أرشيف المقالات

هل حرصت على بر الوالدين؟

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن البعض يلقى إخوانه بوجه طلق، وفيه أمارات البشارة والتقوى والصلاح، ثم هو بعد ذلك يعبس في وجه والديه، ويحدّ النظر إليهما، ويرفع الصوت واليد في وجههما، ويتسبب في شقائهما وبكائهما دون وجه حق، وكلها من صور العقوق.

والعقوق كبيرة من الكبائر، ويقول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} [الإسراء:23]، أي: "قولًا لينًا سهلًا" كما قال قتادة، "وهو قول العبد المذنب للسيد الفظ"، كما قال ابن المسيب.

وكان الحسن بن علي رضي الله عنه يقول: "لو علم الله شيئًا في العقوق أدنى من أفٍ لحرمه، فليعمل العاق ما شاء فلن يدخل الجنة"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ وَلا عَاقٌّ وَلا مُدْمِنُ خَمْرٍ» (رواه النسائي، وصححه الألباني).

وقال رجل لعمر رضي الله عنه: "إن لي أمًّا بلغ منها الكبر، وإنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية، فهل أديت حقها؟"، قال: "لا؛ لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه وتتمنى فراقها".

كيف يكون البر بالوالدين؟
سئل فضيلة الشيخ صالح بن عثيمين رحمه الله: كيف يكون البر بالوالدين؟ وهل يجوز الصدقة عنهما؟

فأجاب: "إن البر بالوالدين يعني: الإحسان إليهما بالمال والجاه والنفع البدني وهو واجب، وعقوق الوالدين من كبائر الذنوب، وهو: منع حقهما والإحسان إليهما في حياتهما معروف، وكما ذكرنا آنفًا يكون بالمال والجاه والبدن، وأما بعد موتهما فيكون برهما بالدعاء لهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ وصيتهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا صلة لك بها إلا بهما.

فهذه خمسة أشياء من بر الوالدين بعد الموت، وأما الصدقة عنهما فهي جائزة، ولكن لا يقال للولد: تصدق، بل يقال: إن تصدقت فهو جائز وأفضل، وإن لم تتصدق فالدعاء لهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ» (رواه مسلم).

فذكر النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء بمقام التحدث عن العمل، فكان هذا دليلًا على أن الدعاء للوالدين بعد موتهما أفضل من الصدقة عنهما، أفضل من العمرة لهما، وأفضل من قراءة القرآن لهما، والله أعلم".

أمك..
ثم أمك..
ثم أمك..
ثم أبوك:
سئل فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين: لماذا فضَّل الله الأم على الأب، وقد خص الرسول صلى الله عليه وسلم الأم ثلاث مرات والأب مرة واحدة؟

أجاب فضيلته: "ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه:..."يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟"، قَالَ: «أُمُّكَ»، قَالَ: "ثُمَّ مَنْ؟"، قَال: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: "ثُمَّ مَنْ؟"، قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: "ثُمَّ مَنْ؟"، قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ»، وفي رواية: «أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ» (رواه البخاري)، وفي هذا عظم حق الأم على الولد حيث جعل لها ثلاثة حقوق، وسبب ذلك أنها صبرت على المشقة والتعب، ولاقت من الصعوبات في الحمل والوضع والفصال والرضاع والتربية الخاصة ما لم يفعله الأب، وجعل للأب حقًّا واحدًا مقابل نفقته وتربيته وتعليمه وما يتصل بذلك، والله أعلم".

بر الوالدين مقدم على الجهاد والهجرة؟
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "جاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الجِهَادِ، فَقَالَ: «أَحَيُّ وَالِدَاكَ؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» (متفق عليه).

وعنه رضي الله عنه قال: "أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنْ اللَّهِ"، قَالَ: «فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ»، قَالَ: "نَعَمْ، بَلْ كِلاهُمَا"، قَالَ: «فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنْ اللَّهِ؟!»، قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا» (رواه مسلم).

طاعتهما في غير معصية الله:
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "ليس عليك طاعتهما في معصية الله، ولا فيما يضرك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوف» (متفق عليه)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِى مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» (رواه أحمد وصححه الألباني)، الذي ينهاك عن صحبة الأخيار لا تطعه، ولا تطع أحدًا في مصاحبة الأشرار، ولكن خاطب والديك بالكلام الطيب، وبالتي هي أحسن، كأن تقول: يا والدي كذا....، يا أمي كذا....".

تأمل..
تذكر..
قارن:
رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلًا قد حمل أمه على رقبته، وهو يطوف بها حول الكعبة، فقال: "يا ابن عمر، أتراني جازيتها؟"، قال: "ولا بطلقة واحدة من طلقاتها، ولكن قد أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيرًا".

أخي الحبيب:
بر أباك كما تبر أمك، فإن بر الوالدين يزيد في العمر والرزق، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَيُزَادَ فِي رِزْقِهِ؛ فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» (رواه أحمد وحسنه الألباني)، وقال صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلاَّ الْبِرُّ، وَلاَ يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» (رواه ابن ماجة وغيره، وحسنه الألباني)، ومن البر: بر الوالدين، قال الشاعر:زر والديك وقف على قبريهما *** فكأني بك قد حُـملت إليهما
عقوق الوالدين من أكبر الكبائر:
قال صلى الله عليه وسلم: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبائِرِ؟!»، قَالُوا: "بَلى يا رَسُولَ اللهِ"، قَالَ: «الإِشْراكُ بِاللهِ وَعُقوقُ الْوالِدَيْنِ، وَقَوْلُ الزّورِ» (متفق عليه). وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ والِدَيْهِ»، قِيلَ: "يا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ والِدَيْهِ؟!"، قَالَ: «يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَباهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ» (متفق عليه). وقال صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ» (رواه مسلم).

فعلى المسلم أن يعرف حق أبويه ويعترف بإحسانهما، ويلين لهما القول، ويتواضع لهما ويلبي طلبهما مهما كلفه ويحرص على مجازاتهما بقدر ما يستطيع، ويتوب إلى الله من كل ذنب صدر منه في حقهما، ويسألهما الرضا عنه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رِضا الرَّبِّ في رِضَا الوَالِدَيْنِ، وسُخْطُهُ في سُخْطِهِما» (رواه الطبراني وصححه الألباني).

فائدة عظيمة:
قال مجاهد: "لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده إذا ضربه، ومن شد النظر إلى والديه لم يبرهما، ومن أدخل عليهما ما يحزنهما فقد عقهما".

العاق لوالديه لا تقبل منه الأعمال:
قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يقبل الله عز وجل منهم صرفًا ولا عدلا، عاق ومنان ومكذب بالقدر» (رواه الطبراني وحسنه الألباني)، أي لا يقبل منهم توبة ولا فدية لأنفسهم، والله أعلم.

لا يدخل الجنة ولا ينظر الله إليه:
قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنان بما أعطى» (رواه النسائي وصححه الألباني).

قلب الأم:أغـــرى امـــرؤ غــلامـًا جـــاهـــلا بنـــقـوده كــي ما ينــــال بـه الوطــر
قـال: ائتـني بـفــؤاد أمـــك يا فتـى ولــك الجواهر والـدراهـم والــدرر
فمضى وأغـرز خنجرًا في صدرها والقلب أخرجـه وعـاد على الأثـــر
لــكــنه مــن فــرط سـعـته هـــوى فتدحـرج القـــلب المـقطـع إذ عثـر
نــاداه قـلــب الأم وهـو مـعــفـــر: ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر
فكأن هذا الصـوت رغــــم حنــــوه غضب السماء على الغلام قد انهمر
فـــدرى فـظـيـع جنــاية لـم يجنها ولـــد ســـواه منــذ تـاريـخ البــشر
فــارتــد نحـو القـلب يغسـله بـمـا فاضت به عيـناه مــن سـيل العــبر
ويــقول: يا قلب انـتقـم منـي ولا تــغــفــر فــإن جريمـتي لا تـغتـفر
واســتل خنــجـره ليطـعـن قــلبــه طعـنًا فيـبقى عــبرة لـمــن اعـتبـر
نــاداه قلــب الأم: كـــف يـــدًا ولا تطعن فــؤادي مرتين عــلى الأثــر 


شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣