النبي المجهول
مدة
قراءة القصيدة :
4 دقائق
.
أيْها الشعبُ! ليتني كنتُ حطَّاباً | فأهوي على الجذوعِ بفأسي! |
ليتَني كنتُ كالسيّولِ، إذا ما سالَتْ | تهدُّ القبورَ: رمْساً برمٍسِ! |
ليتَني كنتُ كالريّاح، فأطوي | ورودُ الرَّبيع مِنْ كلِّ قنْس |
ليتني كنتُ كالسّتاء، أُغَشِّي | كل ما أَذْبَلَ الخريفُ بقرسي! |
ليتَ لي قوَّة َ العواصفِ، يا شعبي | فأُلقي إليكَ ثَوْرة َ نفسي! |
ليت لي قوة َ الأعاصيرِ! إن ضجَّتْ | فأدعوكَ للحياة ِ بنبسي! |
ليت لي قوة َ الأعاصيرِ..! لكْ | أنتَ حيٌّ، يقضي الحياة برمسِ..! |
أنتَ روحٌ غَبِيَّة ٌ، تكره النّور، | وتقضي الدهور في ليل مَلْس... |
أنتَ لا تدركُ الحقائقَ إن طافتْ | حواليكَ دون مسّ وجسِ... |
في صباح الحياة ِ صَمَّخْتُ أكوابي | وأترعتُها بخمرة ِ نفسي... |
ثُمَّ قدَمْتُها إليكَ، فأهرقْتَ | رحيقي، ودُستَ يا شعبُ كأسي! |
فتألَّمت..، ثًمَّ أسكتُّ آلامي، | وكفكفتُ من شعوري وحسّي |
ثُم نَضَّدْتُ من أزاهيرِ قلبي | باقة ً، لمْ يَمَسَّها أيُّ إِنْسِي... |
ثم قدّمْتُها إليكَ، فَمزَّقْتَ | ورودي، ودُستَها أيَّ دوسِ |
ثم ألبَسْتَني مِنَ الحُزْنِ ثوباً | وبشوْك الجِبال توَّجتَ رأسي |
إنني ذاهبٌ إلى الغابِ، ياشَعْبي | لأقضي الحياة َ، وحدي، بيأسي |
إنني ذاهبٌ إلى الغابِ، علَّي | في صميم الغابات أدفنُ بؤسي |
ثُمَّ أنْسَاكَ ما استطعتُ، فما أنت | بأهْلِ لخمرتي ولكَأسي |
سوف أتلو على الطُّيور أناشيدي، | وأُفضي لها بأشواق نَفْسي |
فَهْي تدري معنى الحياة ، وتدري | أنّ مجدَ النُّفوسِ يَقْظَة ُ حِسِّ |
ثم أقْضي هناك، في ظلمة الليل، | وأُلقي إلى الوجود بيأسي |
ثم تَحْتَ الصَّنَوْبَر، النَّاضر، الحلو، | تَخُطُّ السُّيولُ حُفرة َ رمسي |
وتظَلُّ الطيورُ تلغو على قبْرِي | ويشدو النَّسيمُ فوقي بهمس |
وتظَلُّ الفصولُ تمْشي حواليَّ، | كما كُنَّ في غَضارَة أمْسي |
أيّها الشّعبُ! أنتَ طفلٌ صغيرٌ، | لاعبٌ بالتُّرابِ والليلُ مُغْسِ..! |
أنتَ في الكَوْنِ قوَّة ٌ، لم تَنسْسها | فكرة ٌ، عبقريَّة ٌ، ذاتُ بأسِ |
أنتَ في الكَوْنِ قوة ٌ،كبَّلتْها | ظُلُمَاتُ العُصور، مِنْ أمس أمسِ.. |
والشقيُّ الشقيُّ من كان مثلي | في حَسَاسِيَّتي، ورقَّة ِ نفسي |
هكذا قال شاعرٌ، ناولَ النَّاسَ | رحيقَ الحياة ِ في خير كأسِ |
فأشاحُوا عنْها، ومرُّوا غِضابا | واستخفُّوا به، وقالوا بيأس: |
"قد أضاعَ الرشّادُ في ملعب الجِنّ | فيا بؤسهُ، أصيب بمسّ |
طالما خاطبَ العواصفَ في الليلِ | ويَمْشي في نشوة ِ المُتَحَسِّي |
طالما رافقَ الظلامَ إلى الغابِ | ونادى الأرواحَ مِن كلِّ جِنْس» |
طالما حدَّثَ الشياطينَ في الوادي، | وغنّى مع الرِّياح بجَرسِ» |
إنه ساحرٌ، تعلِّمُه السحرَ | الشياطينُ، كلَّ مطلع شمسْ |
فکبعِدوا الكافرَ الخبيثَ عن الهيكلِ | إنّ الخَبيثَ منبعُ رِجْسِ» |
«أطردوه، ولا تُصيخوا إليه | فهو روحٌ شريِّرة ٌ، ذات نحْسِ |
هَكَذا قَال شاعرٌ، فيلسوفٌ، | عاشَ في شعبه الغبيِّ بتَعْسِ |
جَهِلَ الناسُ روحَه، وأغانيها | فساموُا شعورَه سومَ بخْسِ |
فَهْوَ في مَذهبِ الحياة ِ نبيٌّ | وَهْوَ في شعبهِ مُصَابٌ بمسِّ |
هكذا قال، ثمّ سَار إلى الغابِ، | ليَحْيا حياة شعرٍ وقُدْسِ |
وبعيداً، هناك..، في معبد الغاب | الذي لا يُظِلُّه أيُّ بُؤْسِ |
في ظلال الصَّنوبرِ الحلوِ، والزّيتونِ | يقْضي الحياة َ: حرْساً بحرْسِ |
في الصَّباح الجميل، يشدو مع الطّير، | ويمْشي في نشوة ِ المنحسِّي |
نافخاً نايَه، حوالْيه تهتزُّ | ورودُ الرّبيع منْ كلِّ فنسِ |
شَعْرُه مُرْسَلٌ- تداعُبه الرّيحُ | على منكبْيه مثلَ الدُّمُقْسِ |
والطُّيورُ الطِّرابُ تشدو حواليه | وتلغو في الدَّوحِ، مِنْ كُلِّ جنسِ |
وترا عند الأصيل، لدى الجدول، | يرنو للطَّائرِ المتحسِّي |
أو يغنِّي بين الصَّنوبرِ، أو يرنو | إلى سُدْفَة الظَّلامِ الممسّي |
فإذا أقْبَلَ الظلامُ، وأمستْ | ظلماتُ الوجودِ في الأرض تُغسي |
كان في كوخه الجميل، مقيماً | يَسْألُ الكونَ في خشوعٍ وَهَمْسِ |
عن مصبِّ الحياة ِ، أينَ مَدَاهُ؟ | وصميمِ الوجودِ، أيَّان يُرسي؟ |
وأريجِ الوُرودِ في كلِّ وادٍ | ونَشيدِ الطُّيورِ، حين تمسِّي |
وهزيمِ الرِّياح، في كلِّ فَجٍّ | وَرُسُومِ الحياة ِ من أمس أمسِ |
وأغاني الرعاة ِ أين يُواريها | سُكونُ الفَضا، وأيَّان تُمْسي؟؟ |
هكذا يَصْرِفُ الحياة َ، ويُفْني | حَلَقات السنين: حَرسْاً بحرْسِ |
يا لها من معيشة ٍ في صميم الغابِ | تُضْحي بين الطيور وُتْمْسي! |
يا لها مِنْ معيشة ٍ، لم تُدَنّسْهَا | نفوسُ الورى بخُبْثٍ ورِجْسِ! |
يا لها من معيشة ٍ، هيَ في الكون | حياة ٌ غريبة ٌ، ذاتُ قُدسِ |