الموجَعَة
مدة
قراءة القصيدة :
4 دقائق
.
بدَدٌ.. كلُّ عمرِهِ بَدَدُ | كلُّ ما يدَّعي، وما يَعِدُ |
القَوافْي، والجاه، والولَدُ | والثراءُ المَوهوم، والتَّلَدُ |
والمواعيدُ ما لها عَدَدُ | والرِّضا، والرَّفاهُ، والرَّغَدُ |
بدَدٌ كلُّها، وأوجَعُها | أنَّهُ الآن عمرُهُ بدَدُ |
علِّميهِ إذا ظفرتِ بهِ | بعدَ ستّين كيف يَقتَصدُ! |
أمَّ خلدون، والدُّنا أَمَدٌ | كلُّ ما ظلَّ في الدُّنا أمَدُ |
محضُ وقتٍ على دقائقِهِ | ينحني وهو يذبلُ الجسَدُ |
كلَّما امتدَّ ينقَطِعْ سبَبٌ | من رَجانا، وينخلعْ وَتَدُ |
أمَّ خلدون، نحن من وجعٍ | ضلعُنا عن أخيه يبتَعدُ |
كلُّ أوتادنا مزعزَعةٌ | فبماذا تكابرُ العَمَدُ؟! |
أنتِ تدرين أنَّني مَرِحٌ | طولَ عمري.. مشاكسٌ، غَرِدُ |
عاشقٌ حَدَّ أن يضجَّ دمي | لِسنا الفجر حين ينجردُ |
كنتُ عمري إذا انتهى مَددٌ | من هيامي يجيئني مَدَدُ |
لم أسائلُ، لكنْ أعيشُ هوىً | لم يعشْ مثلَ زهوِهِ أحدُ |
ربَّما كان كلُّه زَبداً | آهِ لو عاد ذلك الزَّبَدُ! |
* | |
أمَّ خلدون... أيُّ بارقةٍ | حلوةٍ جاءنا بها الرَّشَدُ؟ |
أيَّ زهوٍ، وأيَّ عافيةٍ | حشدَ العمرُ وهو يحتشدُ؟ |
نحن كنّا رفيفَ أجنحةٍ | فغدَونا نمشي ونَستندُ! |
وحشَونا جلودَنا حِكَماً | وبرَعنا في كيف ننَتقدُ |
أجملُ العمرِ غالَ هدأتَهُ | خوفُنا أنَّنا سنَفتَقِدُ |
صار، بعد الصَّفاء، يُقلقُنا | أين نغفو.. وكيف نبتَرِدُ! |
كم طمأنينةٍ عَواذلُنا | وأدوها في بعض ما وأدوا |
فغدَونا محسوبةٌ سلَفاً | ضحكُنا، والبكاءُ، والجَلَدُ |
بدَدٌ، كلُّ عمرهِ بَدَدُ | لا وقاءٌ لَهُ، ولا سنَدُ |
منذُ خمسين وهو معتكفٌ | وعليه من نفسِهِ رَصَدُ |
حسبَ الدَّرسَ تارةً أرَبَاً | فبَرَى الروح وهو يجتهدُ |
حسبَ الشعرَ مَلجأً، فذوى | وهو يُوري، والشعرُ يتَّقدُ |
ظنَّ أولادَهُ لـه سبباً | ففَداهم بكلِّ ما يَجدُ |
كان أقصى أحلامِهِ ولدٌ | يزدهي، أو بُنيَّةٌ تلدُ! |
وإذا كلُّ سعيِهِ بدَدُ | كلُّ ما يَدَّعي، وما يَعِدُ |
علِّميهِ يامَن عجِلتِ بهِ | بعد ستّين كيف يَتَّئدُ! |
* | |
أمَّ خلدون، لا أقول كما... | لا، ولا أرصُدُ الذي رصَدوا |
أنا عندي زرعي وساقيتي | ونواعيرُ ماؤها هَدَدُ |
كلُّ دلوٍ بها لـه رئةٌ | وحدَها بالدّموع تنفردُ |
وتعلَّمتُ إذ يدورُ بها | حزنُها السَّرمديُّ والكمدُ |
أنَّها وحدَها مخوَّلةٌ | أن يُغنّي دولابُها النَّكِدُ! |
لا تقولي أسرَفتَ يا سنَدي | ربّ تعبان مالَهُ سنَدُ |
أنا عندي حزني ألوذُ بهِ | فاقدُ الحزنِ أين يتَّسدُ؟! |
* | |
بددٌ كلُّ عُمرنا بَدَدُ | ما أضَعنا بهِ، وما نجدُ |
كم زرَعنا، وكم سقى دمُنا | وسهرنا حتى ذوى الكبدُ |
كم نسَجنا ضلوعَنا زرَداً | شاخصاتٌ ليومِنا الزَّردُ |
كم، وليلُ الشتاءِ يَرقبُنا | خوفُنا فيه كادَ يَنجمدُ |
وصبَرْنا، وكلُّ ثانيةٍ | تتلوَّى كأنَّها أبَدُ |
أسَفاً إن يُقال قد صَدِئوا | والمروءاتُ حَبْلها مَسَدُ |
أمَّ خلدون إنَّ بي غبَشاً | ألفُ فَجرٍ عليهِ ينعقدُ |
لم يزلْ نَبْعُنا جداولُهُ | كلُّ آتٍ من مائها يَرِدُ |
فإذا جاءنا بلا بَلَدٍ | فقناديلُنا لـهُ بَلَدُ! |
أمَّ خلدون كَفكفي وجعي | وعِديني ببعضِ ما أعِدُ |
أنا أدري بأنَّ ألويَتي | نصفُها في الرياح يرتعدُ |
أنا أدري بأنَّ لي سُفُناً | فُقدَت في عِدادِ مَن فُقِدوا |
أنا أدري بأنَّ بي وَرَماً | منذُ خمسين وهو يَطَّردُ |
وبأنّي تَساؤلي حَرَدُ | وبأنّي خصومتي لَدَدُ |
أنا أدري، أدري بأنَّ دمي | في الشرايين بات يتَّقدُ |
بسنينٍ بحزنِها ذهبتْ | وسنينٍ بحزنها تَفِدُ |
أمَّ خلدون.. أيُّ مُعجزةٍ | تُقنعُ العِرقَ كيف ينفصدُ؟! |
أنا أقنعتُ كلَّ أوردّتي | أنَّ نَصلي بها سينغمدُ |
وبأني مُعوِّضٌ دمَها | بمرازيب ماؤها هَدَدُ |
بشموعٍ أضواؤها رُمُدُ | وضلوعٍ أوجاعُها جُدُدُ |
بتقاليدَ كلُّها هُجرَتْ | ومواليدَ كلُّهم وُئِدوا |
بغدٍ مُبهَمٍ جداولُهُ | كلُّها بالدموع تَتَّحِدُ |
فاعذريني إذا نَذرتُ دمي | ربَّ وعدٍ يبكي لمن وَعدوا! |
أمَّ خلدون لَملمِي سَهَري | وارقدي بي فالناسُ قد رقدوا |
أنا مازلتُ موقظاً وجعي | بينما كلُّ إخوَتي هجَدوا |
وَغَداً، والعيونُ تسألُنا | ما حصَدنا لها، وما حصدوا |
نتراءى فقيرةً يَدُنا | ولكلِّ امرئٍ يَدٌ ويَدُ |
نتراءى نحن النّيام غداً | بينما القومُ كلُّهم سَهِدوا! |
ألفُ حمدٍ لله.. نشكرُهُ | أنّنا بالمَلامِ ننفردُ |
ألفُ حمدٍ لله أنَّ لنا | وحدَنا ما يُخلِّفُ الكمَدُ |
التَّشَفّي، واللَّوم، والحَسدُ | ونزيفٌ عليه نُنتَقَدُ |
بددٌ، كلَُّ عمرهِ بَدَدُ | كلُّ ما يدَّعي، وما يَعِدُ |
هَدهديهِ لعلَّ غُربتَهُ | حين يغفو تغفو وتَنضَمُد! |