الريح تلهث بالهجيرة كالجثام، على الأصيل |
و على القلوع تظل تطوى أو تنشّر للرحيل |
زحم الخليج بهنّ مكتدحون جوّابو بحار |
من كل حاف نصف عاري |
و على الرمال ، على الخليج |
جلس الغريب، يسرّح البصر المحيّر في الخليج |
و يهدّ أعمدة الضياء بما يصعّد من نشيج |
أعلى من العبّاب يهدر رغوه و من الضجيج" |
صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى : عراق |
كالمدّ يصعد ، كالسحابة ، كالدموع إلى العيون |
الريح تصرخ بي عراق |
و الموج يعول بي عراق ، عراق ، ليس سوى عراق |
البحر أوسع ما يكون و أنت أبعد ما يكون |
و البحر دونك يا عراق |
بالأمس حين مررت بالمقهى ، سمعتك يا عراق |
وكنت دورة أسطوانة |
هي دورة الأفلاك في عمري، تكوّر لي زمانه |
في لحظتين من الأمان ، و إن تكن فقدت مكانه |
هي وجه أمي في الظلام |
وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام |
و هي النخيل أخاف منه إذا ادلهمّ مع الغروب |
فاكتظّ بالأشباح تخطف كلّ طفل لا يؤوب |
من الدروب |
وهي المفليّة العجوز وما توشوش عن حزام |
وكيف شقّ القبر عنه أمام عفراء الجميلة |
فاحتازها .. إلا جديلة |
زهراء أنت .. أتذكرين |
تنّورنا الوهّاج تزحمه أكف المصطلين ؟ |
وحديث عمتي الخفيض عن الملوك الغابرين ؟ |
ووراء باب كالقضاء |
قد أوصدته على النساء |
أبد تطاع بما تشاء، لأنها أيدي الرجال |
كان الرجال يعربدون ويسمرون بلا كلال |
أفتذكرين ؟ أتذكرين ؟ |
سعداء كنا قانعين |
بذلك القصص الحزين لأنه قصص النساء |
حشد من الحيوات و الأزمان، كنا عنفوانه |
كنا مداريه اللذين ينام بينهما كيانه |
أفليس ذاك سوى هباء ؟ |
حلم ودورة أسطوانة ؟ |
إن كان هذا كلّ ما يبقى فأين هو العزاء ؟ |
أحببت فيك عراق روحي أو حببتك أنت فيه |
يا أنتما - مصباح روحي أنتما - و أتى المساء |
و الليل أطبق ، فلتشعّا في دجاه فلا أتيه |
لو جئت في البلد الغريب إلى ما كمل اللقاء |
الملتقى بك و العراق على يديّ .. هو اللقاء |
شوق يخضّ دمي إليه ، كأن كل دمي اشتهاء |
جوع إليه .. كجوع كلّ دم الغريق إلى الهواء |
شوق الجنين إذا اشرأبّ من الظلام إلى الولادة |
إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون |
أيخون إنسان بلاده؟ |
إن خان معنى أن يكون ، فكيف يمكن أن يكون ؟ |
الشمس أجمل في بلادي من سواها ، و الظلام |
حتى الظلام - هناك أجمل ، فهو يحتضن العراق |
واحسرتاه ، متى أنام |
فأحسّ أن على الوسادة |
من ليلك الصيفي طلاّ فيه عطرك يا عراق ؟ |
بين القرى المتهيّبات خطاي و المدن الغريبة |
غنيت تربتك الحبيبة |
وحملتها فأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه ، |
فسمعت وقع خطى الجياع تسير ، تدمي من عثار |
فتذر في عيني ، منك ومن مناسمها ، غبار |
ما زلت اضرب مترب القدمين أشعث ، في الدروب |
تحت الشموس الأجنبية |
متخافق الأطمار ، أبسط بالسؤال يدا نديّة |
صفراء من ذل و حمى : ذل شحاذ غريب |
بين العيون الأجنبية |
بين احتقار ، و انتهار ، و ازورار .. أو ( خطيّة) |
و الموت أهون من خطّية |
من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبية |
قطرات ماء ..معدنيّة |
فلتنطفي، يا أنت ، يا قطرات ، يا دم ، يا .. نقود |
يا ريح ، يا إبرا تخيط لي الشراع ، متى أعود |
إلى العراق ؟ متى أعود ؟ |
يا لمعة الأمواج رنحهن مجداف يرود |
بي الخليج ، ويا كواكبه الكبيرة .. يا نقود |
ليت السفائن لا تقاضي راكبيها من سفار |
أو ليت أن الأرض كالأفق العريض ، بلا بحار |
ما زلت أحسب يا نقود ، أعدكنّ و أستزيد ، |
ما زلت أنقص ، يا نقود ، بكنّ من مدد اغترابي |
ما زلت أوقد بالتماعتكن نافذتي و بابي |
في الضفّة الأخرى هناك . فحدثيني يا نقود |
متى أعود ، متى أعود ؟ |
أتراه يأزف ، قبل موتي ، ذلك اليوم السعيد ؟ |
سأفيق في ذاك الصباح ، و في السماء من السحاب |
كسر، وفي النسمات برد مشبع بعطور آب |
و أزيح بالثؤباء بقيا من نعاسي كالحجاب |
من الحرير ، يشف عما لا يبين وما يبين |
عما نسيت وكدت لا أنسى ، وشكّ في يقين |
ويضيء لي _ وأنا أمد يدي لألبس من ثيابي- |
ما كنت ابحث عنه في عتمات نفسي من جواب |
لم يملأ الفرح الخفي شعاب نفسي كالضباب ؟ |
اليوم _ و اندفق السرور عليّ يفجأني- أعود |
واحسرتاه .. فلن أعود إلى العراق |
وهل يعود |
من كان تعوزه النقود ؟ وكيف تدّخر النقود |
و أنت تأكل إذ تجوع ؟ و أنت تنفق ما تجود |
به الكرام ، على الطعام ؟ |
لتبكينّ على العراق |
فما لديك سوى الدموع |
وسوى انتظارك ، دون جدوى ، للرياح وللقلوع |