حنين الغريب
مدة
قراءة القصيدة :
9 دقائق
.
وفاء كمزن الغوطتين كريم | و حبّ كنعماء الشام قديم |
و شعر كآفاق السماء تبرّجت | شموس على أنغامه و نجوم |
يلمّ (شفيق) كوكبا بعد كوكب | و نسّق منها العقد فهو نظيم |
معان بألوان الجمال غنيّة | كما زفّ ألوان الطيوب نسيم |
و وشي كأحلام الشباب يصوغه | أنيق بأسرار البيان عليم |
سقاني سلاف الشعر حتّى ترنّحت | دموع و غنّت لوعة و كلوم |
ففي كلّ بيت ريقة أو سلافة | و ريحانة شاميّة و نديم |
*** | |
تطوّحني الأسفار شرقا و مغربا | و لكنّ قلبي بالشام مقيم |
و أسمع نجواها على غير رؤية | كأنّي على طور الجلال (كليم) |
و ما نال من إيماني السّمع أنّني | أصلّي لها في غربتي و أصوم |
و لا نال من قدري اغتراب و عسرة | يصان و يغلي الدرّ و هو يتيم |
و للمجد أعباء و لكنّها منى | و للمكرمات الغاليات هموم |
و خاصمني من كنت أرجو وفاءه | و للشّمس بين النيّرات خصوم |
يلاقي العظيم الحقد في كلّ أمّة | فلم ينج من حقد الطّغام عظيم |
و يقذى بنور العبقريّة حاسد | و يخزى بمجد العبقريّ لئيم |
و تشقى على الحقد النّفوس كما انطوت | قلوب على جمر الغضا و حلوم |
و لم يدر نعماء الكرى جفن حاقد | و هل قرّ عينا بالرّقاد سليم |
و يزعم أنّ الحقد يبدع نعمة | و هيهات من نعمى البنين عقيم |
و ما بنيت إلاّ على الحبّ أمّة | و لا عزّ إلاّ بالحنان زعيم |
و لا فوق نعماء المحبّة جنّة | و لا فوق أحقاد النّفوس جحيم |
هو الحبّ حتّى يكرم العدم موسر | و يأسى لأحزان الغنيّ عديم |
و حتّى يريح الذّنب من حمل وزره | حنان بغفران الذّنوب زعيم |
و يا ربّ قلبي ما علمت . محبّة | و عطر و وهج من سناك صميم |
و آمنت حتّى لا أروم لبانة | تخالف ما تختاره و تروم |
جلا نورك الدنيا لعيني وسيمة | فلم يبق حتّى في الهموم دميم |
و سلّمت أمري لا من اليأس بل هوى | أصيل و إرث طاهر و أروم |
فررت إلى قلبي من العقل خائفا | كما فرّ من عدوي المريض سليم |
تألّه عقل أنت يا ربّ صغته | و كاد يردّ الميت و هو رميم |
و ضاقت به الدنيا ففي كلّ مهجة | هواجس من كفرانه و غموم |
و أبدعت هذا العقل نعمى قطافها | فنون كأطياب الهوى و علوم |
ترفّ حضارات عليه وضيئة | و خير كإغداق السماء عميم |
و غرّد في عدن لحورك شاعر | و غازل أسرار السماء حكيم |
فما بال هذا العقل جنّ جنونه | فردّ ملاك الطّهر و هو أثيم |
و زلزل منه البرّ و البحر كافر | بنعماك مرهوب الحتوف غشوم |
و في كأسه عند الصّباح سلافة | و في كأسه عند المساء سموم |
و يعطي المنى ما تشتهي فهو محسن | و ينهب ما أعطاه فهو غريم |
تحدّاك حتّى كاد يزعم أنّه | شريك لجبّار السّماء قسيم |
و حاول غزو النّيرين فردّه | عن الذروة العصماء و هو رجيم |
و كفّ عنان العقل قسرا فربّما | أثير بإلحاح السّفين حليم |
جلت هذه الدّنيا لعيني كنوزها | لوامع يغري برقها فأشيم |
أفانين من حسن وجاه و نعمة | معادن نور كلّهنّ كريم |
و وشي به الألوان حيرى كأنّها | سماء فتصحو لمحة و تغيم |
و لم أتردّد و انتقيت .. و حبّها | و أحلامها ما اخترت حين تسوم |
قد اختصرت دنيا بقلبي و عالم | كما اختصر العلم الشتيت رقيم |
و توجز في قارورة العطر روضة | و توجز في كأس الرّحيق كروم |
و أعرض إعراض الخليّ من الهوى | و بي من هواها مقعد و مقيم |
و ما حيلتي إن نمّ عن نفسه الهوى | هو العطر و العطر الزكي ّ نموم |
تشابهت السّمراء و الدّهر شيمة | كلا القادرين القاهرين ظلوم |
و أكرمها عن كلّ لوم وأنثني | أعاتب قلبي وحده و ألوم |
و لو أنّ شعري دلّل الرّيم نافرا | تلفّت يجزيني الصبابة ريم |
*** | |
تبادهني عند البحيرة دمّر | و روض على أفيائها و شميم |
و ورق على شطّ البحيرة حوّم | و ورق على قلب الغريب تحوم |
خيال جلا لي الشام حتّى إذا انطوى | تنازع قلبي عبرة و وجوم |
و قرّبها ما شئت حتّى احتضنتها | و غابت بحار بيننا و تخوم |
و حيّت من الرّوح الشاميّ نفحة | ولوع بأشتات الطّيوب لموم |
و لاح صغاري كالفراخ و أمّهم | حنون كورقاء الغصون رؤوم |
فراخ و إن طاروا و للريح ضجّة | و للرعد زأر في الدّجى و هزيم |
فطرنا على حبّ البنين ، سجيّة | تلاقى عليها عاذر و مليم |
يشبّ الفتى منهم و يبقى لرحمتي | كما كان في عينيّ و هو فطيم |
و هان بنعماء الطفولة ما درى | أهادن دهر أم ألحّ خصيم |
غرير يبيّن القول بل لايبينه | طفور كأطلاء الظّباء بغوم |
نزعت سهام القلب لمّا خلعته | عليه و نزع المصميات أليم |
و جرت على قلبي فأخفيت أنّه | مدمّى بأنواع السّهام كليم |
و لولاهم ماروّضتني شكيمة | و لا لان منّي في الصّعاب شكيم |
*** | |
و هيهات منّي في البحيرة دمّر | و سجع بوادي الرّبوتين رخيم |
إذا لاح لي وجه البحيرة قاتما | ألحّ عليه عاصف و غيوم |
فوجه أديم الشام طلق منوّر | و وجه بحيرات السماء قسيم |
تعلّلت لا أشكو سقاما و لا أذى | بلى كلّ ناء عن هواه سقيم |
و يحزنني دوح البحيرة عاريا | و أوراقه الخضراء و هي هشيم |
و أبسط كفّي أقطف الماء عابثا | كأنّ المويجات الصّغار جميم |
و تلك الظلال الحاليات عواطل | على كلّ أيك وحشة و سهوم |
تعرّت من الغيد الملاح و طالما | تغطّى بأسراب الملاح أديم |
رسوم هوى ما استوقفت خطو عابر | كما استوقفت ركب الفلاة رسوم |
و لا لثم الحصباء فيها متيّم | يشمّ الهوى من عطرها فيهيم |
يجلّلها اللّيل البهيم و مثله | ضحى كالدّجى غمر السواد بهيم |
و شمس الضحى خود كعاب يضمّها | لغيران من صيد الملوك حريم |
يردّ و يجلى عن كوى الغيم وجهها | كما ردّ عن باب البخيل يتيم |
و يشكو الضحى من هجرها متوجّعا | و يوحشه هجرانها و يضيم |
تأبّت على جهد الضحى فكأنّها | من الغيد مكسال الدلال نؤوم |
و ضمّ الظلام السكب ظلاّ لجاره | كأنّ الظلال المغفيات جسوم |
*** | |
يطارحني دوح البحيرة شجوه | كلانا معنّى بالزّمان هضيم |
و أشكو له البلوى و يشكو كأنّنا | حميم يساقيه العزاء حميم |
أتشكو و لكن عندك الريح و الدجى | و للجنّ من شتّى الظلال نجوم |
و عندك آلاف الطّيوف حوائم | روان لأسرار البحيرة هيم |
تلملم أسرار البحيرة شرّدا | و يفتنها سكب الشذا فتريم |
هنا كلّ أسرار البحيرة و الرؤى | طوافر في دنيا الخفاء تهيم |
هنا عرس الأطياف يفترش الدّجى | و يقعد في أحضانه و يقوم |
خفاء يضجّ الصمت فيه و بلبل | تحدّى ضجيج الصمت فهو نغوم |
و لفّ الخفاء الحسن حتّى شكى الهوى | و غار حرير مترف و رقوم |
فدع لومه إن لم يلح لك سحره | خيالك لا سحر الخفاء ملوم |
هنا ألف الأطيار و الناس رحمة | فللطير أنس فيهم و لزوم |
إذا انبسطت راح فللطير فوقها | حنين إلى سمح القرى و جثوم |
فيا خجلة الصحراء لم ينج جؤذر | و لا قرّ عينا بالأمان ظليم |
و لم تهن بالعشّ البعيد حمامة | فصيّادها صعب المراس عزوم |
شكا الطّير من ظلم الأناسيّ و اشتكت | ظباء و عشب في الفلاة نجيم |
فبا ربّ لا أقوى من الطّير عشّه | و لا راع أسراب الظباء غريم |
و لا أوحشت رمل الفلاة جاذر | و ورد يندّي حرّها و فغوم |
و كلّ غمام مرّ في الرّمل ديمة | و كلّ كنّاس للظباء مديم |
رمال كبرد عاطل الوشي حاكه | صناع معنّى بالبرود سؤوم |
فزوّقه بالوشي غاد ورائح | و عدو جياد ضمّر و رسيم |
و يا ربّ في الإنسان و الطير احتمى | بغيرك مقصوص الجناح ظليم |
و صن كلّ زرع أن ينازع خصبه | هجير و ريح – لا ترقّ – حطوم |
سنابل وفّت للطيور زكاتها | فحنّت إليها جنّة و نعيم |
و يا ربّ تدري الشام أنّي أحبّها | و أفنى و حبّي للشام يدوم |
و لي في ثراها من لداتي أعزّة | حماة إذا استخذى الشجاع قروم |
تهاووا تباعا واحدا بعد واحد | عليه انفراط العقد و هو نظيم |
تساقوا مناياهم ضحى العمر و انطوى | شبابهم الريّان و هو تميم |
و أسرف في الذكرى لأنزح نبعها | و لكنّ نبع الذكريات جموم |
إذا قلت غاضت بعد لأيّ تدفّقت | و للموج فيها كرّة و هجوم |
و تسدل أحيانا شفيف لثامها | كما لثم الفجر الضحوك سديم |
و في كلّ أيك لي على الشام منسك | و في كلّ دوح زمزم وحطيم |
و كلّ مقام فيك حتى على الأذى | حميد و كلّ النأي عنك ذميم |
حوالي الصبا إن لم تدرك عواطل | و ريح الصّبا ما لم تزرك سموم |
و يا ربّ إن سبّحت و الشام قبلتي | فأنت غفور للذنوب رحيم |
تهلّل عفو الله للذنب عندما | أطلّ عليه الذنب و هو وسيم |