ضع قدمك الحجريةَ على قلبي يا سيدي |
الجريمةُ تضرب باب القفص |
والخوفُ يصدحُ كالكروان |
ها هي عربةُ الطاغية تدفعها الرياح |
وها نحن نتقدم |
كالسيف الذي يخترقُ الجمجمه . |
. . . |
أيها الجرادُ المتناسلُ على رخام القصور والكنائس |
أيتها السهولُ المنحدرة كمؤخرة الفرس |
المأساةُ تنحني كالراهبه |
والصولجان المذهَّبُ ينكسر بين الأفخاذ . |
كانوا يكدحون طيلة الليل |
المومساتُ وذوو الأحذية المدبَّبه |
يعطرون شعورهم |
ينتظرون القطار العائد من الحرب . |
قطار هائل وطويل |
كنهر من الزنوج |
يئن في أحشاءِ الصقيع المتراكم |
على جثث القياصرة والموسيقيين |
ينقل في ذيله سوقاً كاملاً |
من الوحل والثياب المهلهله |
ذلك الوحل الذي يغمرُ الزنزانات |
والمساجد الكئيبة في الشمال |
الطائرُ الذي يغني يُزجُّ في المطابخ |
الساقيةُ التي تضحك بغزاره |
يُربَّى فيها الدود |
تتكاثرُ فيها الجراثيم |
كان الدودُ يغمر المستنقعات والمدارس |
خيطان رفيعة من التراب والدم |
وتتسلَّق منصّاتِ العبودية المستديره |
تأكل الشاي وربطات العنق ، وحديد المزاليج |
من كل مكان ، الدود ينهمرُ ويتلوى كالعجين ، |
القمحُ ميت بين الجبال |
وفي التوابيت المستعمله كثيراً |
في المواخير وساحات الإعدام |
يعبئون شحنه من الأظافر المضيئه إلى الشرق |
وفي السهول التي تنبع بالحنطة والديدان ... |
حيث الموتى يلقون على المزابل |
كانت عجلاتُ القطار أكثر حنيناً إلى الشرق ، |
يلهث ويدوي ذلك العريسُ المتقدم في السن |
ويخيط بذيله كالتمساح على وجه آسيا . |
كانوا يعدّون لها منديلاً قانياً |
في أماكنِ التعذيب |
ومروحةً سميكةً من قشور اللحم في سيبريا ، |
كثير من الشعراء |
يشتهون الحبر في سيبريا . |
. . . |
البندقيةُ سريعةٌ كالجفن |
والزناد الوحشي هاديءٌ أمام العينين الخضراوين |
ها نحن نندفع كالذباب المسنّن |
نلوِّحُ بمعاطفنا وأقدامنا |
حيث المدخنةُ تتوارى في الهجير |
وأسنان القطار محطّمة في الخلاء الموحش |
الطفلةُ الجميلةُ تبتهل |
والأسيرُ مطاردٌ على الصخر . |
أنامُ وعلى وسادتي وردتان من الحبر |
الخريفُ يتدحرج كالقارب الذهبي |
والساعات المرعبه تلتهبُ بين العظام |
يدي مغلقة على الدم |
وطبقةٌ كثيفة من النواح الكئيب |
تهدر بين الأجساد المتلاصقة كالرمل |
مستاءةً من النداء المتعفّن في شفاه غليظه |
تثير الغثيان |
حيث تصطكُّ العيونُ والأرجل |
وأنين متواصل في مجاري المياه |
شفاه غليظة ورجال قساة |
انحدروا من أكماتِ العنف والحرمان |
ليلعقوا ماء الحياة عن وجوهنا |
كنا رجالاً بلا شرفٍ ولا مال |
وقطعاناً بربرية تثغو مكرهة عبر المآسي |
هكذا تحكي الشفاه الغليظةُ يا ليلى |
أنت لا تعرفينها |
ولم تشمي رائحتها القويةَ السافله |
سأحدثك عنها ببساطة وصدق وارتياح |
ولكن |
ألاَّ تكوني خائنة يا عطورَ قلبي المسكين |
فالحبر يلتهب والوصمةُ ترفرف على الجلد . |
. . . |
غرفتي مطفأةٌ بين الجبال |
القطيع يرفع قوائمه الحافيه |
والأوراق المبعثرة تنتظر عندليبها |
وندلفُ وراء بعضنا إلى المغسله |
كجذوع الأشجار يجب أن نكون |
جواميس تتأملُ أظلافها حتى يفرقع السوط |
نمشي ونحن نيام |
غفاة على البلاط المكسو بالبصاق والمحارم |
نرقد على بطوننا المضروبة بأسلاك الحديد |
ونشرب الشاي القاحلَ في هدوءٍ لعين |
وتمضي ذبابة الوجود الشقراء |
تخفقُ على طرف الحنجره |
كنا كنزاً عظيماً |
ومناهلَ سخيه بالدهن والبغضاء |
نتشاجرُ في المراحيض |
ونتعانق كالعشاق . |
. . . |
اعطني فمك الصغير يا ليلى |
اعطني الحلمةَ والمدية اننا نجثو |
نتحدثُ عن أشياء تافهه |
وأخرى عظيمة كالسلاسل التي تصرُّ وراء الأبواب |
موصدة .. موصدة هذه الأبواب الخضراء |
المنتعشة بالقذاره |
مكروهة صلده |
من غماماتِ الشوق الناحبة أمامها |
نتثاءبُ ونتقيأُ وننظر كالدجاجِ إلى الأفق |
لقد مات الحنان |
وذابت الشفقة من بؤبؤ الوحشِ الانساني |
القابعِ وراء الزريبه |
يأكل ويأكل |
وعلى الشفة السفلى المتدلية آثار مأساة تلوح |
أمي وأبي والبكاء الخانق |
آه ما أتعسني إلى الجحيم أيها الوطن الساكن في قلبي |
منذ اجيال لم أرَ زهره . |
. . . |
الليالي طويله والشتاءُ كالجمر |
يومٌ واحد |
وهزيمةٌ واحدة للشعب الأصفر الهزيل |
انني ألمس لحيتي المدبَّبه |
أحلم براحة الأرض وسطوح المنازل |
بفتاةٍ مراهقةٍ ألعقها بلساني |
السماء زرقاء |
واليد البرونزيةُ تلمس صفحة القلب |
الشفاهُ الغليظةُ تفرز الأسماء الدمويه |
وأنا مستلقٍ على قفاي |
لا أحدَ يزورني أثرثرُ كالأرمله |
عن الحرب ، والأفلام الخليعة ، ونكران الذات |
والخفير المطهَّم ، يتأمل قدميَ الحافيتين |
وقفتُ وراء الأسوار يا ليلى |
أتصاعد وأرتمي كأنني أجلس على نابض |
وقلبي مفعمٌ بالضباب |
ورائحة الأطفال الموتى |
إن أعلامنا ما زالت تحترقُ في الشوارع |
متهدلة في الساحات الضاربة إلى الحمره |
كنت أتساقط وأحلم بعينيك الجميلتين |
بقمصانك الورديه |
والهجير الضائع في قبلاتكِ الأخيره |
مرحباً بكِ ، بفمك الغامقِ كالجرح |
بالشامة الحزينة على فتحةِ الصدر |
أنا عبدٌ لك يا حبيبه |
ترى كيف يبدو المطر في الحدائق ؟ |
ابتعدي كالنسيم يا ليلى |
يجب ألا تلتقي العيون |
هرم الانحطاطِ نحن نرفعه |
نحن نشكُّ راية الظلم في حلقاتِ السلاسل |
بالله لا تعودي |
شيءٌ يمزقني أن أراهم يلمسونك بغلظه |
أن يشتهوك يا ليلى |
سألكمُ الحديد والجباه الدنيئه |
سأصرخُ كالطفل وأصيح كالبغي |
عيناكِ لي منذ الطفولة تأسرانني حتى الموت . |
. . . |
انطفأَ الحلم ، والصقرُ مطاردٌ في غابته |
لا شيء يذكر |
إننا نبتسمُ وأهدابنا قاتمةٌ كالفحم |
هجعت أبكي أتوسَّل للأرض الميتة بخشوع |
أوّاه لِم زرتني يا ليلى ؟ |
وأنت أشدُّ فتنةً من نجمة الشمال |
وأحلى رواءً من عناقيد العسل |
لا تكتبي شيئاً سأموتُ بعد أيام |
القلبُ يخفق كالمحرمه |
ولا تزال الشمس تشرق ، هكذا نتخيل |
إننا لا نراها |
على حافة الباب الخارجي |
ساقيةٌ من العشب الصغير الأخضر |
تستحمُّ في الضوء |
وثمة أحذية براقة تنتقل على رؤوس الأزهار |
كانت لامعة وتحمل معها رائحة الشارع ، ودور السينما |
كانت تدوس بحريه |
ووراء الباب الثالث |
يقومُ جدارٌ من الوهم والدموع |
جدار تنزلق من خلاله رائحة الشرق |
الشرق الذليل الضاوي في المستنقعات |
آه ، إنَّ رائحتنا كريهه |
إننا من الشرق |
من لك الفؤاد الضعيف البارد |
إننا في قيلولةٍ مفزعةٍ يا ليلى |
لقد كرهتُ العالم دفعة واحده |
هذا النسيجَ الحشريَ الفتاك |
وأنا أسير أمام الرؤوس المطرقة منذ شهور |
والعيون المبلَّلة منذ بدء التاريخ |
ماذا تثير بي ؟ لا شيء |
إنني رجلٌ من الصفيح |
أغنية ثقيلة حادة كالمياه الدفقه |
كالصهيل المتمرد على الهضبه . |
هضبة صفراء ميتة تشرق بالألم والفولاذ |
فيها أكثرُ من ألف خفقة جنونية |
تنتحبُ على العتبات والنوافذ |
تلتصقُ بأجنحة العصافير |
لتنقل صرخةَ الأسرى وهياج الماشيه |
من نافذة قصرك المهدمة ، ترينها يا ليلى |
مرعبة ، سوداء في منتصف الليل |
ومئات الأحضان المهجورة تدعو لفنائها |
وسقوطِ هامتها |
وردمها بالقشِّ والتراب والمكانس |
حتى لو قدِّر للدموع الحبيسة بين الصحراء والبحر |
أن تهدرَ أن تمشي على الحصى |
لازالتها تلك الحشرةُ الزاحفةُ إلى القلب |
بالظلم والنعاس يتلاشى كل أثر |
بالأنفاس الكريهه |
والأجساد المنطوية كالحلزونات |
بقوى الأوباش النائمة بين المراحيض |
سنبني جنينة للأطفال |
وبيوتاً نظيفه ، للمتسكعين وماسحي الأحذيه . |
. . . |
أتى الليل في منتصف أيار |
كطعنةٍ فجائية في القلب |
لم نتحركْ |
شفاهنا مطبقةٌ على لحن الرجولة المتقهقر |
في المقصورات الداخلية ثمة عويل يختنق |
ثمة بساطة مضحكة في قبضة السوط |
الأنوارُ مطفأة .. لماذا ؟ |
القمرُ يذهب إلى حجرته |
وشقائق النعمان تحترق على الاسفلت |
قشٌّ يلتهبُ في الممرات |
وصريرُ الحطب يئنُّ في زوايا خفيه |
آلاف العيون الصفراء |
تفتِّشُ بين الساعات المرعبة العاقة |
عن عاهرةٍ ، اسمها الانسانية |
والرؤوس البيضاء ، مليئة بالأخاديد |
يا رب تشرق الشمس ، يا إلهي يطلع النجم |
دعه يغني لنا إننا تعساء |
عذبْنا ما استطعت |
القملُ في حواجبنا |
وأنت يا ليلى لا تنظري في المرآة كثيراً |
أعرفك شهيةً وناضجه |
كوني عاقلة وإلا قتلتك يا حبيبه . |
. . . |
لتشرق الشمس |
لتسطع في إلية العملاق |
الحدأة فوق الجبل |
الغربةُ جميلةٌ ، والرياحُ الزرقاء على الوساده |
كانت لها رائحة خاصه |
وطعم جيفيّ حار ، دعه |
ملايين الابر تسبح في اللحم . |
. . . |
أين كنتَ يوم الحادثه ؟ |
كنت ألاحقُ امرأةً في الطريق يا سيدي |
طويلةً سمراء وذات عجيزة مدملجه |
إنني الوحيد الذي يمرُّ في الشارع دون أن يحييه أحد |
دعني لا أعرف شيئاً |
اطلقْ سراحي يا سيدي أبي مات من يومين |
ذاكرتي ضعيفه ، وأعصابي كالمسامير . |
. . . |
أنا مغرمٌ بالكسل |
بعدة نساءٍ على فراشٍ واحد |
الجريمة تعدو كالمهر البري |
وأنا مازلت ألعقُ الدم المتجمدَ على الشفة العليا |
مالحاً كان ، من عيوني يسيل |
من عيون أمي يسيل |
سطّحوه على الأرض |
الأشرعة تتساقط كالبلح |
لقد فات الأوان |
إنني على الأرض منذ أجيال |
أتسكع بين الوحوش والأسنان المحطمه |
أضربه على صدره إنه كالثور |
سفلَه ، دعني آكل من لحمه |
بشدةٍ كان الألم يتجه في ذراعي |
بشدة ، بشدة ، نحن عبيد يا ليلى |
كنت في تلك اللحظه |
أذوق طعم الضجيج الانساني في أقسى مراحله |
مئات السياط والأقدام اليابسه |
انهمرتْ على جسدي اللاهث |
وذراعي الممددة كالحبل |
كنت لا أميّزُ أيَّ وجهٍ من تلك الوجوه |
التي نصادفها في السوق والباصات والمظاهرات |
وجوهٌ متعطشةٌ نشوى |
على الصدر والقلب كان غزالُ الرعب يمشي |
بحيرة التماسيح التي تمرُّ بمرحلة مجاعه |
مجاعة تزدردُ حتى الفضيله |
والشعورَ الالهي المسوَّس |
لقد فقدنا حاسة الشرف |
أمام الأقدام العاريةِ والثياب الممزقه |
أمام السياط التي ترضعُ من لحم طفلةٍ بعمر الورد |
تجلد عاريةً أمام سيدي القاضي |
وعدة رجال ترشحُ من عيونهم نتانةُ الشبق |
والهياجُ الجنسي |
وجوه طويلة كقضبان الحديد |
تركتني وحيداً في غرفة مقفلةٍ ، أمضغ دمي |
وأبحث عن حقد عميق للذكرى . |
النجيع ينشدُّ على طرف اللسان |
والغرابُ ينهض إلى عشّه |
الألمُ يتجول في شتى الأنحاء |
والمغيص يرتفع كالموج حتى الهضبه |
كادت تنسحب من هذا النضال الوحشي |
من هذا المغيص المروع |
رأسي على حافة النافوره |
وماؤها الفضي يسيلُ حزينا على الجوانب |
من وراء المياه والمرمر |
يلوحُ شعرُ قاسيون المتطاير مع الريح |
وغمامةٌ من المقاهي |
والحانات المغرورقة بالسكارى |
تلوح بنعومة ورفقٍ عبر السهول المطأطئة الجباه |
لم يعد يورقُ الزيتون |
ولم تدرْ المعاصر ، كلهم أذلاء |
وأضلاعي تلتهبُ قرب البحيره |
إنها تسقي الزهور ، أنا عطشان يا سيدي |
في أحشاء الصحراء |
أنقذني يا قمر أيار الحزين . |
. . . |
استيقظي أيتها المدينة المنخفضه |
فتيانك مرضى ، |
نساؤك يجهضن على الأرصفه |
النهد نافر كالسكين |
أعطني فمك ، أيتها المتبرجةُ التي تلبس خوذه |
. . . |
بردى الذي ينساب كسهلٍ من الزنبق البلوري |
لم يعد يضحك كما كان |
لم أعد أسمع بائع الصحف الشاب |
ينادي عند مواقف الباصات |
الحرية منقوشةٌ على الظهر |
واللجام مليءٌ بالحموضه . |
ضعْ قدمك الحجريةَ على قلبي يا سيدي |
الريحُ تصفر على جليد المعسكرات |
وثمة رجل هزيل ، يرفع ياقته |
يشرب القهوه |
ويبكي كإمرأةٍ فقدت رضيعها |
دعْ الهواء الغريب |
يكنس أقواسَ النصر ، وشالات الشيوخ والراقصات |
إنهم موتى |
حاجز من الأرق والأحضان المهجوره |
ينبت أمام الخرائب والثياب الحمراء |
وفاه ذئابٍ القرون العائدة بلا شاراتٍ ولا أوسمه |
تشقَّ طريقها على الرمال البهيجة الحاره |
لا شيء يُذكر الأرض حمراء |
والعصافير تكسر مناقيرها على رخام القصر . |
وداعا ، وداعاً اخوتي الصغار |
أنا راحلٌ وقلبي راجعٌ مع دخان القطار . |