زعم الغراب منبىء الأنباء
مدة
قراءة القصيدة :
4 دقائق
.
زَعَمَ الغُرَابُ مُنَبّىءُ الأنْبَاءِ، | أنّ الأحِبّةَ آذَنُوا بِتَنَاءِ |
فاثلِجْ بِبَرْدِ الدّمعِ صَدراً وَاغراً، | وَجوَانِحاً مَسْجُورَةَ الرّمْضَاءِ |
لا تَأمُرَنّي بالعَزَاءِ، وَقَدْ ترَى | أثَرَ الخَلِيطِ، ولاتَ حِينَ عَزَاءِ |
قَصَرَ الفِرَاقُ عن السّلُوّ عَزِيمَتي، | وَأطالَ في تِلْكَ الرّسومِ بُكائي |
زِدْني اشْتِياقاً بالمُدامِ، وَغَنّني، | أعْزِزْ عَليّ بِفُرْقَةِ القُرَنَاءِ |
فَلَعَلّني ألْقى الرّدى، فَيُريحَني، | عَمّا قَلِيلٍ، منْ جَوى البُرَحاءِ |
أخَذَتْ ظُهُورُ الصّالِحِيّةِ زِينَةً | عَجَباً مِنَ الصّفْرَاءِ والحَمْرَاء |
نَسَجَ الرّبيعُ لِرَبْعِها دِيبَاجَةً، | مِنْ جَوْهَرِ الأنْوَارِ بالأنْوَاءِ |
بَكَتِ السّماءُ بِها رَذَاذَ دُموعِها، | فَغَدَتْ تَبَسَّمُ عن نُجُومِ سَمَاءِ |
في حُلّةٍ خَضْرَاءَ نَمْنَمَ وَشيَها | حَوْكُ الرّبِيعِ، وَحِلَةٍ صَفْرَاءِ |
فاشْرَبْ على زَهرِ الرّياضِ يَشوبُهُ | زَهْرُ الخُدودِ، وَزَهرَةُ الصّهباءِ |
مِنْ قَهْوَةٍ تُنْسي الهُومَ وَتبعَثُ الـ | ـشّوْقَ الّذي قدْ ضَلّ في الأحْشَاءِ |
يُخْفي الزّجاجَةَ لَوْنُها، فَكَأنّهَا | في الكَفِّ قائِمَةٌ بغَيرِ إناءِ |
وَلهَا نَسيمٌ كالرّياضِ، تنَفّسَتْ | في أوْجُهِ الأرْوَاحِ، وَالأنْداءِ |
وَفَوَاقِعٌ مِثلُ الدّموعِ، ترَدّدَتْ | في صَحْنِ خَدّ الكاعِبِ الحسْناءَ |
يَسْقِيكَها رَشَأٌ يَكادُ يرُدّهَا | سَكرَى بِفَتْرَةِ مُقْلَةٍ حَوْرَاءِ |
يَسْعَى بها، وَبِمثِلِها مِنْ طَرْفِهِ، | عَوْداً وَأبْداءً على النُّدَماءِ |
مَا للجَزِيرَةِ وَالشّآمِ تَبَدّلا، | بَعْدَ يابنِ يوسَفُ، ظُلْمةً بيضَاءِ |
نضب الفُرَاتُ، وكان بحْراً زاخِراً، | وَاسْوَدّ وَجْهُ الرَّقّةِ البَيْضَاءِ |
وَلَقَدْ تَرَى بأبي سَعِيدٍ مَرّةً | مَلْقَى الرّحالِ، وَمَوْسِمَ الشّعَرَاءِ |
إذْ قَيْظُها مِثْلُ الرّبِيعِ، وَلَيْلُها | مِثْلُ النّهارِ، يُخالُ رَأدَ ضُحاءِ |
رَحَل الأميرُ مُحمّدٌ، فَتَرَحّلَتْ | عَنهّا غَضَارَةُ هَذِهِ النّعْمَاءِ |
وَالدّهْرُ ذُو دُولٍ، تَنَقَّلُ في الوَرَى | أيّامُهُنّ تَنَقُّلَ الأفْيَاءِ |
إنّ الأمِيرَ مُحَمّداً لمُهَذَّبُ الْـ | ـإفْعَالِ في السّرَاءِ والضّرّاءِ |
مَلِكٌ، إذا غشِيَ السّيوفَ بوَجْهِهِ، | غَشِيَ الحِمامُ بِأنْفُسِ الأعْدَاءِ |
قُسِمَتْ يَداهُ بِبَأسِهِ وَسَمَاحِهِ | في نّاسِ، قِسْمَيْ شِدّةٍ وَرَخاءِ |
مُلِئَتْ قُلوبُ العَالَمِينَ بفِعْلِهِ الْـ | ـمَحْمودِ مِنْ خَوْفٍ لَهُ وَرَجاءِ |
أغْنى جماعَةَ طَيّءٍ عمّا ابْتَنَتْ | آباؤهَا القُدَمَاءُ لِلأبْنَاءِ |
فَإذا هُمُ افْتَخَرُوا بِهِ لمْ يبَجحوا | بِقَديمِ مَا ودِثُوا منَ العَلْياءِ |
صَعِدُوا جِبالاً مِنْ عُلاكَ، كأنّها | هَضَباتُ قُدْسَ، وَيذْبُلٍ، وَحرَاءِ |
واستمطروُا في المحْلِ منكَ خَلائِقاً، | أصْفَى وَأعْذَبَ منْ زُلالِ الماءِ |
وَضَمِنْتَ ثأرَ مُحَمّدٍ لهُمُ عَلى | كَلَب العدَى، وَتَخاذُل الأحْيَاءِ |
ما انْفَكّ سَيْفُكَ غادِياً، أوْ رَائِحاً | في حَصْدِ هامَاتٍ، وَسفْكِ دماءِ |
حَتّى كفيتَهُمُ الذي استكْفَوْكَ مِنْ | أمْرِ العِدَى، وَوَفَيْتَ أيّ وَفاءِ |
ما زلْتَ تَقْرَعُ بابَ بابَكَ بالقَنَا، | وَتَزُورُهُ في غَارَةٍ شَعْوَاءِ |
حَتى أخذْتَ بنصْلِ سيْفكَ عَنوَةً، | مِنْهُ الّذي أعْيا عَلى الحلفاء |
أخْلَيْتَ مِنْهُ البَذّ، وَهيَ قَرَارُهُ، | وَنَصَبْتَهُ عَلَماً بِسامِرَاءِ |
لمْ يُبْقِ منهُ خَوْفُ بَأسِكَ مَطَعماً | للطّيْرِ في عَوْدٍ، وَلا إبْدَاءِ |
فَتَرَاهُ مُطَّرِداً عَلى أعوَادِهِ، | مِثْلَ اطّرَادِ كَواكبِ الجَوْزَاءِ |
مُسْتَشْرِفاً للشمسِ، مُنْتصِباً لهَا، | في أُخْرَياتِ الجِذْعِ كالحِرْباءِ |
وَوَصَلْتَ أرْضَ الرّومِ وَصْلَ كُثَيّرٍ | أطْلالَ عَزّةَ، في لِوَى تَيْماءِ |
في كُلّ يَوْمٍ قَدْ نَتَجْتَ مَنِيّةً | لِحُماتِها، مِنْ حَرْبِكَ العُشَرَاءِ |
سَهّلْتَ مِنها وَعْرَ كُلّ حُزُونَةٍ، | وَمَلأتَ مِنْها عَرْضَ كلّ فضَاءِ |
بالخَيل تحمِلُ كلَّ أشعثَ دارِعٍ، | وَتُوَاصِلُ الإدْلاجَ بالإسْرَاءِ |
وَعَصَائِبٍ يَتَهافتُونَ، إذا ارْتَمَى | بهِمِ الوَغَى في غَمْرَةِ الهَيْجاءِ |
مِثْلَ اليَرَاعِ بَدَتْ لهُ | لَفّتْهُ ظُلْمَةُ لَيْلَةٍ لَيْلاءِ |
يَمْشُونَ في زَغَفٍ، كأنّ مُتونَها، | في كُلّ مَعْرَكَةٍ، مُتونُ نِهاءِ |
بِيضٌ تَسيلُ، على الكُماةِ، فُضُولُها | سَيْلَ السّرَابِ بِقَفْرَةٍ بيْداءِ |
فإذا الأسِنّةُ خَالَطَتْها خِلْتَها | فِيهَا خَيَالُ كَوَاكبٍ في ماءِ |
أبْنَاءُ مَوْتٍ يَطْرَقونَ نُفوسَهُمْ | تحْتَ المَنَايًّا، كُلَّ يوْمِ لِقَاءِ |
في عارِضِ يَدِقُ الرّدَى ألهَبْتَهُ | بِصَوَاعِقِ العَزَمَاتِ وَالآرَاءِ |
أشلى على منوِيلَ أطرَافَ القنا، | فنجا عتيقَ عتيقَةٍ جَرْداءِ |
وَلَوَ أنّهُ أبْطَأ لَهُنّ، هُنيهّةً، | لَصَدَرْنَ عنْهُ، وَهُنّ غَيرُ ظِماءِ |
فَلَئِنْ تَبقَاهُ القَضَاءُ لوَقْتِهِ | فَلَقَدْ عَمَمْتَ جُنودَهُ بِفَناءِ |
أثْكَلْتَهُ أشْياعَهُ، وَتَرَكْتَهُ | لِلْموْتِ مُرْتَقِباً صَباحَ مَسَاءِ |
حَتّى لَوِ ارْتَشَفَ الحديدَ، أذابَهُ | بالْوَقْدِ مِنْ أنْفاسِهِ الصُّعَدَاءِ |