عمل العالم بعمله
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
عمل العالم بعملهقال مالك بن دينار: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلَّت موعظته عن القلوب، كما يزل القطر عن الصفا، فإن من حث على التحلي بفضيلة، وهو عاطلٌ منها، لا يقبل قوله، كمن يحث الناس على الحلم والصبر والكرم، وهو بضد ذلك؛ قال تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44].
ومثل ذلك من ينهى عن الأخلاق الساقطة والبدع والملاهي وهو متلوث بها، كمن ينهى عن الدخان أبي الخبائث والخمر أم الخبائث وهو يَشربهما، وكمن يأمر بالابتعاد عن التلفزيون والمذياع والسينما والبكمات، وهو يشتريها أو يحظرها.
وكمن ينهى عن حلق اللحية والخنافس، والتشبه بالنساء والمرد والكفار وهو متلبس بها، وكمن ينهى عن الكورة وهو يحضرها، أو ينهى عن بيع هذه الملاهي وشرائها وتصليحها وهو يفعل ذلك، فهذا يقابل قوله بالرد، ولا يعامل إلا بالإعراض، والإهمال، بل محل سخرية واستهزاء في نظر العقلاء.
شعرًا:
وأخسر الناس سعيًا من قضى عمرًا
في غير طاعة من أنشاه من عدم
آخر:
سَلِ الإله إذا نابتك نائبة
فهو الذي يُرتجى من عنده الأمل
فإن منحت فلا من ولا كدر
وإن رددت فلا ذل ولا خجل
قول جميل وأفعال مقبحة
يا بعد ما بين ذاك القول والعمل
فإن من تناول شيئًا فأكله وقال للناس: لا تناولوه فإنه سم مهلك، سخر الناس منه، واستهزؤوا به واتَّهموه في دينه وعلمه وورعه، وكأنه بزجره ونَهْيه حرَّضهم عليه، فيقولون: لولا أنه لذيذ ما كان يستأثر به.
كذلك الداعي إذا خالف فعله قوله، أما الائتمار بما سيأمرهم به أولًا، والتخلق بما يدعوهم إليه، فهو واقع في نفوس السامعين، وأقرب إلى إذعان الراغبين.
فمن لم يكابد قيام الليل وسهره، فكيف يسمع منه فضل قيام الليل، وكمن يحث على الصدقة والمشاركة في الأعمال الخيرية والمشاريع الدينية، ولا يسهم فيها أبدًا، فهذا لا يقبل قوله، ويكون ممن يعين على سبه وغيبته، لما عرفت من أن الدعوة إلى صالح الأعمال ومكارم الأخلاق تربية، والتربية النافعة إنما تكون بالعمل؛ لأنها مبنية على القدوة الصالحة والأسوة الحسنة، لا بمجرد القول.
يدلك على ذلك ما في قصة الحديبية عن المسور بن مخرمة، قال: فلما فرغ من قضية الكتاب؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا»، فوالله ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقُم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتُحب ذلك، أخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم، حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد يقتل بعضهم بعضًا أي ازدحامًا وغمًّا.
وفي حديث أبي سعيد قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نهر من ماء السماء والناس صيام في يوم صائف مشاة، ونبي الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلة له، فقال: «اشربوا أيها الناس»، قال: فأبَوْا، قال: «إني لست مثلكم إني أيسركم إني راكب»، فأبوا، فثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَخِذَه فنزل فشرب وشرب الناس، وما كان يريد أن يشرب؛ رواه أحمد.
قال: فإذا لم يكن الداعي إلى ذلك قول مجرد من العمل، لم يكن نصيب المدعو منه إلا القول، وأيضًا فمثل المرشد من المسترشد مثل العود من الظل، فكما أنه محال أن يعوج العود ويستقيم الظل، كذلك محال أن يعوج المرشد ويستقيم المسترشد.
قال الغزالي فيما كتبه إلى أبي حامد أحمد بن سلامة بالموصل: أما الوعظ فلست أرى نفسي أهلًا؛ لأن الواعظ زكاة نصابه الاتِّعاظ، فمن لا نصاب له كيف يخرج الزكاة، وفاقد النور كيف يستنير به غيره، ومتى يستقيم الظل والعود أعوج، ولهذا قيل:
شعرًا:
يا أيها الرجل المعلم غيرَه
هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام من الضنا
كيما يصح به وأنت سقيم
ما زلت تلقح بالرشاد عقولنا
عظت وأنت من الرشاد عديم
ابدأ بنفسك فانْهَها عن غيِّها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يُقبَل ما تقول ويُقتدى
بالرأي منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
آخر:
وكن ناصحًا للمسلمين جميعهم
بإرشادهم للحق عند خفائه
ومُرْهم بمعروف الشريعة وانْهَهم
عن السوء وازجر ذا الخنا عن خنائه
وعِظهم بآيات الإله بحكمة
لعلك تبري داءهم بدوائه
فإن يهد مولانا بوعظك واحدًا
تَنَلْ منه يوم الحشر خير عطائه
وإلا فقد أدَّيت ما كان واجبًا
عليك وما ملكت أمر اهتدائه
قال: وقول الله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44].
تعجب للعقلاء من هذا المسلك المعيب، وللتعجب وجوه منها أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إرشاد الغير إلى الخير وتحذيره من الشر، وإرشاد النفس إليه، وتحذيرها منه مقدَّم بشواهد العقل والنقل.
أما العقل فبديهي، وأما النقل فكثيرة منها قوله تعالى حكايةً عن نوح:
﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا﴾ [نوح: 28]، وعن خليل الله إبراهيم: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم: 40، 41]، فمن وعظَ غيره ولم يتَّعظ فكأنه أتى بما لا يقبله العقل السليم.
شعرًا:
تَمسَّك بتقوى الله فالمرء لا يبقى
وكل امرئ ما قدَّمت يده يلقى
ولا تظلمنَّ الناس في أمر دينهم
ولا تذكرنَّ إفكًا ولا تحسُدن خلقًا
ولا تقربنَّ فعل الحرام فإنه
لذاذته تفنى وأنت به تشقى
وعاشر إذا عاشرت ذا الدين تنتفع
بعشرته واحذر معاشرة الحمقى
ودار على الإطلاق كلًّا ولا تكن
أخا عجل في الأمر واستعمل الرفقا
وخالف حظوظ النفس فيما ترومه
إذا رمت للعليا أخا اللب أن ترقى
تعود فعال الخير جمعًا فكلما
تعوده الإنسان صار له خلقًا
اللهم ألْهِمنا ذكرك، ووفِّقنا للقيام بحقك، وخلِّصنا من حقوق خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، ولا تفضَحنا بين خلقك يا خير من دعاه داعٍ، وأفضل من رجاه راج.
يا قاضي الحاجات، ومُجيب الدعوات، هبْ لنا ما سألناه، وحقِّق رجاءنا فيما تمنَّيناه، يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ما في صدور الصامتين، أذِقْنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.