إن كان غيبك الترابُ الأحمرُ
مدة
قراءة القصيدة :
4 دقائق
.
إن كان غيبك الترابُ الأحمرُ | وحَلَلْتَ مَرْتاً لا يزورُك زُوَّرُ |
فلقد جزعتُ على فراقك بعدما | ظنُّوا بأنّي عنكَ جَهْلاً أصبِرُ |
فالنّارُ في جَنْبَيَّ يوقدُها الأسَى | و الماءُ من عينيَّ حزناً يقطرُ |
كم في الترابِ لنا محياً مشرقٌ | بيدِ المَواحي أو جبينُ أزهرُ |
ومرفَّعٌ فوقَ الرِّجالِ جلالة ً | و متوجٌ ومطوقٌ ومسورُ |
أعيتْ على طلبِ الرَّدى نُجُبُ السُّرى | وخُطا المَهارَى والجيادُ الضُّمَّرُ |
و مضى الأنامُ تكنهمْ آجالهمْ | فمغصَّصٌ ومنغَّصٌ ومُحَسَّرُ |
و مخالسٌ ما كان يحذر هلكه | و متاركٌ ومقدمٌ ومؤخرُ |
و كأنهمْ بيد الحمامِ يلفهمْ | عصفٌ تصفقهُ خريقٌ صرصرُ |
و مواطنٌ لترنمٍ وتنعمٍ | و مواطنٌ فيها الزوافر تزفرُ |
لو كان في خلدٍ لحيًّ مطمعٌ | فيها وروادِ المنية ِ مزجرُ |
لنجا المنونَ مغامرٌ في حومة ٍ | وخطا المنيَّة َ في العرين القَسْوَرُ |
و لسدّ طرقَ الموتِ عن أبوابه | كسرى وحادَ عن المنيَّة ِ قيصَرُ |
ولكانَ مَن وُلدتْ نِزَارٌ في حمًى | منهُ ودفّاعُ العظيمة ِ حِمْيَرُ |
ولمَا مضَى طَوعَ الرَّدى مُتكبِّرٌ | سكن القلاعَ ولا مضى متجبرُ |
و لما خلا عن أهله ووفودهِ | و ضيوفهِ فينا مكانٌ مقفرُ |
فانظرْ بعينكَ هل تَرى فيما مضى | عنا وصار إلى الترابِ مخبرُ ؟ |
و لقد فقدتُ معاشراً ومعاشراً | ويسرُّني أنْ لم يكنْ ليَ معشَرُ |
و اشتطّ روادُ الحمامِ عليَّ في | أهلي وقومي فانتقَوْا وتَخيَّروا |
فمجدلٌ وسطَ الأسنة ِ بالقنا | و يمينه فيها حسامٌ يشهرُ |
و معصفرٌ أثوابهَ طعنُ القنا | ما كان يوماً للباسِ يعصفرُ |
و مقطرٌ لولا القضاءُ تقطرتْ | فينا النجومُ ولم يكن يتقطرُ |
و معفرٌ دخل السنانُ فؤاده | ما كانَ يألفُه الترابُ الأحمرُ |
و الذاهبون من الذين ترحلوا | ممَّنْ أقامَ ولم يَفُتْني أكثرُ |
خذْ بالبنانِ من الحياة فإنما | هو عارضٌ متكشفٌ متحسرُ |
و دعِ الكثيرَ فإنما لهمومهِ | جمعَ النُّضارَ إلى النُّضارِ مُبَدِّرُ |
وكأَنَّما ظلُّ الحياة ِ على الفتى | ظِلٌّ أتاهُ في الهجيرِ مُهجِّرُ |
ما للفتى في الدهر يومٌ أبيضٌ | ووراءَهُ بالرُّغم موتٌ أحمرُ |
ولِمنْ تراهُ ساكناً في قصرهِ | متنعِّماً هذي الحفائرُ تُحفرُ |
وعلى أبي الفتحِ الّذي قنصَ الرَّدى | ماءُ الأسى من مقلتي يتحدرُ |
قد كانَ لي منه أنيسٌ مُبهِجٌ | فالآنَ لي منه وَعوظٌ مُذْكِرُ |
إنْ لم يكن مِن عُنصري وأُرومتي | فلحُرمة ِ الآدابِ فينا عنصرُ |
أو لم تكنْ للعُربِ فيك ولادَة ٌ | فالمعربون كلامهمْ بك بصروا |
" ما ضرّ " شيئاً من نمته أعاجمٌ | و لديه آدابُ الأعاربُ تسطرُ |
و لكمْ لنا عربُ الأصولِ تراهمُ | عمياً عن الإعرابِ لم يستبصروا |
و لقد حذرتُ من التفرق بيننا | شحاً عليك فجاءني ما أحذرُ |
وذخرتُ منكَ على الزّمانِ نفيسة ً | لو كان يُبقى للفتَى مايَذخَرُ |
ونَفضتُ بعدكَ راحتي من معشرٍ | لو سابقوك إلى الفضيلة ِ قصروا |
فمتى حَزِنتُ عُذِرتُ فيك على الأسى | وإذا سَلوتُ فإنَّني لا أُعذَرُ |
و الغدرُ سلوانُ الفتى " لحميمهِ " | بعدَ الحِمامِ وليس مِثليَ يغدُرُ |
ولقد رأيتُكَ مُطفئاً من لوعتي | و الحزن يملي منه ما أنا أسطرُ |
فافخرْ بها مَيْتاً فكم لمعاشرٍ | من بعد أن قبروا بقبر مفخرُ |
كَلِماً يُعِرْنَ الشِّيبَ أردية َ الصِّبا | فكأنهمْ طرباً بها لم يكبروا |
وتراهُ طَلاَّعاً لكلِّ ثَنيَّة ٍ | يسري بأفواه الورى ويسيرُ |
يصفو بلا كدرٍ يشنين صفاءه | والشِّعرُ يصفو تارة ً ويُكدَّرُ |
و كأنه في ليلِ أقوالٍ مضتْ | قمرٌ بدا وسْطَ الدُّجُنَّة ِ أنورُ |
فإليه منا كلُّ طرفٍ ناظرٌ | وعليه مِنّا كلُّ جِيدٍ أصْوَرُ |
وسقاكَ ربُّك ماءَ كلِّ سحابة ٍ | تهمى إذا ونتِ الغيوم وتمطرُ |
و إذا طوتْ عنك العداة ُ كنهوراً | وافى ترابك بالعشيّ كنهورُ |
وكأنَّه والبَرقُ ملتمعٌ بهِ | بردٌ على أيدي الرياحِ محبرُ |
ومتى ذهبتَ بزلَّة ٍ فإلى الّذي | يمحو جرائر من يشاء ويغفرُ |