[ عن إيابه بلا صحراء] |
أيها الموت |
صديقي أيها الموت.. |
ها أنت تعيدُني إليكَ من أمومةٍ مشاعةٍ، |
ها أنتَ تشْبَخُ، من فوق ظلال أبنائك النائمين، |
لتَسطو على امرأتك، |
وتنجبَ منها زوجةً لي، |
ها أنت تأخذني من حسد وجيز، |
فأستيقظُ منك كي أنام. |
في ما مضى، |
أخذني منك أصدقاءٌ فرحون بمراثٍ لا تستحقهم. |
كم مرةً ناديتني، أتذكر؟ |
كان صوتك يتدحرج في منحدرات غامضة، |
وهو يلقي |
عليَّ وصيةَ الكامنين له في منعطف صغير. |
أتذكُرُ..؟ |
عندما ـ نحنُ رهائنَ المستقبل ـ تلثَّمنا بملامحنا |
وعبرنا مضيق السنة الأخيرة، |
أتـَذكُر يا صديقي؟ |
كانت السنةَ الأخيرةَ من حربٍ متأخرة، |
مراهقون لا شتاء يسميهم، |
دائماً يحصلون عليك بآبائهم، |
ودائماً |
نشيدك التائه يغويهم، |
فينحدرون بهزائم لا تسميهم. |
يصل آباؤنا، |
وجنازاتهم تُطلُّ على شتاء هارب. |
يصلون، |
بعد أن يبيعوا جلودهم لصحراء مكهربة. |
كيف لي يا صديقي، |
أن أدلهم على عنوانك؟ |
مرضى بإفادات عن اللاجئين إلى الندم، |
موتى على أسرَّة تَروي وحشة اللاحقين. |
زرعتَ لِيْ ألغامَك في كل نوم.. |
أتذكرك في عيون أصدقائي، |
هبطت فيها سبعُ سماوات، |
وأيديهم التي سقطتْ منها بقية الأرض. |
أتذكرك، يا صديقي، |
في أعناق أصدقائي المصلوبين إلى مشانق تستدير، |
ولا تتلفت معهم. |
أتذكرك، وأنت تحرسني، |
في معارك تجتازني مصادفاتها. |
أتذكرك، في انقفال أبواب الدبابة، |
وهي تعبر غابات (التاو) |
في الأشجار التي تـُنيم مصائدَها عندما أقترب، |
أتذكرك، |
في جثثٍ مكبوبة على الوجوه، تصرخ: أنا. |
في السفر إليك، |
لم يكن معي غيرُك، |
أيها السفر أليه، |
لم أستدل على طرقي إلاّ لأتشتّتَ |
في مواجهات مع آثارٍ مخادعة، |
لم أتقدم لإطلاق طيورك مني |
إلاّ عند هبوبك فيَّ. |
أُجراؤك يوقعون بيننا |
وأنتَ أوّلُ مَن يعرفني من الأصدقاء! |
أُجراؤكَ تَفضَحهُم شمسُ أبَديتكَ |
حيث لا ظلامَ مُقَدَّساً لأيامهم. |
… وهكذا, |
كأرواح ـ بلا عينين ـ مقيدةٍ بحبل، |
هذه السماء ليست لأحد، |
كحربة يقودها الليل إلى بساتين خائفة. |
أصطدم، دائماً، بمذكراتك، لدى من دونوا رسائلك، |
أصطدم، بأدويةٍ بقيت منهم في صناديق الدبابات، |
الدبابات المعاقة في معارك سابقة، |
بأدوات حلاقة، كان يستخدمها الظلام، |
مطلية بغبار الخنادق. |
في المستشفيات، كم نافستني عليهم؟ |
والتقطتَ صورة أخيرة لهم، |
ولم تترك لي نسخة عنها! |
في المستشفيات، كم ربتَّ على كتفيَّ؟ |
واعتذرت، معي للزوار وهداياهم المردودة. |
أتذكر يا صديقي؟ |
ونحن نعبر خابور الحزن إلى ظلالنا المالحة؟ |
حيثُ ألسنةُ الميتين تروي حياتنا، |
أتذكر، كم من السابقين عبروا منِّي، |
وما انبثقوا ـ إلى الآن ـ أمامي؟ |
أيتامك يا صديقي، أكثر من أبنائك، |
هؤلاء ملفقون، لأسمائهم منفى، ولا منفى لسمائهم، |
وأولئك كانوا معي، |
قبل أن تعطيهم الحرب عنوانك. |
أما أنا، |
فلديَّ ـ إليك ـ نصفُ عنوانٍ من هؤلاء، |
ونصفٌ من أولئك، |
فإلى أين أوجه رسائلي؟ |
أيتامُك أمواتك لكنَّهم فرحون! |
مع صفارة الإنذار، |
كان جوعُك الأفريقي يترصد ما تلقيه الطائراتُ، |
وما تطبخه النيرانُ من ذكرياتنا. |
فكم أبقيتَ من نسيانٍ لأعرفك؟ |
كم سميت لي من أحفادٍ، |
لأشتبه بسلالتك الصمّاء؟ |
صديقي أيها الموت. |
والأطفال…؟ |
طالما استدرجَتهم حلواك، |
إلى نهر بلا ضفتين، |
أو لوّنتَ لهم ألعابك، |
قبل أنْ تسرقَ السياراتُ لوناً نائماً، |
قاطعةً طريقـَه إلى ذهب أعمى. |
كنت أحسَبُ إنَّ ربيعَك محصورٌ |
في قطاع( 50) في مدينة الثورة، |
حيث عجائزُ ـ وحسب ـ يحصدون حقولك، |
وكنت أطلُّ على تعبهم الأخير، |
من بين زحمة المودعين. |
لمْ أدرِ أنَّ خريفك يمتدُّ |
إلى سحنات تنقصها الذكرياتُ، |
لمْ أدْرِ أنَّ سنتك الكبيسة |
مأهولة بما لا يعدُّ من أحذية الداخلين! |
ولا آثار لعودتهم سوى أخبارك بيننا. |
صديقي أيها الموت! |
من أين لأسنانك كلُّ هذا الحنان |
لتربي صرخة مقطوعةَ القدمين؟ |
من أين لأسرَّتك كلُّ هذا اليأسِ |
لتعدَ جهاتٍ مهجورة، |
لتحظى بأحلام من ناموا بلا ليلٍ، |
وتعيدَهم إلى رعشة بيضاء هناك. |
لا أدري، |
لماذا يذبل أسبوعك في المحطات، |
عندما يأكل الغرباء مسدساتهم وينامون؟ |
المسدسات، لا أسماء لهروبها، |
لا ملامح لشبهاتها، |
ولا مواعيد لنومها، |
المسدسات فوضى الله حين يختار أعداءَهُ. |
مِن على السطح، تومئ لي |
بكفٍ محناة وفي بنصرها خاتم من شهوات، |
بجهشات طفولة تـُرَجـِّـفُ الوحْـشةَ، |
بالحياةِ، تواصلُ نعينا ونستمرُّ نومئ بلا يدين! |
أتذكر؟ |
عندما ازدحموا في الحافلة، |
وكنت تقودها بلا أحد منهم ـ سوى ازدحامهم! ـ |
أتذكر؟ |
كانوا يستردون حواسهم |
عند كلِّ أبدٍ في الطريق إلى البداية المجهولة، |
وكنت تفرك عينيك، |
أمام عناوينهم التي يهبطون، فجأة، عندها، |
عناوينهم التي لا تتذكرها لترسلها لنا. |
صديقي أيها الموت، |
لم تصلني رسائلك، |
مع أنني أرسلها دائماً! |
ولم أكـذب وصيتهم الوحيدة، |
مع أنهم تركوها على جسدك المفقود. |
نتكرر بعد كل نوم، |
وتتأخر أنت، |
صديقي أيها الموت . |