الداعية العدل الضابط
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
الداعية العدل الضابطلا أنَاسيَّ كدُعاةٍ يَصِلون ليلهم بنهارهم، ولا غرْوَ في ذلك؛ فهُم منْقِذون، والمنقذ رجُل طوارئ متأهِّب معظم الأوقات.
في غرفة من غرف المركز الإسلامي انتَظَم عقْدُ بعض الإخوة، تحدَّث الأخ المشْرِف في المركز، بعد الإعلان عن حفل زفاف أحد الدُّعاة، مفتتحًا الجلسة، بقوله: يؤمُّ مركَزَنا هذا مسلمون من مشارِبَ شتَّى، وواجبنا زيادة رصيدهم الشَّرعي، ورفع مستوى الْتِزامهم، وما نعاني منه من ضيق الوقت، فليس أمامَنا إلاَّ العطلات، فعمَلُنا الدعوي في هذه المدينة الغربيَّة، يصْطدم بحاجز الوقت، والذي قلَّما نتخطَّاه؛ لانْشغال معظم الناس، واجبنا استثمار المناسبات إن أمكَن.
أخذ طرح الحضور بين مشرِّق ومغرِّب، بعضهم يريد حشْرَ مفردات وعظيَّة، وآخرون يفضِّلون التَّنبيه إلى أهمِّية طلب العلم الشرعي، وجزْءٌ يركِّز على دعوة مَن تسيَّب من الالتزام، أما هو فكان ضيفًا حضر بصفة مراقب.
الجلسة استمرَّت ما يزيد على السَّاعة، لم يَنْبِس خلالَها بِبنْت شفَة، ثم طُلِب منه الإدلاء برأيه، فقال: فكرة استثمار المناسبات دعويًّا فكرة عظيمة، وعلى الأخصِّ عند حضور مستويات متباينة، ويجب الأخذ في الاعتبار غالبية الحضور أوَّلاً، فأجاب أحد الدعاة: إنَّ جُلَّهم من الملتزمين، قال: نحن إذًا نستهدف الشريحة الأكبر، مع شذرات للبقيَّة، وظنِّي أنَّ غير الملتزمين يحتاجون لطرْح البديل الإسلامي لِمَظاهر الفسوق التي ترافق مثل هذه المناسبات، وأخذَتْ مفرداتُ الحفل باقي الجلسة.
بدأت الحفلة بصوت نديٍّ رتَّلَ آيات من الذكر الحكيم، وعلى إثْرها إشراقات من فيض النبوَّة، وكلمات تضمَّنت مقتطفات من أقوال السادة العلماء، وأناشيد تحرِّك المشاعر بالإسلام روحًا وكلِمًا، وتنشر ظلالاً من البهجة الشرعية الخالية من أوضار الفسوق.
وبعد انتهاء الجزء الأكبر من البرنامج المعتاد، وأثناء تناول الضِّيافة، عادةً ما تكون الأحاديث الجانبية، وتظهر ملامح المجتمع الدَّعَوي، فتحصل مناكفات ومناقشات بَيْنيَّة، لا تُفْسِد للأُخوَّة وُدًّا، وفي هذه الحفلة أثمر اللقاء آنِفُ الذِّكر عن سابقة دعوية.
ونحن نتناول حلويات العُرْس، ونشرب أنخاب الفرح، نقل أحد الدُّعاة خبرًا، فأراد آخَرُ التثَبُّت، فقال المخْبِر: إنَّه حدَّثه به أحد الدعاة العُدول الضَّابطين.
كاد الأمر يمرُّ مرور الكرام؛ فالخبر ليس ذا شأن، لولا فِطْنة أحد الدُّعاة المربين وتخطيطه المسْبَق، فأومأ عبْر عريف الحفْل إلى ضيفهم للتعليق، فوجئ صاحبنا بالطلب؛ فهو ضيف مدينتهم، ولا عِلْم لـه بمثل هـذه الأخبار، ففهمَ أنَّ إعطاءه فرصة إنَّما كانت لمشاركة تربوية تذكيرية، ليس إلاَّ.
فقال: المَقام مَقام فَرح، وما سأعلِّق عليه لا أقصد فيه أحدًا، وإنما هي مداعبات تربوية، فالعبد الفقير إلى الله ممَّن يهتم بالدعوة والتربية في أيِّ مجال.
وكلامي عن التثبُّت، وهو أمْر شرعي وصِفَة للملتزم الواعي، وما أودُّ الوقوف عنده اختصار أخينا الكريم الذي أخبرَنا عن التثبُّت بقوله: حدَّثه داعية عدْل ضابط، وهي قضيَّة تربوية بامتياز، وعِلْمية إلى حدٍّ بعيد، لكنِّي سألطِّف الطَّرْح بهذه المناسبة السعيدة، ببعض الامتدادات الأدبية؛ لتكُون أكثر استمراءً في النفوس.
"فالعدل" صفة تدلُّ على بذْل الجهد، فلن تأتي العدالة عفْوَ الخاطر وبلا درْبَة؛ لأنَّها نوع من أطْر النفس على الحق، وتدخل تربويًّا في باب التزكية.
أما كلمة "ضابط" فهي على وزن فاعل، وهو من يُسنَد إليه الفعل، وأفهم من ذلك أنَّ الضابط يقوم بالضبط مرارًا، ولذلك نصَّ سادتنا علماء الحديث على أنَّ الضبط نوعان:
• ضبط صدْرِي يعتمد على الحفظ والمذاكرة، فلا يَكتفي ضابطٌ عندهم بالسَّماع فقط، ومِن أطرَفِ ما قرأتُ أنَّ أمير المؤمنين في الحديث سفيان الثوري - رحمه الله تعالى - كان يراجع حِفْظَه بالتَّدريس لتلامذته، وهي إحْدى بركات نشْر العلم، وذات مرَّة كان على سفر فلم يجد مَن يذاكر معه ليلاً، فأيقظ جاريةً له من النوم وقال لها: اسْمعي، فأخذ يقول: حدَّثني فلانٌ عن فلان...
ولمَّا انْتهى قالت الجارية: تعلم أنِّي لسْتُ من أهل هذا الفن، قال سفيان: أعلم، ولكنِّي خشيتُ النِّسيان.
• والنوع الثاني ضبْط كتابي، ومع أنَّ له بعْضَ السِّمات، فإنَّ الكتابة - كما نص علماؤنا - قيدٌ من النسيان والتحريف.
وعدَّل من جِلسته قائلاً: ونأتي الآن إلى صلْب موضوع "العدل الضابط"، واشْرأبَّت لحديثه الأعناق، بين متسائل ومستغْرِب: هل ستتحوَّل الحفلة إلى درْس في علم الحديث؟ أم ماذا يريد هذا الوافد قولَه؟!
فأكمل كلامه: اتَّفق العلماء أنَّ العدالة مَلَكة، وقبْل أن أفصِّل، أقف عند كلمة "ملَكَة"، وتعني صفةً يكتسبها الإنسان بالتدريب، فملكة العدالة عند المحدِّثين تحمل المسْلِم على ملازمة التقوى، وهو هدف تربوي صاغه المحدِّثون من مفْرَدات بضاعتهم، وليت دعاتنا كلَّهم يَنْهجون نهج علماء الحديث، في صياغة الأهداف الشرعية بألفاظهم، فمَن أراد أن يكون عدْلاً على وجه الحقيقة فعليه ملازمة التقوى.
وأجمع علماء الحديث على ثلاث صفات يجب أن تتوافر فيمن يُقال: إنَّهم عُدول ضابطون.
وأخذ رشْفةً من كوب الماء الذي أمامه، وتابع: والظنُّ - والعلم عند الله - أنَّ اثنتين منها تتوافران في جُلِّ الدعاة، أمَّا الثالثة فإنَّها نادرة، ولا أقول: معدومة في هذا الزمان.
كانت الأبصار تتابع كلامه، بين مصْغٍ بكلِّيته، وبين منْدهش.
واستأنف الحديث: نأتي للصفة الأُولى للعدول الضَّابطين، وهي العدالة التي تَعني ألاَّ يُعرَف عن صاحبها ارتكاب كبيرة منذ أن طلَب العلم الشرعي.
والصفة الثانية ألاَّ يشتهر بين الناس بإصراره على صغيرة، وهذه - كأُختها الـتي سبقَتْها - سِمَـة للملتزمين المعاصرين، والحمد لله.
وعند الصفة الثالثة تُسكَب العبرات، وتتعالى الآهات.
وانشغل بِصَحن الحلوى الذي أمامه، ونظراتُ الجميع تستجديه المتابعة، أمَّا هو فأخذ يَمْضَغ الحلوى على مَهل، ثم يرفع قدَح الماء، ظنَّ الحضور أنَّها لقْمة يغيِّر فيها طعم فمه، فربَّما أدرك أنَّ عبارته الأخيرة بطعم العلقم، لكنَّه يبدو أنَّ تفكيره بمنْحًى آخَر، فرفع كوب الشاي ليرشف رشفة، ومِن ثَم طوَّف بصَره بالحضور، ولما استيقن أنَّهم مستعِدُّون لهذه اللفتة قال:
والصفة الثالثة والأخيرة، كما نصَّ علماء الحديث ألاَّ يرتكب العدْل الضابط شيئًا من خوارم المروءة، هذه العذرية في صفات الملتزمين التي فُضَّت بلا مبالاة، وانتُهِك عرضها، مما حدَا بالشاعر ليقول:
مَرَرْتُ عَلَى الْمُرُوءَةِ وَهْيَ تَبْكِي
فَقُلْتُ عَلاَمَ تَنْتَحِبُ الفَتَاةُ
فَقَالَتْ: كَيْفَ لاَ أَبْكِي وَأَهْلِي
جَمِيعًا دُونَ خَلْقِ اللهِ مَاتُوا
فالمروءة في رأيي سِيَاج المجتمع الملتَزِم، فلا يصحُّ مثلاً من داعية تساهُلاتٌ تتَناقض ومروءَةَ الالتزام، ولا أريد ضرْبَ أمثلة قد نتَّفق أو نختلف عليها، وحبَّذا لو تعمَّد كلُّ داعية البحث عن سُنَّة نبوية وطبَّقها، ولو كان المجتمع خالي الوفاض منها.
ثم أعاد الكلمة لعريف الحفل.
طلب أحدُ الحضور التَّعليق، فأُذن له بالكلام، فقال: من باب تحسين الظَّن، وهو مطْلب شرعي لكل مسلم، يفترض قَبُول أيِّ خبر؛ فالأساس بالملتزم الصِّدْق.
فردَّ الضيف: التثَبُّت لا يعني التَّكذيب، وإنما التحقق، فلعل الناقل للخبر غابت عنه جزئية مهمَّة.
لم يقتنع المتداخل، فأجاب مستشهدًا بقول العلامة ابن حجَر العسْقلاني في كتابه الموسوم "نُخْبة الفِكَر في مصطلح أهل الأثَر"، حيث قال جملة في الصَّفحة العاشرة من كتابه: "العَدْل هو من اطمأنَّ القلْبُ إلى خبَرِه، وسكَنَت النفس إلى ما رواه".
قال الضيف: ابن حجر - عليه رحمة الله - من كِبَار العلماء المشتَغِلين بهذا الفنِّ، وشأنُه شأنُ كلِّ عالِم من سادتنا العلماء، له كتابات عامَّة ومتخصِّصة، والكتاب المذْكور هو لأهْل الاختصاص، فمن البدهي طرْحُ التساؤل التالي:
قَلبُ مَن يجب أن يطمئن؟ ونَفْس مَن يجب أن تسْكُن؟ الذي قصده ذلكم العلامة؟
إنَّ المحدِّثين بطبقاتهم متَّفقون على علْم قائم بذاته اسْمه الجَرْح والتعديل، هذا العلم سِمَة لأمَّة الإسلام، ارْتقت به عن سائر الأمم، وليس اطمئنانًا شخصيًّا بناء على علاقةٍ ما، وما قصدْتُه هو الاحتياط في موضوع المروءة، الذي شابه بعض التسَيُّب، ولو أنَّها تختلف من بلد إلى بلد، وتدليلاً على ذلك أكتفي بنقْل قصَّة ورَدَت في كتب التراجم:
"إنَّ الإمام أبا حنيفة النُّعمان، كان في أحد الأيام يسير مع القاضي ابن أبي ليلى في طرُق الكوفة، فصادفا نسوة يُغَنِّين، فلما رأَيْنهما - وكان الإمامُ ذائِعَ الصِّيت - سكتْنَ، فقال الإمام: أحسنتُنَّ، فقال القاضي: أتقول لهن أحسنتنَّ على الغناء؟! والله لأُسْقِطن شهادتك.
فقال الإمام: هل قلتُ "أحسنتنَّ" عندما كنَّ يغنِّين، أم عندما سكتْن؟ فقال القاضي: بل عندما سكتْن، فقال الإمام: وهذا محلُّ اسْتِحساني لهنَّ، فقال القاضي: "أعدْتُ شهادتك".
واللَّبيب من الإشارة يَفْهم.