أرشيف المقالات

الأثر الدعوي للموعظة الحسنة للعلماء

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
الأثر الدعوي للموعظة الحسنة للعلماء
(المتعلق بالواعظ)


يسعى الباحث على قدر بضاعته المزجاة، أن يحيط بالأثر الدعوي للموعظة الحسنة للعلماء، فللموعظة الحسنة آثار طيبة يجنيها الواعظ، وذلك على النحو التالي:
1.
الامتثال لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم:
من أهم الآثار الدعوية المتعلقة بالدعاة أنهم امتثلوا التوجيه الرباني، حيث يقول الله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125] [1].

ويقول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33] [2].  
قال الحسن البصري - رحمه الله تعالى - عن هذه الآية: (هو المؤمن، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحاً في إجابته، فهذا حبيب الله، هذا ولي الله) [3].
 
كما أنه امتثال لتوجيهات النبي - صلى الله عليه وسلم -، الذي أمره ربه - جل وعلا - بقوله: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴾ [النساء: 63] [4].
وكما جاء في الحديث عن عبد اللّهِ بن عمْرٍو بن العاص - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بلِّغُوا عنِّي ولَوْ آيةً وحَدِّثُوا عن بنِي إِسْرائِيلَ ولا حرَجَ ومَنْ كذَبَ علَيَّ مُتعَمِّدًا فلْيَتَبَوَّأْ مقْعَدَهُ من النّار"[5].

ففي ذلك أمر بالدعوة إلى الله تعالى من خلال الموعظة أو بغيرها بما يستطيعه كل فرد من أفراد المسلمين؛ لأن الآية تنص على أدنى البلاغ، وهي آية واحدة.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يباشر الموعظة ويقوم بأدائها، وكان يتخول أصحابه - رضي الله عنهم - بها مخافة السآمة عليهم[6].
 
تبين مما سبق: أنَّ ما جاء في القرآن العظيم والسنة النبوية المطهرة، ينبغي على الداعية أن يعلمه ليستخدمه في دعوته للناس لثبوت نجاحه؛ لأنه يعتمد على الكتاب والسنة؛ ولأنه يتضمن أساليب عديدة متنوعة، يفيد تنوعها في ترغيب، وتشويق المدعو لأن يسمع أكثر، وكلما سمع أكثر كلما، كان التأثير وارداً، وبالتالي الاستجابة لداعي الحق - سبحانه وتعالى -.
 
ويتحقق للداعية الذي يمتثل لأمر الله تعالى، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -ثمرات وفوائد عديدة، منها:
أ- الفلاح والنجاح، قال الله تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104] [7].
   
إنَّ السبب الأقوى الذي يجعل المسلمين يتمكنون به من إقامة دينهم، بأن يتصدى منهم طائفة يحصل فيها الكفاية يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فيدركون كل مطلوب، وينجون من كل مرهوب.

ويدخل في هذه الطائفة: أهل العلم والتعليم، والمتصدون للخطابة، ووعظ الناس عموماً وخصوصاً.

فكل من دعا الناس إلى خير على وجه العموم، أو على وجه الخصوص، فإنه داخل في هذه الآية الكريمة[8].
 
ب- صلاح الأعمال ومغفرة الذنوب، وحصول الفوز العظيم، قال الله تعالى:  ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71] [9].

فإذا أراد الداعية أن يوفقه الله تعالى في دعوته ويصل إلى غايته، فعليه بهاتين الصفتين، التقوى والقول السديد (وهو القول الصواب)، سواء بالدعوة إلى الله تعالى، أو بتعليم العلم، أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو غير ذلك.

وقد رتبت الآية الكريمة على (القول السديد) جملة من النتائج، عبرت عنها الآية التالية لها، وهي قوله تعالى: (يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم)، فالقول السديد يقود إلى العمل الصالح، والله سبحانه يرعى المسدَّدَين، ويقود خطاهم، ويصلح لهم أعمالهم؛ جزاء التصويب والتسديد.
والله يغفر لذوي الكلمة الطيبة والعمل الصالح؛ ويكفر عن السيئة التي لا ينجو منها الآدميون الخطاؤون.
ولا ينقذهم منها إلا المغفرة والتكفير، بفضل رحمة - أرحم الراحمين -.

وعلى ضوء النتائج التي قررتها هذه الآية الكريمة، نستطيع أن ندرك أهمية الكلمة الحسنة، والقول السديد في حياة الأفراد والأمم معاً؛ فكم من كلمة صوبت مسيرة عالم كان يسلك طريق الضلال!، وكم من كلمة صنعت سلاماً وأمناً لأفراد المجتمع!.
 
ج- ينال الأجر العظيم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً"[10].
وإنما استحق الداعي إلى الهدى ذلك الأجر لكون الدعاء إلى الهدى خصلة من خصال الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لا ينقُص ذلك أي الأجر[11].
 
فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن المتسبب إلى الهدى بدعوته له من الأجر مثل أجر من اهتدى به، وكذلك المتسبب إلى الضلالة عليه من الوزر مثل وزر من ضل به؛ لأن الأول بذل وسعه وقدرته في هداية الناس، والثاني بذل قدرته في ضلالتهم، فنزل كل واحد منهما منزلة الفاعل التام[12].
لا ريب أن للموعظة الحسنة أهمية كبرى في مجال الدعوة إلى الله تعالى، لأنها كلمات طيبة تخرج من فم الواعظ؛لتصل إلى قلوب الموعوظين، فيجلب الخير والنفع لهم، ويدفع الشر، والضر عنهم.
 
2.
براءة للذمة:
إنَّ قيام الداعية بواجبه تجاه العلماء بالموعظة الحسنة، للوصول إلى الحق، هو المراد منه، ويكون به براءة لذمته، قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 164] [13].
يقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الآية: (قال الواعظون: نعظهم وننهاهم ﴿ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ ﴾ أي: لنعذر فيهم.
﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ أي: يتركون ما هم فيه من المعصية، فلا نيأس من هدايتهم، فربما نجع فيهم الوعظ، وأثر فيهم اللوم.
وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر؛ ليكون معذرة، وإقامة حجة على المأمور المنهي، ولعل اللّه أن يهديه، فيعمل بمقتضى ذلك الأمر، والنهي)
[14].
 
ويقول الله تعالى: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 165] [15].
حينما يتجه الداعية إلى الله تعالى بموعظته إلى العلماء؛ ليصل بهم إلى طريق الحق، فإن الحجة قد قامت عليهم، ويعذر الدعاة، وتبرأ ذمتهم بذلك، وهذا هو المنهج الدعوي الذي سار عليه الأنبياء، والرسل - عليهم الصلاة والسلام - في دعوتهم لقومهم.
 
ولا يغيب عن ذهن الداعية أن مهمته بيان الحق، وتوضيحه، والدلالة عليه، والإرشاد إليه، وأما ما ينتج من قبول الموعوظين لموعظته، أو رفضها، فالأمر بيد الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 272][16].
يقول الله تعالى مخاطباً رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - (ليس عليك هداهم)، أي لا يجب عليك أن تهدي الناس، لا يمكنك ذلك.
﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ هو الذي يهدي - عز وجل -، ويوفق من يشاء، وكلما جاءتك آية فيها تعليق الحُكم بالمشيئة، فاعلم أن ذلك مبني على الحكمة؛ لأن الله تعالى لا يشاء الشيء سَفَهاً، بل هو - عز وجل - لا يشاء إلا ما هو غاية الحكمة[17].
 
وقال الله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56] [18].
أي هو أعلم بمن يستحق الهداية، ممن يستحق الغواية[19].
فالدعاة حين يقومون بواجب الدعوة إلى الله تعالى، إنما يقيمون الحجة لله تعالى على الموعوظين، ويعذرون أنفسهم من الله تعالى، وبعد ذلك يرجون هدايتهم قدر المستطاع.
وأما هداية الموعوظين بقبول ذلك، فهو تفضل من الله تعالى على العبد، يؤتيه من يشاء، إن شاء أنعم به عليه، وإن شاء منعه منها، لحكمة يعلمها هو تبارك وتعالى.



[1] سورة النحل، آية: 125.


[2] سورة فصلت، آية: 33.


[3] مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، ابن القيم الزرعي، 1 /153.


[4] سورة النساء، آية: 63.


[5] رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني اسرائيل، 3 / 1275، رقم الحديث (3274).


[6] انظر تخريجه ص.


[7] سورة آل عمرا ن، آية: 104.


[8] انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، السعدي، ص:140.


[9] سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71.


[10] رواه مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، 4 /2060، رقم الحديث (2674).


[11] عون المعبود شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم آبادي، 12 /236، ط2، ط 1995م، دار الكتب العلمية، بيروت.


[12] غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي، تحقيق:محمد عبد العزيز الخالدي، 1/37، ط2، 1423هـ/2002م، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.


[13] سورة الأعراف، آية: 164.


[14] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، السعدي، ص:337.


[15] سورة النساء، آية: 165.


[16] سورة البقرة، آية: 272.


[17] أحكام من القرآن الكريم، محمد بن صالح العثيمين، 2 /300، ط 1425هـ، مدار الوطن للنشر، الرياض.


[18] سورة القصص، آية: 56.


[19] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير الدمشقي، 3 /395.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢