يا شيخ شعري
مدة
قراءة القصيدة :
4 دقائق
.
"كتبت في رثاء الجواهري، في اليوم الثالث لوفاته" | |
.... | |
لا الشِّعرَ أبكيهِ، لا الأبداعَ، لا الأدبا | أبكي العراق، وأبكي أُمَّتي العرَبا |
أبكي على كلِّ شمسٍ أهدروا دمَها | وبعدَما فقدوها أسرجوا الحطبا |
أبكي على وطنٍ يبقى الأديبُ بهِ | ليس الغريب، ولكنْ أهلُهُ غُرَبا |
أبكي على النَّخلِ يا من أنت صاحبُهُ | وأنت ساقيهِ قرناً ماءك العذبا |
وراحَ حتى العِدا يجنونَهُ رُطَباً | وأنت تعلكُ منه السَّعفَ والكرَبا! |
أبكي لأهوارِ أهلي الآنَ بلقَعُها | يبكي فيُبكي بها البَرديَّ والقَصَبا |
وإذْ مُهاجرةُ الأطيار تبلغُها | تبكي وتُمعنُ عن قيعانِها هرَبا! |
أبكي الفُراتَين.. هل تدري مياهُهما | بأنَّ أعظمَ مَن غنّى لها ذهبا؟ |
لا "دجلةُ الخير" ألوَتْ من أعنَّتِهِ | ولا الفراتُ بخَيلِ الموتِ فيه كبا |
كأنَّهُ لم يكنْ يوماً نديمَهما | ولا أدارَ هنا كأساً، ولا شَرِبا |
ولا جرى دمعُهُ ما سالَ دمعُهُما | ولا تنَزَّى دماءً كلَّما اختَضَبا |
يا حاملَ السَّبعِ والتّسعين مُعجزةً | أقَلُّها أنَّها لم تَعرفِ الرَّهبَا |
لكنَّها عُمرَ قرنٍ كاملٍ عرفَتْ | أنْ تُستَفَزَّ، وأن تُوري الدُّنا غضَبا! |
يُقالُ أرهبُ ما في الموتِ وَحشَتُهُ | نفسي فداك، هل استوحَشْتَ حين دَبى؟! |
وهل شعرتَ اغتراباً في مَعيَّتِه؟ِ | قضيتَ عمركَ يا مولايَ مُغتَربا! |
وهل صَمَتَّ اضطراراً، أو مجانَفَةً؟ | أم كنتَ أبلغَ أهلِ الأرضِ مُنشَعِبا؟! |
وهل تُوفيِّتَ فعلاً، أم ولِدتَ بهِ؟! | إنّي رأيتُكَ مِلْءَ الموتِ مُنتَصبا |
حتى لقد ضَجَّتْ الدُّنيا بما نَشبَتْ | أظفارُ مجدِكَ فيه لا بما نشِبا! |
يا شيخَ شعري، ويا شيخي وشيخَ دمي | من لي بأن أفتديكَ الآن مُحتَسبا؟ |
من لي بأن أُرجعَ الأيّام دورتَها | فأستعيدكَ بحراً زاخراً لَجِبا |
يلوي يدَ الرّيح لا تَلوي أعنَّتهُ | ويلطمُ الجبلَ الجلمودَ مُحتَربا |
سبعون عاماً، وللطاغوتِ رَهبتُه | ماراءكَ الناسُ، أيُّ الناس، مُرتَهبا |
بل والجاً كولوجِ الموتِ دورَهمو | مُهتّكاً عنهم الأستارَ والحُجُبا |
مُغاضباً مثلَ صلِّ الرَّملِ، مُنصَلِتاً | للرّيح.. لا عطشاً تشكو ولا سَغَبا |
في حين بيتُكَ أغصانٌ مهدَّلَةٌ | تذوي، وأجنحةٌ أبقَيتَها زُغُبا |
مُرَفرفاتٍ على الأوجاع، داميةً | وأنتَ ترنو إليها مُشفقاً حَدِبا |
وكلَّما مالَ ميزانُ الأب انتفَضَتْ | أبوَّةُ الشِّعِر في جَنبيْك فانقَلبا! |
* | |
قالوا هرِمتَ.. وَعُمري لم أجدْ هرِماً | مَرآهُ يمنحُ حتى الميّتينَ صِبا! |
وَدَدتُ واللهِ لو أْعطيكَ من عُمُري | عمراُ ليُصبحَ لي إن أنتَسبْ نَسبا! |
يا ذا المُسَجَّى غريباً والعراقُ هنا | يَشقُّ قمصانَهُ في البُعدِ منتحبا |
وتصرخُ النَّجفُ الثَّكلى مُروَّعةً | رجعُ المآذنِ فيها يُفزعُ القُببا |
وأنت تنأى فتلَوي ألفُ مئذنةٍ | رقابَها، ويضجُّ الصَّحنُ مضطربا! |
وللجبالِ بكردستان نائحةٌ | تبكي الينابيعُ، والغاباتُ، والرَّشَبا |
من بيره مكرون يَمتُّد العويلُ بها | حتى تراهُ على حمرين مُنسَكبا! |
أمّا الجنوب، فيدري الماءُ ما هجَعتْ | حمريَّةٌ فيه، أو هبَّتْ عليه صَبا |
إلاّ جرَتْ أدمعاً خُرساً شَواطئُهُ | وجاءها دمعُ كلِّ النَّخلِ مُنسربا! |
* | |
أبا فراتٍ.. أبا روحي وقافيتي | وما عرفتُ لأوجاعي سواك أبا |
مِن يوم فتَّحتُ عيني والعراقُ دمٌ | يُطوى، فتهتكُ عن طوفانهِ الحُجُبا |
معاتباً تارةً.. مستنكراً أبداً | مغاضباً.. ساخراً حيناً، ومُكتئبا |
لكن تظلُّ على الحالاتِ أجمَعِها | شَوكَِ العراقِ الذي يُدمي إذا احتُطِبا! |
علَّمتنَي مُذْ شراييني بَرَتْ قلمي | كيف الأديبُ يُلاقي موتَهُ حَرِبا |
وكيفَ يجعلُ من أعصابِه نُذُراً | حيناً، وحيناً نذوراً كلَّما وَجَبا |
وكيف يصعدُ دربَ الجمرِ مشتَعلاً | مجانفاً.. عصَبٌ يُدمي بهِ عصَبَا! |
علَّمتَني كيف أُهدي للعراقِ دمي | شِعراً، وأخشى العراقيين إن نَضبا! |
"من قبلِ قرنٍ لو انّا نبتغي عِظةً | وَعَظتَنَا أن نصونَ الشِّعرَ والأدَبا"! |