أرشيف المقالات

القصص

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
8 جريزيلدا للقصص الإيطالي بوكاشيو بقلم الأستاذ فخري شهاب السعيدي كانت عداوة المركيز جواليتري الشاب أمير مقاطعة سالوزو للنساء سافرة، يجاهر بها هو، ويعرفنها هن، لأنه ما كان مؤمناً يوماً بوجود امرأة وفية برة تصدق العهد وترعى الذمة والميثاق!! وكان ذلك سبب ابتعاده عنهن وانصرافه إلى ضروب من اللهو بين وحوش الفلا وأزاهير الربى في عيش رقيق الحواشي ندى الظل، وغبطة تنسري في جوانحه وتشيع في محياه وإذا كان هذا رأيه هو، فلم يكن هذا رأي شعبه، لأن الشعب لم يكن مجمعاً على خيانة المرأة، ولان الشعب يريد من يتولى الأمر بعد حاكمه.

هذا إذا جرى قضاء الله عليه فدرج فمات! لذلك هب أبناء شعبه يطالبونه بالزواج في إلحاح عليه شديد! وتقدم إليه فريق من وجوه القوم بأسماء الحسان من بنات الأشراف ليقول كلمته في إحداهن، وألحفوا عليه في ذلك، فكان جوابه: - أنه وحده صاحب الحق فيمن يختارها زوجاً لنفسه، وأماً لولي عهده، وإذا كان للشعب أن يطالب حاكمه بولي من بعده، فليس له أن يتحكم في التي يختارها لهذا الخلف أماً! .

ثم اتفق معهم على أن يكون أعز اختيار زوجه له، لاحق لأحد أن يعارضه أو يناقشه فيه، وهكذا كان. فإن المركيز لخارج من قصره إلى قرية منه يختال على جواده، إذ بصر بقروية من بنات الرعاة تحمل الماء من بئر قريبة إلى دارها في وداعة أخاذة استوقفته قليلا، ثم اقترب منها يسألها عن عساها تكون؟! - اسمي جريزيلدا يا سيدي! ووقف المركيز الشاب أمام جريزيلدا هذه دهشاً قد علق قلبه، وذهل لبه، واشتغل خاطره، وأراد أن يكاشفها بدخيلة أمره، وأنه يرغب في أن تكون زوجه، ولكنه ما استطاع ثم حمل نفسه على أن يصارحها برغبته فقال: - أنني يا جريزيلدا أبحث عن زوج برة مخلصة لينة المقادة، قريبة الارتياد، خلقها دمث، وطاعتي عليها فرض تتقبله في سرور أفأجد فيك التي أنشد؟! - يا سيدي، أرجو أن تكون قد وفقت إلى اختيار من تريد! ثم تم الزواج - كما أراد المركيز أن يكون - في فخامة وبهاء، وجاءت الفتاة القروية إلى قصر الأمير لتبتدئ حياة أرستقراطية غريبة عنها وعن قريتها التي أسلمتها إلى هذا القصر المنيف.
كانت الفتاة وفية حقاً للمركيز: تتحرى رضاه فتعمل به، وتتوخى هواه فتقصد إليه، وتقضي حق النعمة عليها بشكر أياديه وفضله.
وكانت برة به كما أراد، مخلصة له كأفضل ما تمنى.

تعمل على إسعاده، ولو كان في ذلك شقاؤها، وتتمنى له الخير، ولو كان فيه أذاها.
! وكانت قد وهبته قلبها: فهي أبداً حريصة على رضاه، حريصة على إسعاده، حريصة على أن يكون زوجها أسعد الناس حياة.
! وكان شعب (سالوزو) يبصر هذا من الفتاة الكريمة، فيعجب بما يرى، ويغتبط بما يجد أميره من إكرام وحب ووفاء من بنت القرية (جريزيلدا).

وقد كان هذا الإعجاب الشديد سبب حب الفتاة في قلوب أهل (سالوزو) أجمعين! وما لبثت جريزيلدا أن وضعت بنتاً.
فرقى الخبر إلى شعب سالوزو، وابتهج الشعب لهذا وفرح؛ وأعلن عما في نفسه من أسباب الفرح والحبور بالاحتفالات يقيمها، والمآدب يولمها، والتهاني يرفعها إلى أميره.
ولكن الأمير لم يثلج بالأمر صدره غبطة - كما توقع الشعب ذلك منه - بل كان في نفسه ما يحز فيها حزاً من سوء الظن الأثيم!.

فإن الرجل قد خيل إليه أن من وراء هذا الذي تبديه له زوجه من الحب والوفاء - خيانة مستترة - لا يعلمها هو، ولكن وجدانه ينبئه.

ولا يعرف عنها شيئاً، ولكن حسه يوقظه.

وتتعاظم هذه الخواطر في نفسه فتطغى على كل شعور.

وإذا ما كان في نفسه عن المرأة قد عاد إليه.

وهل تكون (جريزيلدا) هذه إلا امرأة؟! وإذاً فليتغلغل إلى دخيلة نفسها ليعرف الحق، وليمتحنها ليطلع على ما عند المرأة من خيانة وفجور.
.

وأرسل إليها يطلب منها ابنتها معلناً أن شعبه لا يرضى أن تكون ولية العهد بنتاً من أم وضيعة الأصل، حقيرة البيت، من أهل القرى.
وفهمت هذا الذي كان يدور بخلده - وما كان ذلك ليخفى عليها - وأدركت أنها مفارقة ابنتها البريئة، ثمرة إخلاصها ووفائها وتفانيها في الحب لمولاها وزوجها المركيز - فراقاً لا تعلم مداه.

بل قد لا يكون له مدى يقدر، أو نهاية تعرف! .

وألم بالمسكينة الجزع في شكل الثكل، وملكتها غموم الوالدة تفقد وحيدها، فاشتملت عليها، وتشعبتها آلام الفجيعة في شكل مريع.

ولما رأت أن الأمر قد تعقد وأعضل، ودعت ابنتها في لوعة مريرة ويأس.

ثم تقدمت بها إلى الرسول ومضت بعد ذلك أعوام طوال كانت (جريزيلدا) مع زوجها على سيرتها الأولى: من طاعة وحب ووفاء.

وصبر ما تلقاه منه من مكروه! ثم قدر الله فوضعت ولداً.
وكان لهذا الوضع أثره في نفسها المحزونة، فقد أملت منه خيراً يأتيها به أبوه.

وقالت في نفسها: أن الشفاعة من ولي العهد ولا شك، وكيف تشك وها قد وضعت ذكراً ينوب في حكم الشعب مناب أبيه؟ وكيف تشك وهذه أمنية المركيز التي يطلب، ومراده الذي يبتغي - هو ومن ورائه شعب (سالوزو) الكريم؟! ولم يدعها المركيز (جوالتيري) تحلم.

وتبتعد في حلمها عن الواقع المقدر لها ولابنها هذا.

فقد بعث يطلبه كما بعث من قبل يطلب أخته! وتكرر فصل (المأساة) ولكن في مظهر أروع، وأعيد الحزن إلى قلب المسكينة ولكن في شكل أقسى؛ وقدمت المسكينة طفلها هذا كما قدمت أخته من قبل إلى الرسول! وإذا كان جرو السبع لا ينفعه رضاع الشاة.

وإذ كان النبت لا يقوم اعوجاجه حين يشتد عوده ويستأسد، فإن المركيز لم يكن ينفعه تفاني المرأة في إخلاصها وإظهار طاعتها له.

والطباع إذا كان فيها عوج متأصل، لا تفيدها كل أنواع المقومات! .

وكذلك صبرت (جريزيلدا) على الخسف ستة عشر عاماً طوالا، كانت خلالها مثال العفة في الخدمة، والشرف في أداء حقوق الزوج، صابرة على ما تلقاه من هذا الذي يدعونه زوجها، وليس في قلبه من معاني الزوجية التي تعتمد على الشرف والإخلاص شيء! وعلى أن الحزن الممض لا يقوى على احتماله بشر له قلب وشعور، فإن (جريزيلدا) كانت تحتمل ما تلقاه في جلد واحتمال عجيب، كأن ما تراه من عقوق، هو عين الحق الذي يجب أن تعامل به الوفيات أمثالها.
ولكن زوجها المركيز لم يرضه هذا.

بل عمد إلى طردها من قصره إلى حيث كانت في كوخها الريفي الحقير.
وخرجت (جريزيلدا) في أطمار بالية من القصر كما دخلته من قبل؛ ورجعت إلى كوخها وليس معها من آثار النعمة التي كانت فيها غير.

أسوأ الذكريات، وغير ما في قلبها المكلوم من حزوز.
ولكنها لا تكاد تستقر في ريفها حتى يأتيها رسول (المركيز) يأمرها بالرجوع إليه. لتعد قصره الذي برحته لزواج جديد!! من حسناء من بنات الأشراف.
ونزل عليها الخبر كالمصيبة تنال بعد كثير من أمثالها؛ لا تكاد تستقر واحدة حتى تتلوها الأخرى اشد إيلاماً وأفجع! .

ورجعت إلى القصر وإن قلبها لجازع من هذا الذي يرى؛ ولكن ستاراً من الابتسامات العذاب كان ينسدل على ذلك القلب الكبير فيخفي ما به من أثار اللوعة والشقاء.
وتم إعداد القصر للزواج الجديد.
وتمت دعوة الأشراف والنبلاء إليه في ليلة الزفاف.
فكان القصر ليلتئذ بحسناواته ومظاهر المسرة فيه جذوة من اللهب تتقد في قلب (جريزيلدا) التي كانت تتغشى طمراً أبلاه الدهر وأخلقه.

قابعة في زاوية من زوايا القصر، خانسة، فكأنها في ذلك القصر المائج بالغيد الفاتنات تمثال البؤس الذي يتحاشى المترفون النظر إليه.

أن يشقيهم أو يكدر صفو حياتهم التي يحيون!! ورفعت (جريزيلدا) عينيها إلى العروسين الداخلية فاحتارت مما رأت.

لقد كانت، في يوم من الأيام، كهذه الحسناء التي تتيه بجمالها الفتان وتزهى.

لقد كانت يوماً قبلة الأعين تستجلي جمال وجهها الباهر السني في إعجاب شديد! .

وجاء (المركيز) إلى زوجه القديمة البائسة يسألها رأيها - على ملأ من الحاضرين - في عروسه الحسناء؟ فأجابت: أن في منظرها - يا سيدي - لحسناً.

وأرجو أن يكون لها مثل ذلك في مخبرها عند الامتحان.

ثم توسلت إليه أن يكون منصفاً لهذه الفتاة يعاملها في رفق وإحسان.

وأردفت ذلك بجميل الدعاء والتوفيق لهما.

ولعلها ساعتئذ كانت أصدق ما تكون.
قال المركيز: - (ولكن اغتفري لي يا (جريزيلدا) هذا الذي رأيته مني من جور وكفران.

لم أكن معك يا فتاتي من المنصفين.

لقد كنت أتهم وفاءك، خائفاً أن تكون وراءه خيانة أو ريبة.

ولكنك الآن أمامي مجلوة مثل كرائم الأحجار.
(دعيني - يا زوجي البرة - اقدم إليك هذه التي تحسبينها عروسي كما يحسبها غيرك من الحاضرين - على أنها.

ابنتك التي انتزعتها منك منذ أمد بعيد.

وهذا يا جريزيلدا المحبوبة ولدنا العزيز الذي أرسلت إليك في طلبه مما أرسلت من قبل على أخته.

ضميهما إليك.

إلى صدرك.

لتقري بذلك عيناً ولتكوني من الفرحات الناعمات.

لقد حرمتهما حيناً من الدهر طويلا.

فانعمي بعد ذاك الحرمان الطويل.

أقبلي عليهما التمسي العزاء عندهما عما مضى وكوني - كما عهدتك - تصفحين عن الإساءة وتتقلبين مني كل شيء بالصدر الرحب، والغفران) (بغداد) فخري شهاب السعيدي

شارك الخبر

المرئيات-١