منذ زمانٍ وأنا أحفرُ في هذا الظلام الموحشِ؛ |
لا أحفرُ بحثاً عن مفاتيحِ قلاعٍ أو كنوزِ مدنٍ ميّتةٍ، |
عن رُقُمٍ سوداءَ أو تيجانِ أجدادٍ ملوكٍ |
حُفظتْ أسمالهم في الطينِ. |
لا؛ بل أحفرُ الظلام كي أُبصر أسمائيَ في آخره .. |
أحفرُ كي أنظف المرآةَ من غبارها الأبكمِ .. |
أحفرُ الغيابَ كي أَرى |
شهوةَ نفسي حيّةً في صدأ الغيابْ. |
أحفرُ .. لا مستعجلاً ولا ملُولاً، |
أجمعُ الغصاتِ في إنائها الأسودِ |
والدموعَ في إنائها الكحليَّ |
والدماءَ في إنائها الحزينِ .... |
ثم أنفخُ الحياة في الحبرِ. |
... إذنْ: أحفرُ. |
.. .. .. .. |
بلْ أحفرُ كي أرى |
ما لا يُرى إلا بعينِ القلبْ: |
أحفرُ كي أراني. |
وهاأنا الآنَ كأنْ لستُ أنا |
أعود كالمنجّمِ الأعمى إلى ديار أسلافي: |
أَعدُّ الحجرَ الصامتَ والغبارَ/ |
حيرةَ الأشجار في هوائها الشائخِ.. |
ما خلّفهُ النسيانُ من تأتأةِ الطيورِ |
فوق غُصُنِ الحضارة الدامي.. |
أَعُدّ ضجرَ الظلالِ فوق نَعشها الأخضرِ |
(لا ظِلَّ لها سواها |
طافيةً فوق الخرابِ!..). |
وأَعُدّ وحشتي. |
.. .. .. .. |
.. .. .. .. |
سمعتُ أنّةَ الظلام تعلو، فطرقتُ حجرَ الظلامْ. |
طرقتُ حتى استيقظتْ عناصرُ الخليقةِ الأولى: |
العظامُ استيقظتْ .. ونهضتْ تمشي |
الضلوعُ استيقظتْ .. ونهضتْ تمشي |
النعاسُ استيقظَ .. |
استيقظتِ العناكبُ، الديدانُ، ذرّاتُ الهيولى الأمِّ، |
نملُ التعبِ الممجَّدُ .. |
استيقظتِ الروحُ .... |
وفرّتْ نحلةٌ!!.. |
شهقتُ: |
يا إله الأرض هذي نحلةُ الأجدادِ ما زالت هنا |
تُقطِّر الربيعَ من لعابها الأشقرِ؛ |
والدودُ الشقيٌّ ينسجُ النعاسَ في أبدهِ الداكنِ؛ |
والنملُ الذي كان هنا منذ قرونٍ لم يزل هنا |
يديرُ مغزل الموتِ ويصنع الحياااة/ |
و "اعبُدْني" .. يقولُ النملُ لي. |
"اعبدني" .. تقولُ يَرَقاتُ الضجرِ. |
"اعبدني" .. يقولُ السَرْوُ، والهواءُ، |
والنحل الشجاعُ (راهبُ الزهوْرِ) |
والماءُ البنيُّ .. توأمُ النور الذي يشهقُ تحت النوْرِ |
والبذورُ .. |
والطحالبُ العمياااءُ .... |
كلها تقول لي: |
"اعبدني ...". |
فأَطرُقُ الظلامَ كي أَعبدَ ما يفيضُ من أنواره على فمي |
أهزّ قلبَهُ الشقيَّ |
باحثاً (في قلبهِ الشقيّ) عن لؤلؤةِ اللطافةِ الأولى. |
أهزُّ قلبَهُ .. (لكي أهزّ قلبَهُ) |
فتسطعُ الحيرةُ زرقاءَ!... |
عِمِي إذنْ أيتها الحيرةُ .. |
عِمْ يا جدّيَ الظلامُ .. |
يا أرضُ عِمِي .. |
وعِمْ أخي الدودُ .. حكيمَ الندمِ الأعمى. |
وعِمْ صديقي النحلْ. |
وها أنا الآنَ، هنا، كأنني سوايَ: |
ندمي عالٍ وبأسي مالحٌ، |
وليس لي من فطنةِ الأمواتِ غيرُ أنني |
أحرثُ في حديقةِ الأموات: |
أستنطِقُ ما يهبُّ من ظلامهم على فمي .. |
أقولُ ما قالوه؛ |
أُحْيي شجنَ الكلامِ في محبرة الكلامِ؛ |
أرعى غنمي على مروجهم؛ |
أشربُ من إناءِ موتهم؛ |
أقول ما قالوهُ: (ما يقوله الظلامُ لي)؛ |
أستحضرُ الفطنةَ من طلاسم العبارةِ الأولى |
وأحني كبرياءَ الوحشِ قدّامَ إلهِ الوحشِ: |
"يا اللهُ، يكفي ألماً. |
تعبتُ. بل تعبتُ. بل تعبتُ مّما تتعبُ الوحوش منهُ. |
تعبتْ مخالبي، ناري، حديدي، شهوتي. |
تعبتُ من طيشِ رماحي .. وتعبتُ منكَ. |
داوِني إذنْ .. |
داوِ حديدي بحليبِ الضعف .. |
داوِ حيرتي بحيرةِ الجمااالِْ" |
..والأمواتُ، في حديقةِ الأمواتِ، أمواتٌ. |
يهذّبون حمتهم بعسلِ الظلامِ، |
يبنون بيوتهم من الظلامِ، |
يبكونَ ظلاماً ..، |
ويربّون إناثَ النحل في أفواههم |
لكي يلطّفوا |
مذاقَ نومهم. |
.. .. .. .. |
.. .. .. .. |
"أقولُ ما قالوهُ": |
هذا نحلنا الباكي، |
وهذا النحلُ شيخُ سعْينا الشقيّ، |
هذي الدودةُ الشقراءُ صوتُ نومنا، |
وهذه المروجُ .... دمُنا الأخضرُ. |
.. والماءُ لهاثُ ضعفِنا. |
"أقولُ ما قالوهُ". |
أستخدمُ ما كان لهم من حِيلِ العيشِ: الفؤوسَ، الكتبَ، |
النيرانَ، زهوَ الفقهاءِ، صلفَ الحديدِ، حبرَ الشعراءِ، شهواتِ |
الليلِ، ضعفَ العاشقينَ، الغضبَ، الحياءَ، ملحَ الخوفِ، |
طعمَ الألمِ الحامضَ، خوفَ الموتِ ..... |
ثم الموتُ !!... |
والهواءْ |
أزرقُ كالنسيانْ. |
.. .. .. .. |
.. .. .. .. |
"أقول ما قالوهُ".. |
ثم أنحني عليّ باكياً كأني حيرةُ الموتى .. |
كأني روحُهم تنهضُ في شجاعةِ النحلِ وحكمةِ النمااالِ/ |
"ما الذي جئتُ لكي أفعلهُ؟ .. -أقولُ هامساً لي. |
ما الذي أرغبُ في رؤيتهِ غيري؟ .. وما الذي؟ …". |
- جئتُ أصلّي لأله الضعفِ .. |
جئتُ أعبد الجمالَ صامتاً. |
..وهكذا ينفتحُ الظلامُ لي. |
أنامُ كالميْتِ إلى جوارهم .. فأبصرُ النجومْ |
أبصرهم فيها |
أبصرُ صوتَ موتِهم |
أشمُّ ملحَ الخوفِ في هوائهم (خوفي ...) |
أشمّ طعم الصلواتِ، الندمَ، الغفرانَ .. |
والضعفَ الذي صيّرهم آلهةً: |
أرى الجمالَْ. |