أرشيف الشعر العربي

شوارع.. ولغة.. وعيون سود

شوارع.. ولغة.. وعيون سود

مدة قراءة القصيدة : 3 دقائق .

أُرِيدُ لغةً أَكْبَرَ من هذا، أكْبَرَ من هذا الصراخِ الذي يَشُقُّ حَنْجَرَتي، أكْبَرَ من هذا الفرحِ المجنونِ الذي.. أُريدُ يا ربُّ لغةً أَكْبَرَ وأَشْرَسَ وأَدْقَّ وأَعْذَبَ وأَكْثَرَ قدرةً على التعبيرِ {والتمويهِ} تماماً بعيداً عن قوانينِ الإعرابِ الصارم

شوارع للفرحِ، شوارع لشَعركِ الطويلِ المجنونِ، شوارع لعينيكِ الواسعتين، لأجملِ عينين على الإطلاقِ، شوارع لنشر الرصاص عالياً بريئاً لأولِ مَرَّةٍ، شوارع للحَمَامِ، شوارع للساعةِ الخامسةِ فجراً، شوارع لا تَعْرِفُ الزعلَ، شوارع بلا نومٍ ومذيعينٍ، شوارع للسيرِ

وأتذكَّرُ يفتوشنكو: "لا يمكن أنْ يتضحَ معنى مُحَدَّد لكلمة سلام إلّا لهؤلاء الذين عرفوا ما هي الحرب.."..

وأتذكّرُ ريتسوس: "السلام هو رائحةُ الطعامِ عِنْدَ العشيةِ، عندما تعني الطَرْقَةُ على البابِ صديقاً. السلام هو كأسٌ من الحليبِ الدافيءِ، وكتابٌ أمام الطفلِ الذي سيستيقظُ.. يا أُمّهاتُ. إنَّ أفرانَ الخبزِ تنتظركنَّ لتعجنَّ فيها أرغفةَ السلام.."

مَنْ عرفَ معنى الحربِ غيرُنا؟

مَنْ دخلَ مساماتها؟ مَنْ لاكتهُ بين أسنانها ثمانيةَ أعوام؟

مَنْ تركَ أحلامَهُ مُعلّقةً على مِشْجَبِ الانتظارِ، وحملَ حقيبةَ الحربِ وأمشاطَ الرصاصِ وغابَ طويلاً في الأفواجِ المُتقدِّمةِ..

وها نحنُ نعود الآنَ ننفّضُ بقايا غبارَ المعاركِ عن أجسادنا وأرواحنا، ونَجلِسُ قليلاً في انتظارِ صوت المذيعِ المتهدّجِ وهو يُعلِنُ البيانَ الأخيرَ للحربِ، لنخرجَ أو قُلْ لنتدفّقَ إلى الشوارعِ بكلِّ جنونِ الفرحِ المخبوءِ طيلةَ ثمانية أعوام، بكلِّ هذا السيل

يا ربُّ.. أريدُ لغةً غير هذهِ.. أريدُ كلمات.. كلمات فقط.. كلمات غير هذه التي تخثَّرتْ على فمي طيلةَ الأعوام الماضية كبقعةِ دمٍ يابسةِ..

ماذا أفعلُ الآن بكلِ نزيف ذاكرتي..؟

ماذا أفعلُ بكلِّ أحزانِ التاريخِ التي شربتها مساماتي منذ نعومةِ أحلامي، وأنا على مقاعدِ الدراسةِ..؟

ماذا أفعلُ بكلِّ تاريخ قصائدِ البكاءِ والرِثَاءِ والهجرانِ.. يا ربُّ

ماذا افعلُ بكلِّ فرحِ الشوارعِ وهي تتدفّقُ فجأةً كنافورةٍ سوى أنْ أفتحَ صدري العاري المجرّحَ للقطراتِ الباردةِ، وأترُكُها تنسابُ على جروحي

ماذا أفعلُ سوى أنْ أُعْلِنَ انتمائي لهذا الفرح

ولا تقولوا أنَّ الشعراءَ أَمْيَلُ للحُزنِ، حاشا،... فلمْ تَعُدْ مثل هذه الكذبةِ الملفّقةِ، طيلةَ قرون البكاء، لتنطلي الآن.. لا عليَّ ولا عليكِ

هاتوا لي فرحاً بحجمِ فمي، واتركوا لي حُرِّيَةَ أنْ أحوّلَهُ - هذا الفمَ المتيبّسَ - إلى حقولِ مطرٍ، ونوافذِ ياسمين

هاتوا لي شوارعَ غَاصَّةً بكلِّ هذا الكرنفالِ الراقصِ حتى الصباح، وسأريكم كيفَ أُغَنِّي..

هاتوا لي، كلَّ هذا..

وسأريكم كيف تكركرُ لغةَ الشعراءِ، كأطفالٍ عراةٍ، يَركُضُون وراء المطرِ

وإذا كنّا صبرنا على كلِّ هذا.. فذلك من أجلِ وطن.. ليس إلّا..، وها نحن نراه الآن عائداً من طين الجبهات ورصاص السواتر البعيدة، يخلعُ خُوذَتَهُ متعباً، فَرِحاً. ويستريحُ من عناءِ الحربِ إلى الأبد

الخامسة فجراً..

بل السادسة..

والشوارع لمْ تنمْ بعدُ

لا تريدُ أنْ تنام

8/8/1988 بغداد

* * *

اخترنا لك قصائد أخرى للشاعر (عدنان الصائغ) .

مصادفة

عصفور

الحلاج

حبل

انكسارات حرف العين(2)