وصية في العلم وأهله
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
وصية في العلم وأهلهالحمد لله الذي أكرمنا بالعلم النافع، ونسأله أن يمُنَّ علينا بالعمل الصالح.
فهذه نُبَذٌّ من العلم فيها من الفوائد الفرائد، تُعِين السالك إلى ربِّه في النوائب والشدائد، كيف لا وهي كالزائر الخفيف، والأنيس الظريف؟
نُكَتٌ نادرة تُعرِّف بأحوال القوم، من هِمَمٍ شامخة، ومكانة عالية، وأقدارٍ سامية، تَسْحَقُ كل دنيء، وتُزِيل كل رديء، وترُد كل مسيء.
مدارُ هذه النُّكت على العلم النافع؛ فهو الجوهر الذي لا يفنى إلا بفناء أهله، قلَّ حامله، ونَدَرَ عارفه، ومتوهِّمٌ شابِعُه، عدوُّه حاسده، أما صاحبه فغابطه، وكثير محامده.
أما بعد:
فلله دَرُّك، يا من طلبت النادر، ودعوت ليتوافر، فأنت على بُعْدٍ من المهالك، وقُرْبٍ من المعارك؛ معارك التحصيل، والخوض في التفاصيل، فمدارسة العلم عبادة، والعمل به فوز وسعادة، فيا طالب السعادة، أنت الغنيُّ ورب الكعبة، استأثر الناس بالفاني، وأنت مع الفواكه الدواني.
علمٌ شابه خليط من الأخلاق والأعمال، مغمورة في بحر العقيدة وتفسير القرآن، فالله الله في كنز لا يفنى إلا بفناء صاحبه، فيجده من بعد فنائه يومَ عُسْرِه أو يُسْرِه.
فيكفيك من النصوص في فضله وفضل أهله كتاب وسُنَّة، فمن أعظم فضائله أن شهِدَ الله عز وجل لأهله بخشيته سبحانه من دون الخلائق؛ فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، ويكفيك من السُّنَّة ما ثبت عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن سَلَكَ طريقًا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقًا من طُرُقِ الجنة، وإن الملائكة لَتَضَعُ أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم لَيستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضلَ العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخَذَ بحظٍّ وافرٍ))؛ [رواه أبو داود (٣٦٤١)، والترمذي (٢٦٨٢)، وهو ثابت].
لهذا اعتنى أفاضل الناس بهذا الميراث الدائم، والمعدِن النادر، لمَّا علموا ندرته وعزَّته.
كتب رجلٌ إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن اكتب إليَّ بالعلم كله، فكتب إليه: إنَّ العلم كثيرٌ، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيفَ الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كافَّ اللسان عن أعراضهم، لازمًا لأمر جماعتهم، فافعل.
[سير أعلام النبلاء للذهبي (5 / 216)].
فكانت وصية جامعة من عارف بالله صحابيٍّ، زاهد تَقِيٍّ، هكذا نعرفه ولا نزكي على الله أحدًا.
وما دام نحن مع تلك الثُّلَّة، فكان العلم عندهم معروفًا بالسُّنَّة، فمن التزمها عرف طريق الحق إلى الكتاب والسنة، بخلاف من ابتغى الكتاب، وزهَّد الناس في السنة، فقد ضلَّ الطريق من حيث أراد الله.
قال مالك بن أنس رحمه الله: "السُّنَّة سفينة نوح من ركِبها نجا، ومن تخلَّف عنها غَرَق"؛ [ذم الكلام، للهروي].
وكان السلف الصالح لا يريدون بالعلم دنيا يصيبونها أو امرأة ينكحونها، أو مكانة يريدونها، بل يُراد من العلم النجاة، وعنوانه الخشية، نعم هي الخشية.
جاء في "مصنف ابن أبي شيبة" عن مسروق - راوية عبدالله بن مسعود رضي الله عنه - قال: "بحسب المرء من الجهل أن يُعجَب بعلمه، وبحسبه من العلم أن يخشى الله".
ومما يُذكَر في سلامة المعتقد لديهم ما جاء عن يحيى بن عون قال: "دخلت مع سحنون على ابن القصار وهو مريض، فقال: ما هذا القلق؟ قال له: الموت والقدوم على الله.
قال له سحنون: ألستَ مُصدِّقًا بالرسل والبعث والحساب، والجنة والنار، وأن أفضل هذه الأمة أبو بكر، ثم عمر، والقرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يُرى يوم القيامة، وأنه على العرش استوى، ولا تخرج على الأئمة بالسيف، وإن جاروا.
قال: إي والله، فقال: مُتْ إذا شئت، مت إذا شئت"؛ [كما في السير للذهبي].
فتلك هي المواعظ والله، التي الإيجاز عنوانها، وإذا وُضِعَتْ على القلب أحْيَتْه، وأولئك هم الأصحاب الذين يُفتقَدون إذا غابوا، ولا يُسْتَثْقَلون إذا حضروا، تجدهم في النائبات، وإذا رُؤوا ذُكِرَ الله.
فمزاوجة الأخلاق بالمعتقد مع علم نافع وإن قلَّ لَهي الوصفة الرابحة، التي يغبطك فيها القريب، ويحسُدك فيها البعيد اللئيم.
ومن فضل العلم ومكانته أنه قيل لأحمد بن حنبل: رجل له خمسمائة درهم، أترى أن يصرفه في الغزو والجهاد أو يطلب العلم؟ قال: "إذا كان جاهلًا يطلب العلم أحب إليَّ"؛ ["الآداب الشرعية" لابن مفلح].
وقال عبدالله بن المبارك: "لا أعلم بعد النبوة درجة أفضل من بث العلم"؛ ["تهذيب الكمال"].
ولم يكونوا يريدون بالعلم شهرةً ورياء، بل يُظْهِرون منه ما لا بد منه بقدر الحاجة، وإذا وجدوا غيرهم يقوم مقامهم، قدَّموه وسلِموا واستراحوا.
قال الحسن البصري: "إن كان الرجل لَيكون فقيهًا جالسًا مع القوم، فيرى بعض القوم أن به عِيًّا، وما به من عِيٌّ إلا كراهية أن يُشتَهَر".
وبعد هذا، فاحرص - يا عبدالله - على ما ينفعك في الدنيا والآخرة، واملأ جَعْبَتَك بالعلم قبل أن يُحال بينك وبينه، فهو زادك عند الفراغ، وآلتك عند اللقاء.
والحمد لله أولًا وآخرًا، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.