يَقولونَ: لَيلاكَ بِنتُ العِراقِ مَريضَهْ |
وَأَينَ الطَّبيبُ اللبيبْ |
وَراءَ الفُراتِ يُداوي الحَبيبْ..؟ |
• |
وأسطورةُ المكرماتْ |
وموطنُ كلِّ فؤادْ |
وَجَوهَرَةُ المُدُنِ الخالِداتْ |
بِعِقدِ المَدائِنِ..! بَغدادُ أُمُّ البِلادْ..! |
تَفَحَّمَ أَثداؤها في أَتونِ الدَّمارْ |
وَصارَ حَليبُ الصِّغارْ |
دَواءُ الصِّغارِ، سُخامْ |
فَحَيثُ تَجولُ العُيونُ رَمادْ |
وَحَيثُ تَجولُ العُيونُ حُطامْ |
وَأَشرِعَةٌ مِن ظَلامْ |
تغطي حقولَ القَتادْ |
وَلَيلٌ طَويلٌ يَمُرُّ على البؤساءْ |
دُهوراً يَمُرُّ ولا من نجاءْ |
ظَلامٌ يَطوفُ يُغَطّي سَوادْ |
وَمَوّالُ حُزنٍ عَميقْ |
يُرَجَّعُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ سحيقْ |
يُفَتِّتُ صُمَّ الصِّفاحْ |
يطوف الربى والبطاحْ |
يُحَلِّفُها بِقَديمِ الوِدادْ: |
أَلَيسَ لِلَيلِ العِراقِ صَباحْ..؟ |
• |
وشرذِمَة جُبِلَتْ من خسيسِ الطِّباعْ |
تنصّلَ منها الخنازيرُ كِبراً، ترفّعَ عنها الضّباعْ |
من الحاقدين لُصوصِ الشُّعوبْ |
تُعِدُّ النيوبْ |
لِتَمزيقِ ما قَدْ بَقي مِنْ لُحومِ الجِياعْ |
وما زالَ يَطرُقُ آذانَنا كلَّ حينٍ نُباحْ |
ويوقظنا كُلَّما غَطَّ في النَّومِ جَفنٌ قَريحْ |
وَيَتبَعُهُ مِن بَعيدٍ فحيحْ |
عويلٌ صياحْ |
وتلطمُ أبواب صمتِ البيوت الرياحْ |
لتحمل من خلفها بعضَ حشرجة ونواحْ |
وَذُعراً يَجولُ وَيَركُضُ في كُلِّ دَربٍ مساءَ صباحْ |
• |
يَقولونَ: لَيلاكَ بِنتُ العِراقِ مَريضَهْ |
وأَلفُ استِغاثَةِ أُختٍ سِواها |
خلالَ القبورِ تناجي الإلهَ |
وتندبُ معوِلَةً لا تكفّ ولا تستريحْ |
تنادي فتاها.. أخاها.. أباها |
وزوجاً ثوى معهم في ضريحْ |
وَأَلفُ استِغاثَةِ أُمٍ تصيحْ |
تُذيبُ القُلوبْ |
تصمُّ مَسامِعَ كَونٍ فَسيحْ |
وَما مِنْ مُجيبْ |
وَأَلفُ استِغاثَةِ شَيخٍ جريحٍ كَسيحْ |
مُقَطَّعَة بِأَنينِ التَّوَجُّعِ تَعلو تَسيحْ |
تَجوبُ المَدى وَتَرِنُّ بأُذْنِ السَّماءْ |
وَقَد تَضمَحِلُّ عَياءْ.. |
تَضيعُ سُدىً في أَخاديدِ وادي الفَناءْ |
وَليسَ سِوى الصَّمتِ وَالرّيحِ مَنْ يَسمَعانِ النِّداءْ |
• |
يقولونَ: شَعبُ العِراقِ جَريحْ |
وأين الطبيب النصوحْ |
ومُهْرُ الشّهامة فينا مُدَمّىً طريحْ |
قتلنا الإباءَ قتلنا الضميرْ |
ورحنا نخوض بوَحلِ الضّلالْ |
عقولٌ خِفافٌ همومٌ ثِقالْ |
وأعدادنا كالنّمالْ |
مُصِمّين آذانَنا لا نبالي لصوتٍ نَصوحْ |
ولمْ نكترِثْ أينَ يُفضي المسيرْ |
ولم نسأل المرشدين متى سيُطِلُّ البشيرْ..؟! |
متى سوف ينبثِق النورُ هل سنرودُ وميضَهْ..؟! |
ولو كان في دمنا قَدْرُ خَرْدَلَةٍ غَيرَةً وانفعالْ |
ومن نخوةِ الشرفاءِ جناحُ بعوضهْ |
وشيءٌ من الكبرياءْ |
وبعضُ إباءْ |
لما قادنا كالنعاجِ عَدوٌ غَشومْ |
فأثكلَ أماً وأضنى يتيمْ |
وأشقى الكريمَ الحليمْ |
أذَلّ القُرومَ أهانَ الحَريمْ |
وأخرجَنا من نعيمٍ مُقيمْ |
إلى شَظَفٍ وجحيمْ |
• |
وقد أقسمَ المارقون بأنا سنشبعُ ذُلاّ |
سنبقى على عجزنا المستديمْ |
ولو رجعَ الشيخُ طِفلا |
ورُدَّ الصِّبا للعجوز كما كانَ قَبْلا |
وعاد إليها الفتون الذي قد تولّى |
وعادتْ تداوي السقيمَ الكَليمْ |
وتُردي السليمْ |
سنبقى على عجزنا المستديمْ |
مع الوَحْلِ تحتَ الصخورْ |
مع الخوفِ بين القبورْ |
مع الدود في النَّفَقِ الضّيِقِ |
ولو غابت الشمس في المشرقِ |
وحلَّ الشروقُ محلَّ الزوالْ |
وكَرّت فحولُ الجِمالْ |
وما لا يُعَدّ من الأينُقِ |
وأفيِلَةٌ جَمّةٌ عبرَ سَمِّ الخِياطِ |
بكلِّ نشاطِ |
بلا مُغرياتٍ ودونَ سِياطِ |
سنبقى على عجزنا المستديمْ |
ولو قامَ أهلُ المقابرِ من ماتَ أمسِ ومن هلكوا من قديمْ |
وأصبح كلُّ مُحالْ |
وما لا نراه بعين الخيالْ |
من المنطِقِ |
سنبقى على عجزنا المستديمْ |
سنبقى نيامْ |
بلحد التقهقر.. لن نرتقي |
ولن نستطيعَ القيامْ |
ألِفنا الركوعَ ألِفنا الخنوعْ |
ألِفنا الظلامْ |
فكيفَ نقومْ..؟! |
وكيف نواري تشوه أرواحنا عن عيون الأنامْ..؟! |
سيبقى يلاحقنا العارُ حتى يدق الحِمامُ العظامْ |
وتغدو الجسومُ رميمْ |
• |
دفنّا الحَمِيَّةَ في جدَثِ المعتصِمْ |
فمن هتفتْ باسمِهِ أمسِ نامتْ بحضنِ الخيالْ |
قريرةَ عينٍ وبالْ |
وثغرٍ كسَوسَنَةٍ مُبتَسِمْ |
لقد أنجدتها مروءَةُ خيرِ الرجالْ |
بخيرِ زمانٍ تَغنّى به الدهرُ زيَّنه بعظيمِ الفِعالْ |
فمن مُنجدٌ أخواتٍ لها اليومَ من دنَسِ الإحتلالْ..؟ |
وفي زمنٍ أجردٍ من مَجيدِ الخِلالْ |
بغيضٍ قبيحٍ خبيثٍ يعضّ الكِرامَ لكَي ينتقِمْ |
ولا خيرَ يُرجى منَ الناس فيهْ |
ويا ليتنا لم نكن من بَنيهْ |
نفوسٌ مريضَهْ |
أمانٍ عريضَهْ |
وكِبرٌ وتيهْ |
وألسنةٌ للنزالْ |
سيوفاً رماحاً طِوالْ |
فنحن جميعاً نُجيدُ الكَلِمْ |
ونخشى الفِعالْ |
• |
هجرنا النضالْ |
أضعنا عظيمَ الخِصالْ |
بتيهِ الضلالْ |
تخلى الجميعُ عن المكرُماتْ |
شَرَوا إرثَهُمْ من حميدِ الصّفاتْ |
بِبَخسٍ من التّرّهاتْ |
فلا ندفعُ الضّيمَ عمّنْ ظُلِمْ |
وليس بساحاتنا مِنْ نصيرْ |
لمن جاءنا يستجيرْ |
يناشدنا بالرحِمْ |
• |
فيا أيها العربيّ |
لقد كنتَ يوماً شجاعاً كريماً أبيّ |
وترعى الذمامَ وتحمي الذِّمارْ |
ولكنك الآن خنت العشيرةَ خنت الدّيارْ |
تخليتَ عن كلّ شَيّ |
فمعذرةً يا ابن عمّيَ معذرةً يا أُخَيّ |
فلو صُنتَ بعضَ طباعِ جدودِكَ لم أنتقصْكَ ولم أتّهِمْ |
أَلَمْ ترَ أنّا حنَينا الرؤوسْ |
أهَنّا النفوسْ |
حملنا المذلةَ فوق الظهورْ |
لبسنا ثيابَ الخُنوعْ |
ومن مطلعِ النور رحنا نسيرْ |
نريد التحررَ مما ورثنا نريد العُبورْ |
إلى الجانبِ المُدْلَهِمْ |
نزلنا الحضيضَ الوضيعْ |
وحين أردنا الرجوعْ |
غرقنا ببحر الخضوعْ |
ولم يبقَ من بيننا من سَلِمْ |
عرينُ العروبةِ أضحى حُطاما |
وأشبالها شُرَّدٌ في البلادِ يتامى |
وماتت أواصِرُ قربى |
رعتنا دهوراً سقتنا وداداً وحُبّا |
• |
يقولون ليلاك بنتُ العراق مريضهْ.. |
ومَنذا يداوي الحبيبْ..؟ |
إذا كُنتَ أنتَ الطَّبيب القريبْ |
دماً ولساناً وروحا |
غدوتَ بعيداً غريبْ |
وَلو كانَ جُرحٌ يُضَمِّدُ جُرحا |
يُفَرّجُ همّا.. |
ويكشف غمّا.. |
ويبرئُ سُقما.. |
لأَرسلتَ وَفدَ كُلومِ الفؤادِ مساءً وصبحا |
ليُسعِفَها بِالشِّغافِ المُدَمّى |
فَمَعذِرَةً يا جِراحَ العِراقِ وصفْحا |
فَمَعذِرَةً يا مَلايينُ ذُرَّتْ أمانِيُّها في التُّرابْ |
وَأحلامُها غُرِسَتْ في خَرابٍ يَبابْ |
وَتُروى بِماءِ السَّرابْ |
فَلَيسَ لَدَيَّ سِوى الرّوحِ أَبذُلُها لِلعَطاءْ |
فِدى الضعفاءْ |
فدى البؤساءْ |
فدى المُثخَنينَ بِأَيدي النَّذالَهْ |
بأَيدٍ أَتَتْ ترفع الظلم باسمِ العدالهْ |
فزادتهمُ مِحنةً وبلاءْ |
حياتي الفداءُ لإخوَةِ روحي |
لأخوة قلبي القريحِ |
وَيرخصُ كُلُّ عَطاءٍ وَكُلُّ فِداءْ |
• |
بِأَعماقِ أعماقنا في وجيبِ القلوبْ |
ولَهْجِ اللسانْ |
سَتَبقَينَ بَغدادُ خالِدَةً كالزمانْ |
ولهفةُ آمالنا لن تخيبْ |
بكل هَصورٍ غضوبْ |
من الصامدين بوجه الخطوبْ |
من الثائرين شظىً من لهيبْ |
لطردِ العدو الجبانْ |
وردّ الأمانْ |
وَمَهما استَباحوا الدّيارْ |
وعاثوا بِأَنحائها مِن فسادْ |
فَلَن يُطفئوا لهباً للجهادْ |
زكت نارُه في الدماءْ |
بِلَيلِ العَنا فأضاءْ |
ورفرفَ بَنْدُ الفخارْ |
بجنحين من كبرياءْ |
فما أبخسَ الإنتصار |
إذا لم يُزَيّنْ رباكِ احمرارْ |
ستَبقَينَ بَغدادُ رمز كفاح الشعوبْ |
وأغلى شعارْ |
يبشّرنا بالنهارْ |
وفي دولة الحبّ أمَّ القلوبْ |
ونفدي هواكِ بِأَرواحِنا.. ما شَدا عَندَليبٌ وغنّى هَزارْ |
. |
دمشق 1999 |