أرشيف الشعر العربي

تراجيديا عربية / الفصل الأول

تراجيديا عربية / الفصل الأول

مدة قراءة القصيدة : 9 دقائق .

بيدي أشرتُ إلى التّرابِ:‏

أنا صداكَ الآدميُّ أنا وآيتكَ الفقيرهْ‏

فلأيّ طاغوتٍ تضيءُ دروبُكَ الخضراءُ؟‏

تولمُ أسْرةُ الأشياءِ مائدةَ الدّخول إلى الركوعِ المطلّقِ‏

آذنتُ لليأس العظيمِ: خذ النّشيدَ وصمتَهُ‏

وأدخل إلى الرّوح الشَّقي‏

أنا يا ترابَ القلب ميراثُ الخضوعِ،‏

أنا ممرٌّ ضيّقٌ لقوافل الأفراحِ إذ تنسابُ من‏

رحم الفضاءِ الضّيّقِ‏

ماذا تبقّى الآن؟ ينتشرون كالطَّاعون في أحداقنا‏

ماذا أسمّيهم؟ ثيابُ الحرب تطويهم‏

مزاميرُ السلاح صلاتُهم، والأرضُ رهْنُ دخانهم‏

والذكريات دخول أيديهم إلى أرحام كل الوالدات.‏

ماذا تبقّى يا حياةُ من الحياةْ؟‏

... ... ...‏

جسدي يطاردني، وأطفالي ورائي ينشدونْ:‏

يا والد الأسماء علِّمنا، فقد بلغَ الجنونْ،‏

حدّ الجنونْ...‏

جسدي أدحرجُهُ على جَبَلِ البكاءِ،‏

أعود أحمله إلى الأعلى، أدحرجه وأحمله،‏

فتخرجُ من خلاياه القبائلُ،‏

تبدأ الرحلاتُ موسمها ويمضي الراحلونْ.‏

رحلوا، ووحدي فوق جثّة قاسيونْ‏

بيدي أشيرُ إلى التّراب إلى السَّحاب: تزوَّجا،‏

هذي المدينةُ أفرغَتْ شريانها من شهوة الدَّمِ،‏

سوف تمضي جوقةُ الأمطار عنّا‏

حين ينسلخ الجنودُ عن الجدودِ‏

ويضيقُ خلف ضبابنا الشّعبيِّ تابوتُ الشَّهيدِ‏

... ... ...‏

وحدي أحَدّقُ في هلام الأرض:‏

تاريخٌ تَصَهْيَنَ نبعُه.‏

أيّ الإمارات السَّعيدة باركَتْ خبزَ اليتامى‏

في صباحهم المسيّج بالنُّعاسْ‏

من عَهْدِ (قحطان ) إلى عهد التّقنَع بالنُّحاسْ‏

هذا المكانُ متوّجٌ بنوافذٍ تتسربُ الأسرارُ منها‏

نحو هاويةٍ...‏

لهذا الرُّوحِ رقصتُهُ، اسنديني يا رؤى الأشباحِ‏

كفِّي... أين كفي؟ أين نبضُ دمي؟‏

... غموضٌ راسخٌ فينا، هواءُ القمح مسمومٌ،‏

تنفَّسْ أيّها الجسد الذي يسري مع الهذيانِ‏

كوّرْ ظلَّكَ الخشبيَّ، واسفَحْ شكلَكَ العربيَّ،‏

واقرأ في كتابِ الحرب خاتمةَ المطافْ‏

هل أرفع النُّذرَ الأمينةَ‏

والهياكلُ ملتقى لعناكبِ الطَّاغوت‏

تلتقط الفراشةَ والحمامةَ والخرافْ‏

وأنا أخافُ، أخافُ من خوفي ومن نصفي ،‏

ومِنْ روحي تئنّ وحوشُها المسترسلَهْ‏

أنا شاعرُ الميراث، منكَسر التَّواريخ انتشيتُ برغوة العبث‏

الذي طافَتْ بحارهُ في دماغي...‏

نَهْرُ هذا اليأس من قدميَّ ينبغُ.‏

يا أبا الإنجيلِ، متَّحدان نحن، فخُذْ خريفَ الجلجُلهْ‏

وارفع صليبكَ نحو مئذنتي،‏

فإني فوق خيمةِ هذه الأقوامِ منفردٌ فريدٌ،‏

بالمقابر أحتمي إذ يخذل الرّوحُ الأمينُ مباهجي،‏

وتضيعُ جوهرة التّراب، ويحضرُ الشّبحُ القديمْ‏

تهتزّ إذ يأتي رفوفُ طيورنا‏

تساقط الأثمارُ في نسلٍ من الآلام‏

آهٍ يا أبا السَّموات، وحدي‏

نافخٌ في جوف كفِّي نارَ معجزةٍ ليحترقَ الغناءُ‏

لمن أرتّبُ هذه الفوضى؟ وأنّي شاعرٌ‏

يبكي البكاءُ عليه أو تهوي السماءْ؟‏

جبلُ التَّفجُّع صاعدٌ في الرّيحِ‏

قاسيون الصَّديقُ يخبّىء الجنَّات عن شهدائه‏

وسماحة الشَّبح المقولبِ يقلبُ الآياتِ عن أسوارها‏

لتضيءَ تحت ردائِهِ‏

وتكونَ لائقةً بشمس عشيرةٍ حَشّدّتْ بنادقَها‏

وطاولَ صرحُها ريحَ الصَّهيلْ‏

وهناك أكشفُ حارساً يستنبتُ الطَّلقاتِ من أعناقنا‏

مهلاً على أشواقنا يا حارساً قصرَ الفصولْ‏

لن نحتمي بجدار قصركَ ليلةً أخرى، فلا تحزنْ،‏

بقايا نحنُ من خَدّرِ الشّعوبِ،‏

ويقظةُ الأطلالِ بعد حريقها‏

لن نرمي الأشواكَ عن هامِاتنا نحو السّقوف المخمليّةِ‏

لن نُجاهِر بالشَّقاءْ‏

مهلاً فنحنُ قبيلةُ الموتى، لكمْ طولُ البقاءْ...‏

... ... ...‏

أين اتّجهتُ بهذه الأغنيّة الحمقاءِ؟‏

عُودي يا قصيدةُ... هذه مرثيّةٌ لك،‏

لن يهبَّ نسيمُكِ اللّغويُّ ثانيةً، لأنيِّ‏

بايعتُ كلَّ الأنبياءْ‏

وجميعُهم يتجادلون على عيوني كيف تُفْقَأُ؟‏

كم رأيتْ‏

أنا كم رأيتْ‏

وكتبتُ: للأنثى وزينتِها البهيَّةِ،‏

للخمور البابليَّة،‏

للصَّلاة وراء نعش الأمة العرجاءِ،‏

للأشياءِ في باكورة العُمر الجميل،‏

لشارع الحجر القديمْ‏

وكتبتُ: للّغةِ الجديدةِ، سحرُها من خطوتي‏

ينساب يُنبوعاً خفيّاً من نسيمْ.‏

وكتبتُ: للكهفِ المقيمْ‏

في داخلي.‏

ورقصتُ في عرس القطافِ من السَّماء العاشرهْ‏

وسئمت خمرَ الأصدقاء، شتمتُ بعض الأتقياءِ،‏

تقيأتْ روحي كلاماً في هجاءِ العاهرَهْ‏

أنا كم رأيتُ، وكم كتبتُ، ولم أزلْ طفلاً بعينٍ حائرهْ‏

حتّى انكسرتُ إلى نهايات المدى‏

ورأيتُ أشلائي يقشّرها ملوكٌ يولمون الأرض فاكهةً‏

لمائدة السّوادْ‏

فأقمتُ في ذاتي، أطأطىء زهرتي وأقول:يا...‏

يا ضَيعةَ الشهداء في حرب الكلامِ.‏

فولولتْ خَلْفي نساءُ الرّوح: يا...‏

يا حسرةَ الأبناء ينتظرون عودة جدِّهم من (أورشليمْ)‏

وكتبتُ... حتّى أنَّ شيباً في جدار القلب يبزغُ‏

أو ضموراً في يد الأفراح،‏

أو قبراً تفتَّحَ في ابتهالاتي الشَّريدهْ‏

عارٌ يؤرّخني... وكيف تقومُ من عارٍ قصيدهْ؟‏

... ... ...‏

لا سرَّ بعد الآن... طوبى للخيانةِ، يا صغارُ ويا ثكالى‏

العهرُ أوضَحُ من بكاء الشمس، فلنُزِلِ الظِّلالا‏

ولتنكشفْ هذي السَّتائرُ، خلفها وطن من التَّوراةِ يُبْعَثُ،‏

أمّةٌ بجماجم الأمواتِ تعبَثُ،‏

خلفها قُبَلٌ مؤدلَجَةٌ ترسَّبَ ماؤها في نهرنا اليوميِّ‏

طوبى للوضوح أقولُ‏

يا لُغتي تهاديْ مثل موكب شاعر‏

مُزجت خلاياه بإيقاع القرَفْ...‏

غسل المغنيّ كفَّه من ناي لذّته وأعراسِ التَّرفْ‏

كل الوصايا تحت كعب السيّد الكونيِّ،‏

ألواحُ الخزَفْ‏

نُقشت عليها سيرةُ الشّهداء، باعَتْها المليكةُ في مزادٍ‏

تنحني فيه تويجات الشَّرفْ...‏

... ... ...‏

لا سرّ بعد الآن، فكرتُنا القديمةُ فحمةٌ‏

لن تستردّ الدفءَ في هذا الشتاءِ المعدنيّْ‏

إذ غابَ بستانَ الغمام،‏

وباع قصرُ البرقِ لؤلؤه لعاصفة الرّمادْ‏

وتوحَّد الرّوح الشَّقيُّ بذاتِهِ وتراجَعَ الرُّوحُ الشَّقيّْ.‏

... ... ...‏

بيدي أشرتُ إلى القوافل: أبطئي...‏

لرنينِ أجراسِ القوافِلِ أنحني حزناً،‏

يسيرُ حُداتُها متذمّرين من الغبارِ،‏

أقولُ ليس غبارُكُمْ ذهباً، هو الكيمياءُ تنفُثُ سِحْرهَا‏

والطاَّئراتُ تهزّ أشجارَ الصَّلاةِ، فأبطئي...‏

الأفقُ فارغةٌ يداهُ من النّجومْ‏

ومغارةُ الأسطورة الأولى غزاها العنكبوتُ‏

وليس من نصٍّ يضيءُ سقوطنا العَلَنيَّ،‏

هذا ليسَ من لغةٍ،‏

وهذا ليس لعنةَ جدِّنا المشبوهِ،‏

هذا مستطيلُ الهاويةْ‏

فتقدَّمي يا خيلُ، يا أبراجَ تَمْرٍ يعربيٍّ،‏

يا عيونَ مها الفراتِ‏

ويا بنات الكاظمية‏

يا عجائزَ مكَّةَ الأولى‏

سيكبَرُ مستطيلُ الهاويةْ‏

فتقدَّموا.‏

يا خالق الأحجار قرب دمار بيتكَ‏

يا مُعِيدَ العمر من بدء الضَّياعْ‏

يا هيكَل الإيقاع، يا لغةَ الصّراعْ‏

لا تقنطوا من رحمة الأعداءِ،‏

سوف يشّوهون سماءّنا النَّجميَّةَ الأبعادِ،‏

لكن لن يمدّوا في انهيار الحلم جسراً...‏

سوف ينتقلون من سرٍّ إلى علنٍ،ومن ورقٍ إلى وطن،‏

ولكن لن نراهم خارجَ الغُرفِ البعيدةِ عن أغانينا...‏

ولا... لا تقنطوا من طعنة العشّاقِ،‏

عرشُهُمُ المزيَّنُ بالجماجمٍ سوف يُسْقِطُ‏

في جموع الجوعِ تفّاحاً من الكلماتِ،‏

هل ننسى بأنَّا ذاتً معركة خسرْنا ربَّنا‏

لتفوز أنهارٌ بشطآنِ الأَبَدْ‏

أبدٌ... أبدْ‏

وأنا هنا ولدٌ يسيرُ على رماد الحبِّ، حافيةٌ أصابعهُ‏

وعاريةٌ رؤاهُ،‏

كان يأتي في غزال الحلم،‏

أغلقت الحدائق عطرها وتمايَلَتْ سكرى على‏

سُورِ الدّفاع عن الأفاعي...‏

يا ولّدْ‏

عد نحوَ أمّكَ، هذه أرض الخَزَرْ‏

عد نحوَ مهدكَ وارم من يدك القَمَرْ‏

مستنقعُ الثورات نحنُ، ونحن جسرُ الغيم محمولاً‏

على حَجَرَينْ كانا تائهيْنِ عن الحَجَرْ‏

الأرضُ والقمحُ المقدَّسُ، والتّراثُ المخمليُّ،‏

ومهرةُ الرَّغباتِ... هذا كلّه زبدٌ، زبدْ‏

عُدْ يا ولدْ‏

ضاعَ البلدْ‏

...‏

... ... ...‏

بيدي أشرتُ إلى البلادِ،‏

وتلكَ طائفةٌ من الهذيان تسحبُني إلى أوكارها‏

مدَّدتُ أعضائي على حَبْلِ الغسيلِ، رأيتُ حبلَ المشنَقهْ‏

خاطبتُ ربَّ اللذَّة الخرساء عن ميعاديَ البحري، حطَمَ زورقَهْ‏

ووضعتُ أنفي في ركام العطرِ،‏

كانتْ حلمةُ الأنثى تنزّ مشقَّقَهْ‏

ما كان لي صوتٌ ليقطفَهُ غنائي‏

أين أُخْفي كلَّ هذا اليأسِ؟‏

لولاه رقصتُ على الذَّهَبْ‏

وحشوتُ ظلَّ الطِّفل فاكهةً وحلوى،‏

أو رميتُ على مخيَّمه اللّعَبْ‏

لولا انهمارُ اليأس من أكتاف هذا العمرِ... لا،‏

لا، لستُ خاتمةً لأصقاعِ البلاد،‏

خذي سوايَ فلنْ أمددَ جرحيَ الأبديَّ فوق الطَّاولَةْ‏

لا، لستُ حنجرةً لمنْ باعَتْ أساورها أمامي‏

واستقالتْ من هيامي،‏

وأنا نبيٌّ، لا إلهٌ في نهاري‏

والشّوك أغلَقَ باب غاري‏

وحدي أضاجعُ حلمي العاري، وآكلُ من غباري...‏

بيدي أشيرُ إلى المكانْ:‏

هل مِنْ هنا مرّتْ قوافلُهم؟ وهل كذبَتْ أساطيرُ الرجوعِ‏

وأوقفَتْ نبض الرهانْ؟‏

أم جفّ نعناعُ الضَّمائر، وانتشى حقلُ الزّؤانْ.‏

مَنْ سوف يسندني إذا لأرجَّ أدمغةَ الزّمانْ؟...‏

... ... ...‏

اخترنا لك قصائد أخرى للشاعر (علاء الدين عبد المولى) .

قيثارة الفجر والجسد

تراجيديا عربية / الفصل الأول

تراجيديا عربية - فصل ما بعد النهاية-

آدم... ووقت للردة

أول الشروح على متن جسدها


مشكاة أسفل ٢