني" فتحول هذا الشعور إلى عائق وحائل يمنع الإنسان من العمل، وأنت تجد أن كلام السلف يدل على أن المشكلة ليست في وجود هذا الشعور والكلام، لكن المشكلة أن يتحول إلى ذريعة لترك العمل الصالح، مثلاً أبو الوفاء بن عقيل

، صاحب كتاب الفنون في ثمانمائة مجلد، وهو من أذكياء العالم، له كلام عجيب في توبيخ نفسه، نقله ابن الجوزي

في كتابه صيد الخاطر وقال ابن الجوزي

بعدما وبخ نفسه وذمها وعاتبها قال: وقد رأيت الإمام أبو الوفاء بن عقيل

ناح على نفسه نحو ما نحت فأعجبتني نياحته فنقلتها هاهنا، ماذا قال أبو الوفاء بن عقيل

؟ قال كلاماً طويلاً مقصده أن أبا الوفاء بن عقيل

يخاطب نفسه ويقول: يا نفس ماذا استفدت من عمرك الطويل؟ استفدت أن يقال لك: إنك إنسان مناظر قوي الحجة لا غير، وعما قليل تترك ذلك بالموت، بل وحتى في حياتك لو برز للناس شخص أو شاب أقوى منك عبارة، لربما موهوا له بالقول، وركضوا وراءه وتركوك، فماذا انتفعت من قول الناس لك يا مناظر؟ وأنت تعلم ما في نفسك وما في قلبك، ثم قال: " والله ما أعلم في نفسي حسنة أستطيع أن أسأل الله بها، فأقول: اللهم إني أسألك كذا بكذا، وعما قليل أموت، فيقول الناس: مات الرجل الصالح العالم الورع التقي، ووالله لو علموا حقيقتي ما دفنوني " وكلام من هذا القبيل طويل. ثم قال: " والله لأنادين على نفسي وأفضحها لعل الله تعالى أن يرحمني بذلك " ولعل الكثير منكم يحفظ نونيه القحطاني: والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام علي من يلقاني ولأعرضوا عني وملوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة بهوان إلى آخر قصيدته. لكن السؤال: أن أبا الوفاء بن عقيل

وابن الجوزي

والقحطاني

ومن قبلهم؛ حتى الصحابة رضي الله عنهم، لهم كلام كثير في ازدراء النفس، فهل هذا الشعور بالنفس جعلهم لا يعملون ولا يجاهدون، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر؟ لا! أبو بكر

هو الخليفة، وأمور المسلمين كلها في عنقه، ومع ذلك وكثيراً ما يوبخ نفسه، فإذا مدحوه قال: [[اللهم اغفر لي مالا يعلمون واجعلني خيراً مما يظنون]] وكثيراً ما كان أبو بكر

رضي الله عنه يقبل على نفسه يوبخها ويذمها. ومثله عمر

الخليفة وتعرف ماذا فعل عمر

؟ رجل إيجابي من الدرجة الأولى، ومع ذلك كان يقول: [[بخٍ بخٍ يـابن الخطاب

! بالأمس ترعى غنم الخطاب

واليوم أمير المؤمنين! والله لتتقين الله أو ليعذبنك]]. إذاً فرق بين شعورك بالازدراء والاحتقار لنفسك الذي هو خير وضمانة عن العجب والاغترار، وعن حبوط العمل وعن الكبر وعن الغطرسة وعن رد الحق، فرق بين هذا وبين هذا الاحتقار للنفس الذي هو مدخل من مداخل الشيطان يجعلك لا تقوم بأي عمل صالح، ولا تمارس أي دور. وكلام أبي الوفاء بن عقيل

وابن الجوزي

والقحطاني

، ومن قبلهم أبو بكر

وعمر

وعثمان

وعلي

لم يمنع آخرين من أن يتكلموا مما وهبهم الله من الخير والنعم، لأن النعمة يجب أن تشكر، وأول مراحل الشكر للنعمة هو أن تعرف النعمة، قال الله عز وجل: ((يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا))[النحل:83] فأول مراحل شكر النعمة المعرفة، فإذا كان الله قد أعطاك مواهب فلا بد أن تعرف هذه المواهب، حتى تشكرها، ولو جحدتها لكنت منكراً لنعمة الله عليك. فهذا يوسف عليه السلام نبي الله: ((قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ))[يوسف:55] فما منعه أن يطالب بأن يكون على خزائن الأرض لأنه يعلم أن الله تعالى قد اختصه بهذه المزايا، بن عباس يقول: [[أنا من الراسخين في العلم في قوله تعالى: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ))[آل عمران:7] وفي قوله تعالى: ((مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ)) [الكهف:22] قال: أنا من القليل الذي يعلمه]] فلم يمنعه تواضعه أن يقول هذا.

عثمان بن أبي العاص كما في الصحيح يقول: {يا رسول الله اجعلني إمام قومي!! قال: أنت إمامهم واقتدِ بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً} فـعثمان بن أبي العاص لم يمنعه تواضعه وهضم نفسه من أن يطلب عملا دينياً، والإمامة ليست عملاً دنيوياً وإلا والنبي صلى الله عليه وسلم قال:{إنا لا نولي هذا الأمر من طلبه} لكنه ديني، ولهذا وصف الله تعالى المتقين كلهم بأنهم عباد الرحمن وبأنهم يقولون: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].

فلم يطلبوا أن يكونوا من المتقين فقط، بل طلبوا أن يكونوا أئمة للمتقين، فليسوا أئمة للمؤمنين أو للمسلمين فقط؛ بل للمتقين.

ولا شك أنه من الغبن أن يقول العبد في سجوده: واجعلنا للمتقين إماماً، ثم يطلب منه أن يتولى أمر ثلاثة في دعوة، أو إصلاح، أو قيادة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، ثم ينفض ثوبه ويتنصل ويقول: لا أستطيع! لا أستطيع! لأن مقتضى الشرع أن الدعاء يتطلب العمل الصالح، فإذا قلت: واجعلنا للمتقين إماماً فينبغي أن تسعى إلى تحقيق الإمامة في الدين، قال الله عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] قال سفيان: [[بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين]] ولما قال ربيعة بن مالك الأسلمي رضي الله عنه كما في صحيح مسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله ادع الله أن أكون رفيقك في الجنة، قال: أعني بكثرة السجود} فإذا دعوت بشيء فعزز دعاءك بفعل الأسباب.

وكما قال عمر رضي الله عنه: [[اخلط مع دعاء العجوز شيئاً من القطران]] كانوا يقولون: إذا أصاب إبل الصدقة الجرب، يقولون نذهب إلى عجوز هناك لتدعو فيشفيها الله تعالى، فقال عمر: لا، بأس! هذا جيد، اذهبوا إلى العجوز تدعو، وهاتوا القطران -وهو نوع من العلاج- فاطلوا به هذا الجرب فيزول بإذن الله تعالى، فالسبب لا بد من فعله، والدعاء سبب، وفعل العمل الصالح من السجود أو السعي إلى الإمامة في الدين بالصبر والتقوى واليقين هو أيضاً مطلوب.

وأحياناً تجد أن المعصية أو النقص أو التقصير تتسبب للإنسان في ترك العمل الصالح، وكأنه يظن أنه لا يعمل للخير إلا الكاملون أما الناقصون فلا يعملون، مع أنك لو نظرت إلى النص الشرعي لوجدت غير هذا، يا فلان لماذا لا تدعوإلى الله؟ قال: الله المستعان! روائح ذنوبي فاحت، وأنا أستحي أن أقف أمام الناس، وأستحي من الله تعالى، وأخجل أن أعظ الناس، وأنا أحتاج إلى من يعظني.

يا أخي! عندك الآن مال فهل تزكيه؟ فيقول: نعم أزكيه؛ لأنه بلغ النصاب، فنقول: المال إذا بلغ النصاب وجب عليك تزكيته، ألم تعلم أن العلم عليه زكاة أيضاً؟ مع أن العلم ليس له نصاب.

فالرسول صلى الله عليه وسلم بين النصاب في الأموال الزكوية ولكن بالنسبة للعلم فإنه قال: {بلغوا عني ولو آية} كما في الصحيح، آية واحدة فقط، أو حديثاً.

وقال صلى الله عليه وسلم:{نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فبلغه} فنصاب العلم آية واحدة أو حديث واحد! وهل من المسلمين كلهم من لا يحفظ آية أو حديثاً، فينبغي أن تتفطن أن كل قدر من العلم ولو قل عندك، عليه زكاة وأن تقصيرك أنت بفعل المعصية ليس موجباً بل ولا مبيحاً لترك النهي عنها وتقصيرك بترك الطاعة ليس موجباً بل ولا مبيحاً بترك الأمر بها، بمعنى يجب أن تأمر بالمعروف ولو كنت تاركاً له، ويجب أن تنهى عن المنكر ولو كنت واقعاً فيه:

ولو لم يعظ في الناس من هو مذنبٌ     فمن يعظ العاصين بعد محمد

ولا شك في هذا؛ بل يكاد أن يكون إجماعاً لأهل العلم، إذ كونك تركت المعروف بنفسك هذا خطأ فلا تعالجه بخطأ آخر وهو أنك -أيضاً- لا تأمر به، وكونك فعلت المنكر فهذا خطأ، لكن تعالج هذا الخطأ بخطأ آخر وهو أنك لا تنهى عن المنكر.

أضرب لك مثالاً: أنت -وحاشاك- مبتلى بشرب الدخان؛ لأنك نشأت في بيئة لم تعودك على ترك هذا، فأخذته بالتقليد والعادة، وأصبح صعباً عليك بسبب الإدمان تركه، فتزوجت ورزقت بأولاد، فوجدت ابن عشر سنوات من أبنائك يدخن، فهل تقول حينئذٍ: لا أنهاه لأني مدخن؟ قطعاً لا، بل ستقول: سأمنعه، وستتخذ من كونك مدخناً حجة لك، وستقول: يا ولدي أنا جربت قبلك، وابتليت بهذا الداء الذي أتمنى أن أخرج من مالي وأتركه، ولكن عجزت، فأنت الآن ما دمت في بداية الطريق، ابتعد عن هذا الشيء.

فتستفيد من الخطأ الذي وقعت فيه في نهي الناس، مع أنك مطالب بترك المعصية، ومطالب بفعل الطاعة، لكن ليس من شروط الأمر بالمعروف أن تكون فاعلاً له، ولا من شروط النهي عن المنكر أن تكون تاركاً له.

أما قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة:44] فهذا نعم، ولا شك أنه يوبخ؛ لأن الآمر للناس عالم وكان المفروض أن يكون أول الممتثلين، كما قال شعيب عليه السلام: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88] ولكن كونك قصرت في هذا لا يبيح لك أن تقصر في الثاني.

ومثل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث أسامة في صحيح البخاري: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه}.

فنقول: هل هذا دخل النار؛ لأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ كلا! الأمر بالمعروف والنهي عن المكر بالنية الصالحة عمل صالح يدخل الجنة ويباعد عن النار، وإنما دخل النار؛ لأنه يفعل المنكر ويترك المعروف؛ أو لأنه كان يأمر وينهى على سبيل النفاق والخداع والتغرير، لا على سبيل الصدق والإخلاص والعمل الصالح.

والإنسان الإيجابي الفعال له منطق آخر، تجده يلقي درساً عن قيام الليل ويرغب الناس فيه، فإذا قالت له زوجته -التي تعرف أنه لا يقوم الليل- أو قال له زميله - الذي يعرف أنه لا يقوم الليل- يا فلان تحث الناس على قيام الليل وأنت منجعف على فراشك تتقلب! ألا تخاف الله؟! ألا تستحي؟! حاولَ أن يقوم، وبذل جهده، لكنه يقول في نفسه: ربما قام أحد هؤلاء الناس الذين سمعوا موعظتي فدعا الله تعالى، فكنت أنا شريكاً له في الأجر؛ لأنه قام بسبب موعظتي، وربما أشركني في دعوة صالحة، والدال على الخير كفاعله.

وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: {من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه}.

وفي حديث جرير بن عبد الله البجلي: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها} فيأخذ الأمر من هذا المنطلق.

أضرب لكم مثالاً يسيراً، وإنما اخترته لكثرة تكرره، فقد رأيت الكثيرين من الشباب وهم أئمة مساجد، وأساتذة مدرسين في حلقات، ومشرفين على نشاطات خيرية، تجد الواحد منهم يتبرم من عمله، ويتضايق، ويهم بالترك حتى كأنه عصفور في قفص، وقد التقيت بالكثيرين منهم، فأسأله لماذا، يقول: عندي عيوب، عندي أخطاء، أنا لا أستحق هذا العمل! وبعد ما أحدثه واكتشف ما في نفسه، أكتشف -مثلاً- أن هذا الإنسان مبتلى بما يسمى بالعادة السرية، صحيح هذا خطأ، وينبغي أن تبذل جهدك في الخلاص منه، ولو لم يكن من سيئاته إلا ما أوجده في قلبك من الضيق والتبرم والحسرة والشقاء والخجل لكفى.

ولكن هذا الذنب -حتى مع القول بتحريمه، وهو قول كثير من أهل العلم وإن لم يقولوا: بأنه من كبائر الذنوب، بل هو من صغائرها- هل يوجب ترك الإمامة والدعوة وترك الخطابة، والتعليم والتوجيه؟!بل ربما يغفر لك بسبب إنسان علمته، أو دعوته أو وجهته، أو ركعة ركعتها، أو صلاة صليتها بالمسلمين، وهذا ضرره قاصر على نفسك لا يتعدى إلى غيرك.

فأعمال الخير التي تقوم بها أنت نفعها متعدٍ إلى الأمة كلها، فلا يخدعنك الشيطان، ويجرك من الأعمال الصالحة بهذه الحجة الواهية، ثم بعد ذلك لا أنت تركت المعصية أو الذنب الذي أنت واقع فيه، ولا أنت قمت بهذه الأعمال الصالحة التي تقاوم الإثم والسيئة.

والله عز وجل يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: {وأتبع السيئة الحسنة تمحها}.

إذن لا بد من النـزول إلى الميدان، ولا بد من المشاركة في الأعمال، ولا بد من التوكل على الله عز وجل، ولا بد من العلم الصحيح الذي يضيء للإنسان الطريق الصحيح، ويبين له ما يأخذ وما يدع، ولا بد من أن يهتم الإنسان بأمر نفسه ودعوته، فيهتم بموضوع القدوة، ويهتم -أيضاً- بموضوع الدعوة، فإذا أراد أن يقوم بالأعمال الصالحة، فإنه يحرص على إتقانها وأدائها.

الحاجز الثاني أو الوهم الثاني: هو وهم الخوف، والخوف أذل أعناق الرجال، وكما أسلفت حينما يكون عند الإنسان خلل في نفسيتة يكون عنده خلل في تصوره، وإدراكه للأمور، وتخيله لها، فتجد أنه يخطئ في الحسابات، ويضخم الأمور تضخيماً مبالغاً فيه.

الخوف من الناس

فمثلاً: إنسان عنده وسواس -ولا شك أن الوسواس نوع من الخلل- فتجد أن هذا الموسوس يخاف من الكفردائماً، فيقول لأخيه: أنا قلت كذا، فهل يعتبر هذا كفر؟ فإن قلت له: لا، وأتاك بعد فترة، وقال: أتيت وكان في قلبي كذا، فهل يعد هذا من الكفر؟ تقول له: لا، وربما سألك في اليوم عشرين سؤالاً كلها تدور حول هل يعد من الكفر؟ هل يعد من الكفر؟ فنقول لهذا: أنت إنسان موصول القلب بالله عز وجل، مقبل على الله تعالى، محب لله ولدينه، حريص على تجنب الشبهة، فضلاً عن الحرام، فضلاً عن الكفر!

فكيف تحول الأمر إلى خوف في قلبك؟ لكن هذا بسبب أن عنده خلل في نفسيته، فصار عنده خلل في إدراك الأشياء وتصورها، وتخيلها ومعرفتها.

تجد بعض الناس يخاف من الطلاق، حتى إن بعضهم مجرد خاطر في قلبه يأتيه الشيطان، فيلقي عنده خاطر أنه إذا لم تتجاوز هذه السيارة تسبقها فزوجتك طالق! مجرد خاطر! فتجده يسرع بقوة حتى يسبق هذه السيارة! فإذا وصل إلى الإشارة وضع الشيطان في قلبه وَهماً أنه إذا لم ترجع من عند هذه الإشارة وتأخذ الدورة -مرة أخرى- من عند الرصيف فزوجتك طالق!

فتجد هذا المسكين يركض كالمجنون، تركض وراء ماذا؟! وعمَّ تبحث؟! مجرد أوهام يلقيها الشيطان نتيجة خلل في النفسية واضطراب، وعدم وضع الأمور في مواضعها.

هذا نموذج قد يكون واضحاً وربما يضحك البعض منه؛ لكن خذ أمثلة مشابهة، قد لا تضحك منها، تقول أنا مبتلى بها-مثلاً- الخوف من رجال الأمن، والخوف من أجهزة المخابرات، وأجهزة المباحث، تجدها ترسم بصماتها -أحياناً- على بعض الناس فيخاف من كل شيء ويقرأ الخوف في كل حركة وفي كل لفتة، وفي كل نظرة، يخاف من المباحث، ويخاف من الاستخبارات، ويخاف سواء الدول العظمى أو غيرها.

حتى يقول أحدهم وكان إنساناً أخطأ فهرب، فيقول معبراً عن هذا المعنى بالضبط يقول:

لقد خفت حتى لو تمر حمامةٌ          لقلت عدو أو طليعة معشرِ

فإن قيل خيرٌ قلت هذي خديعةٌ          وإن قيل شرٌ قلت حق فشمرِ

أي: إن جاء أحد يطمئنني ويقول: اطمئن الأمور على خير، قلت: هذا يخدعني، هذا مرسل ليخدعني، وإن جاءني أحد يقول: خف وأهرب، الطلب في إثرك، قلت: هذا صادق؛ ثم شمرت وركضت من الخوف.

وآخر يقول:

حتى صدى الهمسات غطاه الوهن     لا تنطقوا إن الجدار له أذن

والثالث يقول:

لو كنت أستطيع…

أن أقابل السلطان..

قلت له: يا حضرة السلطان..!

كلابك المفترسات دائماً ورائي..

كلابك المفترسات مزقت حذائي..

ومخبروك دائماً ورائي..

أنوفهم ورائي..

عيونهم ورائي..

آذانهم ورائي..

كالقدر المحتوم كالقضاء

يستجوبون زوجتي…

ويكتبون عندهم أسماء أصدقائي.

والرابع الذي يقول:

إن هناك مخبراً يدخله مع الشهيق، ويرسل التقرير مع الزفير كما يقول.

وهذا شاعر، ومن عادة الشاعر أنه يحب المبالغة، وليس بالضرورة أنه يعيش هذه الأوهام، لكن هو يصور حقيقة إنما بالغ في تصويرها، ولكن هذه المبالغة تتحول إلى إحساس حقيقي عند بعض المرضى وبعض المصابين، فتجد أنه يخاف من كل شيء، ولا يعمل شيئاً.

تخايله الأوهام دائماً وأبداً، وبالعكس تجد أحياناً دولاً أو مسئولين في دول أو شخصيات، تجده يخاف من الناس، يخاف من شعبه ويفسر كل حركة، وكل خطوة، ولكل سكنة، وكل محاولة، وكل شيء بأنه ضده، وأنه المقصود منها، فتجده يواجه هذا، ويحارب هذا، ويفرق المجتمع، ويجمع المتفرق، ويقوم بحركات تنبئ عن الخوف.

فهذا الخوف: هو في كثير من الأحيان، عبارة عن وهم نفسي، وليس حقيقة واقعة، وبالتالي يتصور أنه يستطيع أن يؤذي الناس أو يبطش بهم أو يشكل أو يكمم الأفواه وما أشبه ذلك، ولكن هيهات!!

وهذا ما يسمى -أحياناً- بعقدة المؤامرة التي توجد لدى الفرد أو الجماعة أو الدولة، وهو: شعورك بأن كل شيء مؤامرة، ومخطط ضدك، أو ضد هذه الدولة أو ضد الإسلام، أو ضد جماعة بعينها، نعم نحن ندرك بأن هناك مؤامرات، ويجب أن نعرف الواقع، ونعرف حجم عدونا، ونعرف كيف يفكر، وكيف يعمل، وحتى لا نبالغ، فنحن في أحيان كثيرة نتكلم عن مؤامرات الأعداء، ونشخصها، وقبل أيام كان لي درس عن وسائل المنصرين، وسأتحدث عن هذا الموضوع أيضاً مرات أخرى.

وهناك فرق بين أن تدرك الواقع على طبيعته، وبين أن تضخم هذا الواقع حتى يتحول إلى عقدة عندك، فتتصور أن كل شيء وراءه مؤامرة، حتى لو كان شيئاً صالحك تخيلت أن وراءه مؤامرة فتوقفت عنه، مثل إنسان يقدم له طعام جيد، فيقول: يمكن أن يكون في هذا الطعام شيء. إذن لا داعي لأكله، فيتركه خوفاً أن يكون وراءه شيء، فيحرم نفسه بذلك من خير قد أتيح له.

وينبغي أن تدرك أن الأعداء وأن أجهزة المخابرات العالمية مثل الـ c.i.a هذه المخابرات الأمريكية، أو الموساد الإسرائيلية، أو المخابرات الروسية أو أي جهاز مخابرات في العالم، بل الدول بنفسها تعتمد على ما يسمى بالحرب النفسية، حرب التخويف والتضليل وإلقاء الرهبة في نفوس الشعوب، حتى تجد أن الواحد ينهزم قبل أن يخوض المعركة؛ لأنه يشعر أنه ضعيف لا يملك شيئاً، في حين أنه يواجه عدواً مدججا يملك كل شيء، ولعلكم تعرفون على سبيل المثال أفلام الرعب التي تعرض الآن في التلفاز، أو في الفيديو، وأكثر من يشاهدها الأطفال من مسلسلات الرعب، التي تغرس في نفوس الأطفال المخاوف، حتى إن أحد المستشفيات استقبل في أسبوع أكثر من أربعين حالة نفسية لبعض الأطفال بسبب فيلم أو مسلسل عرض في التلفاز.

والكتب التي تتكلم عن التجسس والجاسوسية وأعمال الجاسوسية تعد بالآلاف، بعضها حقيقية، وبعضها خيالية، ولكن ربما بعض الوكالات تقوم بالتأليف عن نفسها من أجل أن تضخم حقيقتها في نفوس الشعوب لأن الخوف - أحياناً - يريحهم من أشياء كثيرة.

فإذا كان مجرد الخوف منعك من العمل، ومنعك من المشاركة ومنعك من الإقدام، فلا يحتاجون بعد ذلك إلى شيء آخر، وهم يعتمدون على التهويل والمبالغة.

ويقومون -أحياناً- بتسريب بعض المعلومات والأخبار غير الصحيحة من أجل الحرب النفسية.

وأقرب وأوضح مثال: اليهود، الآن هناك عشرات الكتب تتكلم عن اليهود: القوة الخفية في العالم، اليهود الذين يملكون الاقتصاد، ويملكون الإعلام، ويملكون أمريكا، ويملكون روسيا، واليهود الذين يملكون التصنيع، حتى تصور البعض أن اليهود وراء كل عمل، وسبب كل شيء وأن أمريكا دمية بيد اليهود، وكذلكروسيا والعالم كله كذلك.

وبناءً عليه فلا داعي أن نواجه اليهود، وليس هناك أمل في الانتصار عليهم! إذاً: لماذا لا تفترض أن هذه الصورة الوهمية الخيالية المبالغ فيها أن اليهود هم الذي سعوا إلى رسمها في نفوس المجتمع حتى يبقوا خائفين؟

ولا شك أن الخوف بداية الهزيمة، خاصة إذا تصورنا أن اليهود عندهم خطط ناجحة في الحرب النفسية، في مجال الإعلام والمخابرات، فلا غرابة أن يخططوا لمثل ذلك، لكن تصور أن اليهود يتحكمون في كل شيء هذا وَهم! والأمر كما قال أحد الكتاب: اليهود لا يصنعون الأحداث ولكنهم يستغلونها، فهم أعجز من أن يديروا كل شيء، ويعملوا كل شيء، لكن عندهم قدرة على استثمار الأحداث -بقدر الإمكان- لصالحهم، وهذا لا ينكر، واليهود لديهم قوة ولديهم قدرة، ولديهم تغلغل في أمريكا وفي روسيا وفي عدد من البلاد، وأعطاهم الله بعض التمكين.

لكن مع ذلك أقول: الصورة التي ترسم في أذهاننا هي في كثير من الأحيان صورة خيالية ومبالغ فيها عن حقيقة القوة اليهودية.

ومثل ذلك قصص التعذيب، فكثير من الشباب -شباب الدعوة- أول ما يبدأ في القراءة، يقرأ -مثلاً- كتاب البوابة السوداء ، في الزنـزانة لماذا أعدم سيد قطب وإخوانه في غياهب السجون؟ وعشرات الكتب التي تتكلم عن سجون جمال عبد الناصر وألوان التعذيب أو السجون الآن في تونس أو في الجزائر أو في أي بلد آخر.

فالشاب الذي هو في أول حياته لم ينضج بعد، ولا يزال غضاً طرياً نشأ على هذه المعاني، وعلى هذه المفاهيم، فولد عنده رعب وخوف ونشأ على نوع من الضعف والهزيمة، فأصبح مثل الشجرة التي نشأت في الظل، ليس فيها قوة واخضرار ونماء، تجد فيها صفرة وفيها ضعف، خاصة إذا كان هذا في أول عمره وتربى عليه، وأكثر من قراءته، فالغالب أن هذا يحدث عنده أثراً سلبياً.

إذاً لا بد من تحطيم هذه المخاوف، وهذه الهيبة، والحديث بصورة معتدلة عن كل هذه الأمور.

ولماذا لا نتحدث الآن عن سقوط أمريكا؟ وقد ظهرت الآن كتب ودراسات وتحقيقات علمية، عن بداية سقوط أمريكا، ليس بأقلام علماء ومشايخ وكتاب مسلمين بل بأقلام أمريكان.

ومن آخر هذه الكتب وأخطرها وأكثرها شهرة كتاب اسمه: صعود القوى العظمى وانحطاطها، يتكلم عما جرى للاتحاد السوفيتي ويقول: إن السُّنة ماضية، وأمريكا تسير على الأثر، ثم رصد عدداً من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والعسكرية التي تؤكد أن أمريكا سوف تتفكك وتنهار، بطريقة أو بأخرى كما انهارالاتحاد السوفيتي.

فلماذا لا نتكلم عن هذا المعنى؟ حتى نـزيل الرهبة الموجودة في نفوس البعض، والذين يتصورون أن أمريكا تستطيع أن تفعل كل شيء، وأنها تهيمن على كل ما يقع في هذا الكون، حتى تحولت إلى شبح رهيب ليس في نفوس البسطاء والسذج! بل في نفوس الساسة أحياناً!! وفي نفوس المفكرين! وفي نفوس الصحفيين والإعلاميين!

ولعلكم تسمعون وتقرءون كيف يتكلمون عن هذه القوة التي يقدسونها! ويسبحون بحمدها! ويضفون عليها من أوصاف الجلال والقوة والقدرة والهيمنة شيئاً لا عهد للتاريخ بمثله، لماذا لا نحطم هذه الهيبة بالكلام عن سقوطأمريكا؟ هذا السقوط الوشيك، بعد خمس سنوات، أو عشر سنوات الأمر يسير-إن شاء الله-!!

لماذا لا نتكلم عن سقوط اليهود سواء من خلال الأحداث الواقعية، أو من خلال النصوص الشرعية؟ لماذا لا نتكلم عن ضعف البشر؟ وأن جميع أجهزة البشر وإمكانياتهم مهما بلغت في القوة والدقة فهي ضعيفة؟!

ولو أردت أن أحدثكم في هذا الموضوع لفعلت -ولكن ليس هذا هو الموضوع- المهم: أن نثبت أن البشر ضعاف ومهازيل، ويفوتهم الكثير وتنطلي عليهم أمور كثيرة جداً وأنهم لا يدركون إلا القليل، وحتى هذا القليل الذي يدركونه قد لا يدركونه تماماً وعلى حقيقته بل يدركون شيئاً منه: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7].

وبالمقابل لا بد من تعظيم الله عز وجل: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:14] الإيمان بوعد الله تعالى ولقائه، واليوم الآخر الذي تعد الدنيا كلها وما فيها بالنسبة له كقطرة في بحر، الإيمان وتعظيم رسل الله عز وجل ومحبتهم والإيمان بما جاءوا به، وتصور وتذكر الموت الذي يهون عليك كل شيء، وهو السبيل إلى الدار الآخرة، والإيمان بقضاء الله تعالى وقدره، كل هذه المعاني إذا تربى عليها الإنسان، وأدركها بنفسه إدراكاً صحيحاً، اعتدلت عنده الأمور، وأصبح يدرك الأمور على حقيقتها بلا مبالغة.

الخوف من الفشل

من ألوان الخوف وهو نوع من الحيل النفسية:

الخوف من الفشل، فتجد الإنسان لا يقوم بأي عمل، يقول: أخشى من الفشل! أقترح عليك أن تقوم تلقي كلمة، قال: أخاف أن أخطئ باللغة أو آتي بكلمة مضحكة فيسخر الناس مني ثم بعد ذلك لا تقوم لي قائمة!

لماذا لا تفتح مؤسسة تجارية تستفيد منها ويستفيد من ورائها المسلمون؟ قال: أخاف من الخسارة.

إذاً هذا الخوف يمنع الإنسان من أي عمل، وبناءً عليه يجب أن تدرك أن أي عمل في الدنيا يتطلب قدراً من التضحية، وقدراً من المغامرة.

فالعمل التجاري خاصة إذا كان عملاً مدروساً قد يفشل فعلاً، لكن كم نسبة فشله؟ قد تكون (10%)، وهذه النسبة لا يلتفت إليها، ثم لو حصل الفشل فالنتيجة: ربما تخسر عشرة آلاف ريال، أو خمسة عشر ألف ريال، أو عشرين ألف ريال فقط! وتستطيع أن تسددها، وليس معنى الفشل أنك خسرت الدنيا والآخرة، ولذلك تفكر بقدر إمكانياتك، لا تفكر تفكيراً خيالياً.

والكلمة التي نطالبك أن تلقيها أمام الناس، تقول: يمكن أن أخطئ، فإذا أخطأت سيكون ماذا؟ سأستحي وأخجل، لكن هذا الخجل سينتهي خلال يوم أو يومين، وتمتنع عن الكلمة أسبوعاً، ثم في الأسبوع الثاني ربما تكررالمحاولة، ولا تعود إلى الفشل بإذن الله تعالى، ومع ذلك نقول: ينبغي أن تحتاط وتضبط الكلام، وتعده إعداداً جيداً حتى تطمئن -إن شاء الله- أنك لن تخطئ، وإن كان خطأً فسيكون خطأً يسيراً ويمكن أن يحتمل -مثل أن يكون خطأ في اللغة-.

حتى لو تصورت السباحة، كم شخصاً لا يجيد السباحة؟ ولماذا؟ وهي عملية بسيطة لا تحتاج إلى جهود ولا إلى تعب.

فإن الحيوانات تسبح -تلقائياً- إذا وضعت في الماء، لكن تجد الإنسان؛ لأنه تعلم الخوف تجده يخاف ولا يسبح لأنه يخاف من الغرق، وبهذا الخوف توقف عن أي عمل إيجابي ومثمر.

إذاً فلا بد أن تعمل أعمال الخير؛ بل أعمال الدنيا المطلوبة منك باجتهادك، ولأن تعمل باجتهاد ويتبين لك فيما بعد أن هذا الاجتهاد مرجوح خير من أن تقعد ولا تعمل، الذي يعمل ويخطئ أحب إلينا من الذي لا يعمل أصلاً، فكونك تأمر بالمعروف ثم اكتشفت أنك أغظت هذه المرة في الأمر بالمعروف، أنت أحب إلينا من الشخص الذي لم يأمر بالمعروف، خاصة إذا كان الإغلاظ بقدر معقول، لأنك استفدت درساً من الإغلاظ هذه المرة، فالمرة الثانية سوف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالحسنى، والحكمة، والكلمة الطيبة، ولن تغلظ لأحد بقول ولا فعل، لكن ذاك الإنسان الذي لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر قد قصر في أصل الواجب، وأنت مطالب بأن تعمل وتصحح وتواصل، ولا تقف عند الخطأ، بل صحح الخطأ وواصل.

ولو تأملت القرآن والحديث لوجدت أن ترك العمل وخوف الفشل من سيما المنافقين، فإياك أن تكون منهم: الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168] فإذا خضنا معركة وقتل منا من قتل، جاء أحد، وقال: قتل هؤلاء ونـزفت دماءهم! لوأطاعونا وجلسوا في بيوتهم ما قتلوا: قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ [آل عمران:168].

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره

قتل هؤلاء في المعركة شهداء في سبيل الله، كم يموت ويقتل في سبيل الطاغوت؟ كم يقتل في سبيل الدنيا؟ كم يقتل من مهربي المخدرات؟ وكم يقتل وكم؟! أعداد غفيرة من الناس، ثم كم يموت بالمرض؟ وكم يموت بالجوع والعطش والعري والبرد والحر؟! أعداد غفيرة من الناس، فلماذا تستكثر أن يموت في سبيل الإسلام بضعة أشخاص أو مئات أو ألوف ولا تستكثر أن يموتوا في سبيل الدنيا؟

فإن الموت حتماً على كل إنسان.

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره

لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا * لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:153-154] نحن لم يكن رأينا الخرج إلى المعركة، كان رأينا أن نجلس في المدينة فلو أن الرسول صلى الله عليه وسلم استشارنا ما قتلنا هاهنا: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154].

إذاً: المؤمن بالقضاء والقدر لا يأتي دائماً وأبداً ويقول: لو.. ولو…!! ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال في نفس الحديث الذي سقته سابقاً حديث أبي هريرة: { لا تعجز} فهناك عن العجز، ومن أسباب العجز الخوف من الفشل.

ولذلك قال:{وإن أصابك شيء -أي عملت ووقع عليك شيء- فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان }.

من صور الخوف أيضاً: الخوف من النقد والتبرم به، فالكثيرون من الناس يمتلكون حساسية مفرطة شديدة، لا يحب أن يسمع كلمة نقد، وإذا انتقد يحس بأنه اختل توازنه ويتمنى أن تنفتح الأرض لتبتلعه خجلاً، أو تجد بعض الناس يستكبر على النقد، ويتعجرف على أن يسمع، مع أن الواقع أن الإنسان إذا قام بعمل فهو عرضة للنقد، ولهذا قالوا: من ألَّف فقد استهدف، أي أنك إن كتبت كتاباً وقدمته للناس فسيقرؤه مئات أو ألوف، فهذا أعجب بالكتاب، وهذا لم يعجبه، وهذا أعجب به ولكن عليه بعض الملاحظات، كل هذا شيء طبيعي.

وحينما تلقي درساً أو محاضرة، سيقول هذا زاد، وهذا نقص، وهذا أخطأ، وهذا لحن، وهذا أفرط، وهذا فرط... إلى آخره، وهذا شيء طبيعي، فأنت عندما تقوم بأي عمل ضع في اعتبارك أنك عرضة للنقد، حتى الأعمال الدنيوية كالتجارة، سيقول لك أحدهم: والله يا فلان لو كان المتجر في المكان الفلاني لكان أفضل! وآخر يقول: العامل الذي وضعته هنا غير مناسب، أخلاقه سيئة، وغير مأمون!

إذاً فأنت عرضة للنقد، فينبغي أن يكون لديك استعداد للعمل واستعداد لتقبل النقد، واستعداد للتصحيح -أيضاً- لأن الناقد -كما يقول بعضهم- يفترض الكمال فيما قلت أو فيما فعلت، ولهذا يطالبك بالمزيد.

ولهذا قال الشاعر حتى عن خصومه:

عداتي لهم فضل علي ومنة     فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا

همو بحثوا عن زلتي فاجتنبتها     وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

ما رأيك في إناء تشترك في غسله أيادٍ كثيرة من أيدي الأصدقاء والأعداء، لا بد أن يتنظف هذا الإناء ولو بعد حين.

ومن ألوان الخوف: الخوف على المكاسب:

فهذا موظف كسب في وظيفته مستوى معيناً، أو رتبة معينة، فـتجده لا يحاول أن ينتقل إلى إدارة أخرى، لأنه يخاف على بعض المكاسب التي حصل عليها من إدارته، فيقول أنا أقمت علاقة جيدة مع الرؤساء، فربما لو انتقلت إلى إدارة أخرى قد لا يحصل هذا!

فهذا قد يقع، لكن -أحياناً- تجد أن هذا الخوف قد يحول بينك وبين عمل أفضل لك.

كذلك التاجر إذا اقترحت عليه الانتقال إلى عمل تجاري أمثل وأفضل خاف! حتى بائع المسامير في السوق، لو تأتي وتقول له: يا فلان أنت تتاجر بالمسامير! الناس الآن بنت الدور وملكت القصور، وأنت رجل عندك عقل وتفكير وكذا... فيتصور هذا الإنسان أنه لو ترك بيع المسامير أنه سوف يموت هو وأولاده جوعاً، لأنه حصل على كسب بسيط، وهو يخاف على هذا المكسب أن يضيع!

مثله داعية قام بعمل طيب لكن هذا العمل محدود، مثلاً أقام مكتبة، ونشط في هذه المكتبة، وهدى الله على يديه أفراداً من الحي، فتقول له: يا أخي أنت ليس من حقك أن يهدي الله على يديك خمسة أو عشرة، أنت من حقك أن تخاطب بلداً أو أمة بأكملها، قال لك: نعم، لكن عندي هؤلاء العشرة، وهؤلاء أخاف عليهم أن يضيعوا، ليس لهم أحد غيري.

فالخوف على هذا المكسب تسبب في أنه يفوت على نفسه خيراً أكبر وأعظم، قد يكون هو قدره، قد يكون هؤلاء الأفراد هم الحجم المناسب لإمكانياته، لكن أحياناً قد تجد الإنسان يمتلك مواهب أكبر وأوسع وأكثر وقدرات وإمكانيات قد أهدرها وضيعها، لأنه ارتبط بهذا الواقع أو هذا الوضع، فصار يخشى على هذا المكسب، وهو مكسب حقيقي ولكنه محدود.

فهذا يمكن أن يقوم به إنسان آخر أقل منه موهبة، فخسرنا بذلك وخسر هو أموراً أكبر لماذا؟ لأنه دائماً يمد يداً قصيرة، وهو يحامي دون هذه المكاسب ويخاف عليها، ولذلك كلما قيل له تعال إلى هذا الميدان، قال: لا، أنا أخاف على فوات بعض ما كسبت.

فلا بد من كبر الهمة وعلوها وحسن الظن بالله تعالى، والعوام يقولون في أمثلتهم: قل خيراً يقله الله عز وجل، ونحن لا نقول هكذا، لكن نقول كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي وهو صحيح: {أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء} فَظُنَّ بالله خيراً.

واعتقد أن الله سفتح لك أبواب الخير، متى ما كبرُت همتك، واتسع نطاق تفكيرك، وانتقل من مكسب إلى مكسب، ومن نصر إلى نصر أكبر منه، ولا تقف عند حد معين وتقول: هذا يكفيني.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 4998 استماع
حديث الهجرة 4957 استماع
تلك الرسل 4139 استماع
الصومال الجريح 4136 استماع
مصير المترفين 4074 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4040 استماع
وقفات مع سورة ق 3966 استماع
مقياس الربح والخسارة 3919 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3857 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3818 استماع