بيدي أشرتُ إلى التّرابِ: |
أنا صداكَ الآدميُّ أنا وآيتكَ الفقيرهْ |
فلأيّ طاغوتٍ تضيءُ دروبُكَ الخضراءُ؟ |
تولمُ أسْرةُ الأشياءِ مائدةَ الدّخول إلى الركوعِ المطلّقِ |
آذنتُ لليأس العظيمِ: خذ النّشيدَ وصمتَهُ |
وأدخل إلى الرّوح الشَّقي |
أنا يا ترابَ القلب ميراثُ الخضوعِ، |
أنا ممرٌّ ضيّقٌ لقوافل الأفراحِ إذ تنسابُ من |
رحم الفضاءِ الضّيّقِ |
ماذا تبقّى الآن؟ ينتشرون كالطَّاعون في أحداقنا |
ماذا أسمّيهم؟ ثيابُ الحرب تطويهم |
مزاميرُ السلاح صلاتُهم، والأرضُ رهْنُ دخانهم |
والذكريات دخول أيديهم إلى أرحام كل الوالدات. |
ماذا تبقّى يا حياةُ من الحياةْ؟ |
... ... ... |
جسدي يطاردني، وأطفالي ورائي ينشدونْ: |
يا والد الأسماء علِّمنا، فقد بلغَ الجنونْ، |
حدّ الجنونْ... |
جسدي أدحرجُهُ على جَبَلِ البكاءِ، |
أعود أحمله إلى الأعلى، أدحرجه وأحمله، |
فتخرجُ من خلاياه القبائلُ، |
تبدأ الرحلاتُ موسمها ويمضي الراحلونْ. |
رحلوا، ووحدي فوق جثّة قاسيونْ |
بيدي أشيرُ إلى التّراب إلى السَّحاب: تزوَّجا، |
هذي المدينةُ أفرغَتْ شريانها من شهوة الدَّمِ، |
سوف تمضي جوقةُ الأمطار عنّا |
حين ينسلخ الجنودُ عن الجدودِ |
ويضيقُ خلف ضبابنا الشّعبيِّ تابوتُ الشَّهيدِ |
... ... ... |
وحدي أحَدّقُ في هلام الأرض: |
تاريخٌ تَصَهْيَنَ نبعُه. |
أيّ الإمارات السَّعيدة باركَتْ خبزَ اليتامى |
في صباحهم المسيّج بالنُّعاسْ |
من عَهْدِ (قحطان ) إلى عهد التّقنَع بالنُّحاسْ |
هذا المكانُ متوّجٌ بنوافذٍ تتسربُ الأسرارُ منها |
نحو هاويةٍ... |
لهذا الرُّوحِ رقصتُهُ، اسنديني يا رؤى الأشباحِ |
كفِّي... أين كفي؟ أين نبضُ دمي؟ |
... غموضٌ راسخٌ فينا، هواءُ القمح مسمومٌ، |
تنفَّسْ أيّها الجسد الذي يسري مع الهذيانِ |
كوّرْ ظلَّكَ الخشبيَّ، واسفَحْ شكلَكَ العربيَّ، |
واقرأ في كتابِ الحرب خاتمةَ المطافْ |
هل أرفع النُّذرَ الأمينةَ |
والهياكلُ ملتقى لعناكبِ الطَّاغوت |
تلتقط الفراشةَ والحمامةَ والخرافْ |
وأنا أخافُ، أخافُ من خوفي ومن نصفي ، |
ومِنْ روحي تئنّ وحوشُها المسترسلَهْ |
أنا شاعرُ الميراث، منكَسر التَّواريخ انتشيتُ برغوة العبث |
الذي طافَتْ بحارهُ في دماغي... |
نَهْرُ هذا اليأس من قدميَّ ينبغُ. |
يا أبا الإنجيلِ، متَّحدان نحن، فخُذْ خريفَ الجلجُلهْ |
وارفع صليبكَ نحو مئذنتي، |
فإني فوق خيمةِ هذه الأقوامِ منفردٌ فريدٌ، |
بالمقابر أحتمي إذ يخذل الرّوحُ الأمينُ مباهجي، |
وتضيعُ جوهرة التّراب، ويحضرُ الشّبحُ القديمْ |
تهتزّ إذ يأتي رفوفُ طيورنا |
تساقط الأثمارُ في نسلٍ من الآلام |
آهٍ يا أبا السَّموات، وحدي |
نافخٌ في جوف كفِّي نارَ معجزةٍ ليحترقَ الغناءُ |
لمن أرتّبُ هذه الفوضى؟ وأنّي شاعرٌ |
يبكي البكاءُ عليه أو تهوي السماءْ؟ |
جبلُ التَّفجُّع صاعدٌ في الرّيحِ |
قاسيون الصَّديقُ يخبّىء الجنَّات عن شهدائه |
وسماحة الشَّبح المقولبِ يقلبُ الآياتِ عن أسوارها |
لتضيءَ تحت ردائِهِ |
وتكونَ لائقةً بشمس عشيرةٍ حَشّدّتْ بنادقَها |
وطاولَ صرحُها ريحَ الصَّهيلْ |
وهناك أكشفُ حارساً يستنبتُ الطَّلقاتِ من أعناقنا |
مهلاً على أشواقنا يا حارساً قصرَ الفصولْ |
لن نحتمي بجدار قصركَ ليلةً أخرى، فلا تحزنْ، |
بقايا نحنُ من خَدّرِ الشّعوبِ، |
ويقظةُ الأطلالِ بعد حريقها |
لن نرمي الأشواكَ عن هامِاتنا نحو السّقوف المخمليّةِ |
لن نُجاهِر بالشَّقاءْ |
مهلاً فنحنُ قبيلةُ الموتى، لكمْ طولُ البقاءْ... |
... ... ... |
أين اتّجهتُ بهذه الأغنيّة الحمقاءِ؟ |
عُودي يا قصيدةُ... هذه مرثيّةٌ لك، |
لن يهبَّ نسيمُكِ اللّغويُّ ثانيةً، لأنيِّ |
بايعتُ كلَّ الأنبياءْ |
وجميعُهم يتجادلون على عيوني كيف تُفْقَأُ؟ |
كم رأيتْ |
أنا كم رأيتْ |
وكتبتُ: للأنثى وزينتِها البهيَّةِ، |
للخمور البابليَّة، |
للصَّلاة وراء نعش الأمة العرجاءِ، |
للأشياءِ في باكورة العُمر الجميل، |
لشارع الحجر القديمْ |
وكتبتُ: للّغةِ الجديدةِ، سحرُها من خطوتي |
ينساب يُنبوعاً خفيّاً من نسيمْ. |
وكتبتُ: للكهفِ المقيمْ |
في داخلي. |
ورقصتُ في عرس القطافِ من السَّماء العاشرهْ |
وسئمت خمرَ الأصدقاء، شتمتُ بعض الأتقياءِ، |
تقيأتْ روحي كلاماً في هجاءِ العاهرَهْ |
أنا كم رأيتُ، وكم كتبتُ، ولم أزلْ طفلاً بعينٍ حائرهْ |
حتّى انكسرتُ إلى نهايات المدى |
ورأيتُ أشلائي يقشّرها ملوكٌ يولمون الأرض فاكهةً |
لمائدة السّوادْ |
فأقمتُ في ذاتي، أطأطىء زهرتي وأقول:يا... |
يا ضَيعةَ الشهداء في حرب الكلامِ. |
فولولتْ خَلْفي نساءُ الرّوح: يا... |
يا حسرةَ الأبناء ينتظرون عودة جدِّهم من (أورشليمْ) |
وكتبتُ... حتّى أنَّ شيباً في جدار القلب يبزغُ |
أو ضموراً في يد الأفراح، |
أو قبراً تفتَّحَ في ابتهالاتي الشَّريدهْ |
عارٌ يؤرّخني... وكيف تقومُ من عارٍ قصيدهْ؟ |
... ... ... |
لا سرَّ بعد الآن... طوبى للخيانةِ، يا صغارُ ويا ثكالى |
العهرُ أوضَحُ من بكاء الشمس، فلنُزِلِ الظِّلالا |
ولتنكشفْ هذي السَّتائرُ، خلفها وطن من التَّوراةِ يُبْعَثُ، |
أمّةٌ بجماجم الأمواتِ تعبَثُ، |
خلفها قُبَلٌ مؤدلَجَةٌ ترسَّبَ ماؤها في نهرنا اليوميِّ |
طوبى للوضوح أقولُ |
يا لُغتي تهاديْ مثل موكب شاعر |
مُزجت خلاياه بإيقاع القرَفْ... |
غسل المغنيّ كفَّه من ناي لذّته وأعراسِ التَّرفْ |
كل الوصايا تحت كعب السيّد الكونيِّ، |
ألواحُ الخزَفْ |
نُقشت عليها سيرةُ الشّهداء، باعَتْها المليكةُ في مزادٍ |
تنحني فيه تويجات الشَّرفْ... |
... ... ... |
لا سرّ بعد الآن، فكرتُنا القديمةُ فحمةٌ |
لن تستردّ الدفءَ في هذا الشتاءِ المعدنيّْ |
إذ غابَ بستانَ الغمام، |
وباع قصرُ البرقِ لؤلؤه لعاصفة الرّمادْ |
وتوحَّد الرّوح الشَّقيُّ بذاتِهِ وتراجَعَ الرُّوحُ الشَّقيّْ. |
... ... ... |
بيدي أشرتُ إلى القوافل: أبطئي... |
لرنينِ أجراسِ القوافِلِ أنحني حزناً، |
يسيرُ حُداتُها متذمّرين من الغبارِ، |
أقولُ ليس غبارُكُمْ ذهباً، هو الكيمياءُ تنفُثُ سِحْرهَا |
والطاَّئراتُ تهزّ أشجارَ الصَّلاةِ، فأبطئي... |
الأفقُ فارغةٌ يداهُ من النّجومْ |
ومغارةُ الأسطورة الأولى غزاها العنكبوتُ |
وليس من نصٍّ يضيءُ سقوطنا العَلَنيَّ، |
هذا ليسَ من لغةٍ، |
وهذا ليس لعنةَ جدِّنا المشبوهِ، |
هذا مستطيلُ الهاويةْ |
فتقدَّمي يا خيلُ، يا أبراجَ تَمْرٍ يعربيٍّ، |
يا عيونَ مها الفراتِ |
ويا بنات الكاظمية |
يا عجائزَ مكَّةَ الأولى |
سيكبَرُ مستطيلُ الهاويةْ |
فتقدَّموا. |
يا خالق الأحجار قرب دمار بيتكَ |
يا مُعِيدَ العمر من بدء الضَّياعْ |
يا هيكَل الإيقاع، يا لغةَ الصّراعْ |
لا تقنطوا من رحمة الأعداءِ، |
سوف يشّوهون سماءّنا النَّجميَّةَ الأبعادِ، |
لكن لن يمدّوا في انهيار الحلم جسراً... |
سوف ينتقلون من سرٍّ إلى علنٍ،ومن ورقٍ إلى وطن، |
ولكن لن نراهم خارجَ الغُرفِ البعيدةِ عن أغانينا... |
ولا... لا تقنطوا من طعنة العشّاقِ، |
عرشُهُمُ المزيَّنُ بالجماجمٍ سوف يُسْقِطُ |
في جموع الجوعِ تفّاحاً من الكلماتِ، |
هل ننسى بأنَّا ذاتً معركة خسرْنا ربَّنا |
لتفوز أنهارٌ بشطآنِ الأَبَدْ |
أبدٌ... أبدْ |
وأنا هنا ولدٌ يسيرُ على رماد الحبِّ، حافيةٌ أصابعهُ |
وعاريةٌ رؤاهُ، |
كان يأتي في غزال الحلم، |
أغلقت الحدائق عطرها وتمايَلَتْ سكرى على |
سُورِ الدّفاع عن الأفاعي... |
يا ولّدْ |
عد نحوَ أمّكَ، هذه أرض الخَزَرْ |
عد نحوَ مهدكَ وارم من يدك القَمَرْ |
مستنقعُ الثورات نحنُ، ونحن جسرُ الغيم محمولاً |
على حَجَرَينْ كانا تائهيْنِ عن الحَجَرْ |
الأرضُ والقمحُ المقدَّسُ، والتّراثُ المخمليُّ، |
ومهرةُ الرَّغباتِ... هذا كلّه زبدٌ، زبدْ |
عُدْ يا ولدْ |
ضاعَ البلدْ |
... |
... ... ... |
بيدي أشرتُ إلى البلادِ، |
وتلكَ طائفةٌ من الهذيان تسحبُني إلى أوكارها |
مدَّدتُ أعضائي على حَبْلِ الغسيلِ، رأيتُ حبلَ المشنَقهْ |
خاطبتُ ربَّ اللذَّة الخرساء عن ميعاديَ البحري، حطَمَ زورقَهْ |
ووضعتُ أنفي في ركام العطرِ، |
كانتْ حلمةُ الأنثى تنزّ مشقَّقَهْ |
ما كان لي صوتٌ ليقطفَهُ غنائي |
أين أُخْفي كلَّ هذا اليأسِ؟ |
لولاه رقصتُ على الذَّهَبْ |
وحشوتُ ظلَّ الطِّفل فاكهةً وحلوى، |
أو رميتُ على مخيَّمه اللّعَبْ |
لولا انهمارُ اليأس من أكتاف هذا العمرِ... لا، |
لا، لستُ خاتمةً لأصقاعِ البلاد، |
خذي سوايَ فلنْ أمددَ جرحيَ الأبديَّ فوق الطَّاولَةْ |
لا، لستُ حنجرةً لمنْ باعَتْ أساورها أمامي |
واستقالتْ من هيامي، |
وأنا نبيٌّ، لا إلهٌ في نهاري |
والشّوك أغلَقَ باب غاري |
وحدي أضاجعُ حلمي العاري، وآكلُ من غباري... |
بيدي أشيرُ إلى المكانْ: |
هل مِنْ هنا مرّتْ قوافلُهم؟ وهل كذبَتْ أساطيرُ الرجوعِ |
وأوقفَتْ نبض الرهانْ؟ |
أم جفّ نعناعُ الضَّمائر، وانتشى حقلُ الزّؤانْ. |
مَنْ سوف يسندني إذا لأرجَّ أدمغةَ الزّمانْ؟... |
... ... ... |