نظرية ديورانت لا تصلح
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
بعض النظريات يؤسس وبعضها يفسر. بعضها يصنع الحدث والظواهر الاجتماعية، وبعضها يفسر الظواهر الاجتماعة والأحداث الفردية.
وكل منا يمتلك كلا النوعين من النظريات: المؤسسة والمفسرة.
فكل منا عنده تصور –ولو بسيط أو ساذج- يحاول أن يشكل الواقع على أساسه..
بمعنى يحاول أن يجعل الواقع موافقًا لهذا التصور؛ وكل منا يفهم الحدث بطريقة خاصة، أو يستقبل نوعًا معين من المعرفة يتناسب مع تركيبته النفسية والذهنية.
هذه مسلمة مستقرة في خاطر كل أحد.
ولذا لا تتعايش القيم والمفاهيم إلا في إطار غالب ومغلوب..
تابع ومتبوع.
ونفس الحدث تتنوع حوله الأفهام كل حسب ما يسكنه من نظريات مفسره، ويتنوع السعي كل حسب ما يسكنه من نظريات مؤسسة.
هذه المسلمة يعرفها كل أحد، ويقفز عليها عمدًا، أو جهلًا، ديورانت في نظريته لتفسير التاريخ (نظرية التحدي والاستجابة).
ويدخل الأتباع المأخوذين بما اشتهر فقط لأنه اشتهر دون وعي لأن الشهرة في هذه الأيام من فعل الأدوات ولا ترجع بالضرورة للمحتوى العلمي وحده، وأن السلطة تنشر نوعًا معينًا من المعرفة يناسب أغراضها، وأن ديورانت استخدم-هو وغيره- من قبل القوى المهيمنة من أجل نشر معرفة ترسخ هيمنة الغرب.
نظرية التحدي والاستجابة تفترض أن الحضارات تنشأ حين يمارس عليها نوعًا من التحدي يحفزها للاستجابة والمقاومة ومن ثم محاولة فرض رؤيتها واقعًا.
يفترض ديورانت أن هذه المقولة تصلح إطارًا لتفسير نشوء الحضارات!!
لا تصلح نظرية ديورانت (التحدي والاستجابة) لتفسير نشأة الحضارة الإسلامية، لا في نسختها الأولى، ولا في محاولات الإحياء والتجديد المتكررة عبر العصور.
فالإسلام لم يبدأ من تحديات واقعية استجاب لها بما يناسبها.
بل برسالة من الله-سبحانه وتعالى وعز وجل- أعطت رؤى خاصة لتفسير سبب الخلق والهدف من الحياة والمآل بعد الممات، والذين استجابوا لله ورسوله تغيروا هم أنفسهم وغيروا الواقع.
الله-سبحانه وتعالى- هو الذي حدد من يتلقى رسالته والمكان الذي تبدأ منه الدعوة {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}.
والدعوة إلى الله مستمرة للكافرين وللمؤمنن {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}.
فمصدرها الوحي، وحركة التجديد مستمرة، وموطنها في الأحكام الفقية التي تستنبط من الكليات ما يناسب الجزئيات (تفاصل الحياة المتجددة) لتبقى حركة القيم مقيدة بأصول ومرنة ف التفاصيل.
وحركات التجديد المعاصرة نشأت لأمرين: الأول: توطين مجموعة من القيم تمثل ماهية رسالة الله-سبحانه وتعالى وعز وجل- للبشر..
يحاولون أن تحضر هذه القيم واقعًا في حياة الناس...
أو أن تستأنف الحياة على منهج الإسلام الذي شرعه الله لعباده، ما يقال له (تحكيم الشريعة).الثاني: رد فعلٍ للهيمنة الغربية على العالم الإسلامي، ابتداءً من إخراج المسلمين من الأندلس، ومرورًا باحتلال العالم الإسلامي، وتفتيته إلى أجزاء (دول قومية)، وانتهاءً بصيغ الحكم التي فرضت على المسلمين أنماطًا من العيش يرفضها الإسلاميون.
وهذه التحديات التي أوجدها الغرب تدخل في مجال الأحكام الفقهية ولا ترقى لمستوى الأصول: إلا عند نفرٍ ممن يتحدثون بالمقاصد، بمعنى أن لنا قواعد كلية (العقدية) نحاول توطينها ونراعي حال التوطين ما نستطيعه {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وما يتعذر علينا (التحديات الخارجية) تتعامل معه قواعدنا الكلية، مثل المشقة تجلب التيسر، وتبقى القاعدة الكلة كما هي صلبة تنتظر العاملين لله يطوعون الواقع حتى تتطبق كلية.
إلا قلة طال عليها الأمد فقلبت فكرة المقاصد واتكئت عليها وهي منكفئة..
منكسة.
فمن يتدبر في الفقه ساعة يعلم أن المقاصد تعرف من الأحكام..
نقرأ أحكام الشرع ثم نقول: مقصد الشرع كذا.
إلا أن هؤلاء قلبوا هذه الحقيقة فأتوا بالمقاصد وفسروها من عند أنفسهم ثم راحوا يشرعون الأحكام في ظل فهمهم هم لما ادعوه مقاصدًا، ولم ينتبه أحدهم أن مقاصدهم هي هي مقاصد الكفر وأهله أو قريبة منه!!
ديورانت والمؤمنين بنظريته..
يحاولون تفسير حركة التاريخ في إطار الفعل ورد الفعل، وفي أحسن الأحوال هي نظرة تصلح لتفسير بعض الظواهر الاجتماعية، وليست نظرية شمولية، ولا يمكن لمؤمن بالله وما أنزل على رسوله، صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن لعاقل يتدبر في حركة التاريخ أن تبنى هذا التفسير العلماني لحركة الناس.
إن التاريخ صراع بين الحق والباطل.
صراع بين المؤمنين بالله والمؤمنين بوساوس الشيطان.
كلما غلب الشيطان وجنده أرسل الله رسلًا، وفي أمة محمد يبعث الله مجددين على هدي الرسول –صلى الله عليه وسلم-. صراع بين قيم مصدرها الوحي وقم مصدرها الشيطان وأهواء البشر {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.
{إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ}.